السبت، 15 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 17- المشركون والدولة الإسلامية-4


التضييق الاقتصادي من قريش على المدينة المنورة
وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك


رأينا التعامل مع بعض الرموز المشركة في داخل المدينة المنورة، ورأينا الحرب النفسية على المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة، وذلك لما قطع أبو جهل علاقاته مع سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، رأينا تغيير القوانين والتنكر للأعراف ونكث العهود، ومنع المسلمين من الوصول إلى مكة ظلماً وقهراً، هل اكتفت قريش بهذا كله؟ لا، لم تكتف بذلك، بل بدأت في تنفيذ خطوة أخرى، وهي عملية التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة، وذلك بالتأثير على القبائل التي حول المدينة والمنورة، وبالاتصال أيضاً باليهود الذين يعيشون في داخل المدينة المنورة؛ لمنعهم من التعامل مع المسلمين.


استغلت قريش ما لها من نفوذ وعلاقات بالقبائل المختلفة؛ لتحاصر المسلمين وتضيق عليهم، لكن هذه الوسيلة مع خطورتها لم يكن لها التأثير الكافي على الدولة الإسلامية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة قد عمل في حسابه أنه سيقابل مثل هذه المعضلة، وهي معضلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة المنورة؛


لذلك خطط النبي صلى الله عليه وسلم تخطيطاً في غاية الإبهار للخروج من الأزمة الاقتصادية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلامية أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف أبنائها، والاقتصاد المسلم إذا كان معتمداً على الآخرين فإنه سيصبح اقتصاداً هشاً ضعيفاً لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على يهود؟ والموقف عند هجرة المسلمين للمدينة المنورة كان صعباً جداً، والمدينة لم تكن فقيرة فقط، بل إن اقتصادها إلى درجة كبيرة جداً كان في يد اليهود، فسوق المدينة الرئيس هو سوق بني قينقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، والتجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، حتى إن كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق، والأخطر من التجارة والسوق والمال هو الماء، والماء كان أيضاً في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الأبيار التي يمتلكها اليهود، وأشهر هذه الأبيار بئر رومة المشهور.


فماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟ وماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين ومنعوا ماءهم عن المسلمين؟ لا شك أن هذا موقف لا يحسد عليه أحد؛ لذلك خطط الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمنتهى المهارة والدقة، سطر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلامي.


والتفصيل لهذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل إن شاء الله في محاضرتين خاصتين: الأولى: الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج من الأزمة الاقتصادية،

والثانية: الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاج مشكلة الفقر.

لكن الآن سنوجز بعض العناوين المهمة في الخروج من الأزمة الاقتصادية.


أولاً: حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على توفير الماء المملوك للدولة الإسلامية، فالماء سلعة إستراتيجية، ولن تقوم دولة بلا ماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، كان بئر رومة ملكاً ليهود، فابتاعها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ابتعتها بكذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك، فقال: اللهم نعم).


إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه اقتصادي إسلامي كبير، وجه جهده كله لشراء ما ينفع الأمة ويفيدها بدلاً من التجارة في شيء من الرفاهيات أو الكماليات، وهذا كان بتوجيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، يوجهه لشراء السلع الإستراتيجية، ومن هذه السلع الإستراتيجية الماء، وقد تكون هذه السلعة شيئاً آخر، قد تكون بترولاً أو قمحاً أو قطناً أو طاقةً نووية حسب الظروف.


هناك أمر في غاية الأهمية وهو أهمية التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً دنيوياً يعوض به عثمان بن عفان عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه ذلك الماء لأنهم فقراء؛ لذلك فإنه حفزه بما في الآخرة، قال له: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، وفي رواية: (وله الجنة) ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يقينياً في الله عز وجل وفي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وفي الجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون عائد دنيوي، ولم يكن لهذه المشكلة أبداً أن تحل دون تطوع من اقتصادي مسلم غني يرغب في ثواب الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن فيه مال.


لذلك كخطوة أولى قبل بناء الدولة لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود، الذين ستبنى على أكتافهم هذه الدولة، وبهذه الخطوة الجبارة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لأمته.


ثانياً: الاستقلالية عن سوق اليهود، وإنشاء السوق الإسلامي الحر المعتمد على نفسه. فالرسول عليه الصلاة والسلام علم أن الدولة الإسلامية لا يمكن لها أن تقوم في المدينة ما دامت تعتمد على سوق بني قينقاع اليهودي؛ لذلك أمر الصحابة من أول يوم أن يبحثوا عن مكان مناسب في المدينة المنورة؛ ليصبح سوقاً للمسلمين يتحكم في تجارته المسلمون، ويدار على شرع المسلمين وقانونهم. واجتهد الصحابة رضي الله عنهم في البحث عن مكان مناسب، ذهبوا هنا وهناك وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى أكثر من موضع، ولم يعجبه في البداية المواضع المختارة، إلى أن رأى موضعاً يصلح من حيث المساحة والموقع.

قال: (هذا سوقكم).


روى الطبراني و ابن ماجه رحمهما الله عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي! إني قد رأيت موضعاً للسوق أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى.


فقام صلى الله عليه وسلم معه حتى جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركضه برجله، وقال: نعم، هذا سوقكم فلا ينتقصن) أي: لا ينتقصن من قيمة هذا السوق ولا من أرضه. قال: (ولا يضربن عليه بخراج) أي: لا يصح للحاكم أن يضع قيوداً أو ضرائب على من يريد أن يتاجر في هذا السوق من المسلمين؛ حتى يشجع التجارة الإسلامية في هذا السوق، وسبحان الله! نجد عكس الكلام هذا الفعل في كثير من البلدان الإسلامية، تجد قيوداً على رءوس المال الوطني، وتجد تسهيلات لرءوس المال الأجنبي، فتنتشر رءوس المال الأجنبية وأحياناً المعادية في بلاد المسلمين، وتنعش التجارة نسبياً فترة من الزمن لكن بصفة مؤقتة، ثم يصبح السوق بعد ذلك معتمداً عليها، وبالتالي تصبح القرارات الإستراتيجية الخطيرة في الاقتصاد والسياسة بيد هذه الشركات الأجنبية.


فالرسول صلى الله عليه وسلم كان كيساً فطناً، فمن أول يوم أنشأ سوقاً إسلامياً خالصاً، وبدأ المسلمون يهجرون سوق بني قينقاع، ويتعاملون مع السوق الإسلامي، فكانت مقاطعة محمودة، وهذه المقاطعة لم تكن سلبية، بل كانت إيجابية، إيجابية بإنشاء السوق البديل، إيجابية بإنشاء البضائع الموازية لبضائع اليهود وغيرهم، ولا شك أن السوق الإسلامية في أولها كانت ضعيفة عن السوق اليهودي، لكن مع مرور الوقت قويت شوكة الاقتصاد الإسلامي، ووقف على أقدامه معتمداً على نفسه.


هذا الاهتمام من الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن فقط في أول الدعوة، ولم يكن أمراً لحظياً عابراً في حياته صلى الله عليه وسلم، بل ظل طيلة عمره صلى الله عليه وسلم يحفز الناس على إقامة اقتصاد إسلامي قوي، سواء لهم كأفراد أو للأمة الإسلامية كأمة، حفز على التجارة والزراعة والصناعة، وعلى أي عمل مهما كان بسيطاً، وربط كل هذا بالأجر والثواب عند الله عز وجل، وربطه أيضاً بعزة المسلم والأمة في الدنيا، وأتبع كل ذلك بالتشريعات والقوانين التي تكفل سهولة ودقة التعامل الاقتصادي، وتحفظ للجميع حقوقهم، وتعرفهم بما لهم وما عليهم، وهذا أيضاً عرف المسلمين أن الفساد بكل صوره حرام، وحرم الرشوة والسرقة والاختلاس والإسراف والتهرب من الزكاة، وبهذا حفظ للدولة مالها وحقوقها، وحفظ كذلك للشعب ماله وحقه، وظهرت البركة في المال القليل.


ومع أن المسلمين كانوا فقراء جداً في أول عهد المدينة المنورة، لكن المال زاد وتحسن الاقتصاد، وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح، بفضل الله عز وجل وبفضل التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال تعالى: (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ )) [الأعراف:96] هذه البركات رأيناها في المدينة المنورة.


إذاً: هذه النظرة الاقتصادية الثاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضيعت على قريش فرصة محاربة المسلمين اقتصادياً، وضيعت عليهم التحالفات التي كانوا يعقدونها مع اليهود وغيرهم، وخرج المسلمون فعلاً من عنق الزجاجة، وباتوا يعتمدون على أنفسهم في حياتهم، ومن لا يملك قوته لا يملك رأيه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق