الأحد، 16 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 20- أهل بدر-8


صفة الحزم وعدم التردد


الصفة الرابعة: صفة الحسم وعدم التردد.
إن مرحلة الشورى هي مرحلة تداول الرأي، فإن استقر المسلمون على رأي فلابد من الحسم في تنفيذه؛ لأن التردد والتسويف يضعف الهمة ويزيد من جرأة العدو ويفتح أبواباً للشيطان، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، فمع خطورة الموقف وقلة إعداد المسلمين وقوة الجيش الكافر إلا أن المسلمين أقدموا دون أي تردد.


رأينا في الجيش الكافر تردد أمية بن خلف في الخروج، ورأينا انسحاب الأخنس بن شريق، ورأينا رفض الجميع للقتال ودفع أبي جهل لهم، ورأينا خوفهم من الخروج في البداية، وتمثل الشيطان لهم في شكل سراقة بن مالك بن جعشم، رأينا كل ذلك.


ولا زلنا سنرى تردداً آخر، فأهل الباطل في تخبط دائم، فقد كان عتبة بن ربيعة رافضاً للقتال تماماً، وهو من قادات مكة، وقف يقول للقوم: يا قوم! أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه.


يعني: سندخل في معركة، ويقتل بعضكم بعض المسلمين، وهم إخوانكم وآباؤكم وأبناؤكم، فالمشرك سيقول للمشرك الآخر: نعم.
أنت من قتلت أبي في موقعة بدر.
ثم أبدى النصيحة وقال: فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا.


هذه نصيحة واحد من قادة مكة في أرض المعركة، غضب أبو جهل غضباً شديداً وقال: انتفخ والله سحره. السحر: هو الرئة، وهذه علامة على الجبن، ثم قال أبو جهل: إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا.

يعني: العرب كانوا يقدرون أكلة الجزور بمائة رجل، ورد عتبة على أبي جهل، لكن لنتذكر أولاً رد سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فأمرنا تبع لأمرك).


سبحان الله! تجرد كامل لله عز وجل، ليس له أي مصلحة في الموقعة من مصالح الدنيا، لكن انظر إلى المشاكل التي كانت موجودة بين المشركين في أرض المعركة، فهذا عتبة أحد القادة مع أبي جهل في صراع أمام كل الجيش، وهذا يؤثر سلباً على نفسية الجيش.

قال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، وهكذا بدءوا يدخلون في الملاسنات والمعركة لم تبدأ بعد، ثم قال عتبة بن ربيعة قولاً يعبر عن رعبه الداخلي: أما والله إني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً.


سبحان الله! المسلمون 300 مقاتل والكفار 1000 مقاتل ومع ذلك يقول: أما والله إني لأرى قوماً -يعني: المسلمين- يضربونكم ضرباً، أما ترون رءوسهم كالأفاعي وكأن وجوههم السيوف! هذه هي نفسية من يحاربون الإسلام، جاء حكيم بن حزام حينها وكان مشركاً وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه، جاء إلى عتبة بن ربيعة يقول له: يا أبا الوليد! هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت، قال: ماذا أفعل؟ قال: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي -يقصد الذي قتل في سرية نخلة- وهو حليفك فتحمل ديته وترجع بالناس،


يعني: إذا كانت المشكلة في دية ابن الحضرمي فادفعها أنت لعائلته وارجع بالناس، فقال عتبة بن ربيعة: أنت وذاك، واذهب إلى ابن الحنظلية -يعني: أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك، يقرب له نسب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، أي: قريبك في الرحم، لعله يرجع، فانظر إلى حجم التشجيع، فذهب حكيم إلى أبي جهل وقال له ذلك، فرد أبو جهل: أما وجد رسولاً غيرك.




هذا أبو جهل يكلم أحد أشراف مكة حكيم بن حزام، لكن كان جوابه بمنتهى الغرور.
قال له: أما وجد رسولاً غيرك، قال: لا، لم يجد غيري، ولم أكن لأكون رسولاً لغيري.
أي: أنا رسول لواحد من أشراف مكة أيضاً عتبة بن ربيعة، ومع ذلك رفض أبو جهل وأصر على القتال, وتصرفه يعبر عن ديكتاتورية مطلقة.


ذهب عمير بن وهب الجمحي وذلك قبل أن يسلم ليقدر أعداد المسلمين، فعاد إلى قريش وقدر العدد بثلاثمائة أو نحو ذلك، ومع أن جيش المسلمين ثلث جيش الكفار إلا أن عمير بن وهب قال: ولكني قد رأيت يا معشر قريش! البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، ووالله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم.


فانظر إلى حجم التردد الذي يعيشه أهل الباطل، فكيف سيقاتلون مثل هؤلاء؟! لكن كل من يحارب الإسلام تكون هذه حالته.
إذاً: الجيش المسلم عكس الجيش الكافر تماماً، الجيش المسلم جيش مؤمن بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا يعمل إلا لله عز وجل، متفائل وعنده يقين كامل في نصر رب العالمين سبحانه وتعالى، حاسم غير متردد، ويعمل بالشورى في كل قضاياه، إلا إذا كان هناك أمر من الله أو رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فلا شورى فيه، فهذا جيش لابد أن ينتصر، وليست الروح العالية التي رأيناها في موقف أبي بكر و عمر و المقداد و سعد بن معاذ : أن كل الجيش كان كذلك، بل كان هناك بعض المؤمنين خائفين من جيش مكة، ليس ضعفاً في اليقين، ولكن لإحساسهم أنهم لم يخرجوا بالاستعداد الكامل، وأنه كان من الممكن أن يعدوا إعداداً أفضل من ذلك فهناك أعداداً كبيرة من المسلمين في المدينة، لو عرفوا أن هناك جهاداً لخرجوا مع المسلمين، فكانوا يقولون: يا ليتنا نقاتل القافلة ولا نقاتل الجيش.


الخلاصة: أنهم كرهوا الحرب، وتمنوا أنه لو كان هناك حرب مع القافلة فقط، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في كتابه الكريم، قال: (( وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:5-7]، القافلة أو الجيش وَتَوَدُّونَ [الأنفال:7]، الذي تتمنونه في قلوبكم، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ )) [الأنفال:7] أي: القافلة.


هل هذا الشعور الذي كان عند بعض المسلمين شعور سيئ؟ هل هذا شعور خطير؟ أبداً ليس معنى الإيمان بالله: عدم الخوف أبداً، لكن المطلوب من المؤمن ألا يؤثر هذا الخوف على طاعته لله عز وجل، وعلى طاعته لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يقوده الخوف إلى مخالفة شرعية، وهذا فارق كبير جداً بين بدر وأحد، ففي بدر خوف المؤمنين لم يدفعهم إلى المخالفة، وفي أحد خوف المؤمنين دفعهم ليس إلى مخالفة واحدة، بل إلى مخالفات كما سنرى بعد ذلك إن شاء الله.


الشيء المهم الذي نريد أن نلفت النظر إليه: أن الجيش يكون فيه عدد من عمالقة الإيمان الذين يستطيعون أن يحركوا الخير الموجود في داخل قلوب عموم المؤمنين، هذا الأمر سنعرفه بالتفصيل في غزوة تبوك لكن بإيجاز، فالناس عموماً فيهم خير كثير، لكن يحتاجون إلى من يحركهم، وليس من الضرورة أن يكون الجيش بكامله أبا بكر و عمر ، ولكن من الضروري أن يكون في الجيش أمثال أبي بكر و عمر ، وكل ما درسناه سابقاً عن غزوة بدر كان في يوم الخميس في (16) من رمضان سنة (2) هجرية، واليوم الثاني سيكون يوم الجمعة 17 من رمضان سنة 2 هجرية، وهو يوم بدر أعظم أيام الإسلام، بل من أعظم أيام الدنيا هذا اليوم.


سنعرف إن شاء الله صفات أخرى للجيش المنصور، وسنعرف كيف يتم النصر، وسنعرف سنناً كثيرة للحرب بين الحق والباطل.
هذا حديث قد يطول؛ فنؤجله للدرس القادم. وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق