الثلاثاء، 23 أبريل 2013

ماذا تحب من الدنيا ؟



جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم وسألهم مبتدأ بأبي بكر ماذا تحب من الدنيا ؟ 

فقال أبي بكر ( رضي الله عنه) أحب من الدنيا ثلاث:

الجلوس بين يديك – والنظر إليك – وإنفاق مالي عليك

وأنت يا عمر ؟
قال أحب ثلاث :

أمر بالمعروف ولو كان سرا – ونهي عن المنكر ولو كان جهرا – وقول الحق ولو كان مرا

وأنت يا عثمان ؟
قال أحب ثلاث :

إطعام الطعام – وإفشاء السلام – والصلاة بالليل والناس نيام

وانت يا علي ؟
قال احب ثلاث :

اكرام الضيف – الصوم بالصيف - وضرب العدو بالسيف

ثم سأل أبا ذر الغفاري :
وأنت يا أبا ذر : ماذا تحب في الدنيا ؟
قال أبو ذر :أحب في الدنيا ثلاث :

الجوع؛ المرض؛ والموت

فقال ! له النبي (صلى الله عليه وسلم): ولم؟
فقال أبو ذر

أحب الجوع ليرق قلبي؛ وأحب المرض ليخف ذنبي؛ وأحب الموت لألقى ربي

فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) حبب إلى من دنياكم ثلاث :
الطيب؛ والنساء؛ وجعلت قرة عيني في الصلاة

وحينئذ تنزل جبريل عليه السلام وأقرأهم السلام
وقال: وانأ أحب من دنياكم ثلاث :
تبليغ الرسالة؛ وأداء الأمانة؛ وحب المساكين؛

ثم صعد إلى السماء وتنزل مرة أخرى
وقال : الله عز وجل يقرؤكم السلام ويقول : انه يحب من دنياكم ثلاث:
لساناً ذاكراً ؛
و قلباً خاشعاً ؛
و جسداً على البلاءِ صابراً


سبحان الله وبحمده ،،، سبحان الله العظيم

هذه الرسالة تستحق أن ترسلها لغيرك كما أنها تستحق أن تبقى في صندوق رسائلك تقرأها من حين لآخر
دعواتكم لجميع المسلمين بالتوفيق والسداد




معلومات هامة عن القطط

معلومات تثير الإهتمام:

- عاش القط مع البشر لقرابة 3500 سنة ، حينما استخدمه قدماء المصريين لحماية القمح من الفئران و القوارض.
- القط من أكثر الحيوانات المنزلية شعبيةً حول العالم.
- يمكن للقط أن يزيد وزنه كثيراً ، و قد يصل إلى 23 كيلوجرام أو أكثر، و هو أمرٌ غير صحي له ، لذلك يجب تنظيم أكله و ملاعبته ليجري حول المنزل.


- عندما يغضب القط أو يخاف ، ترجع أذناه للخلف.
- إذا انتبه لصوتٍ ما ، فإن اتجاه أذنيه يتبع الصوت.
- يوفر القط طاقته بالنوم الكثير.
- للقط نظرٌ ممتاز و يرى جيداً في الضوء و بعض الظلام ، و إذا كان الظلام حالكاً (حتى للقط) فإنه يستخدم شارباه لمعرفة التغيرات الطفيفة في اتجاه الهواء فيعرف عن الأجسام التي حوله حتى لو لم يرها.


- القط حيوانٌ نظيف جداً ، و يستحم بأن يلعق نفسه ، و قد يلفظ كراتاً من الشعر من آنٍ لآخر بسبب الشعر الداخل إلى معدته. الكثير من القطط تستمتع بتنظيف غيرها من القطط بل حتى البشر.


- القطط (كبقية الفصيلة) من أفضل الحيوانات في الصيد ، هذا إذا لم تكن الأفضل على الإطلاق .
- بسبب حجمها ، فإن القطة لا تشكل أي خطر على البشر ، إلا في حالات العدوى.
- عكس الإعتقاد الشائع ، فإن حليب البقر غذاء غير صالح للقط ، لأنه صعب الهضم.


- يموء القط إذا شعر بالألم ، و قد يعني مواؤه مجرد التحية ("كيف الحال؟") ، و كذلك للفت انتباه البشر (ليغذّوه أو ليلعبوا معه).
- عند دعك القط بشكلٍ سليم ، فإنه يخرج من رئته صوت خرير ، معبراً عن سعادته. صوت الخرير هذا هو كالإبتسامة



الرجل الصفر

من الناس من يعيش
حياة مديدة ويمر بأحوال
سعيدة ولكن محصلة حياته
تكون صفراً . ومن الناس من يعيش
حياة قصيرة ويمر بأحوال عسيرة لكن
محصلة حياته تشكل رقماً كبيراً في عداد
الرجال . فالأول يعيش على هامش الحياة لا يهتم
إلا بنفسه ولا يكترث بمصالح الناس ولا يلقي بالاً للمصلحة
العامة فيموت دون أن يدري به أحد لأن موته لا يغير شيئا
في حياة الناس ولا ينقص الكون محسنا ًبفقده ولا يخسر مصلحاً
بموته فيخرج من الدنيا غير مأسوف عليه .والثاني يعيش الحياة بكل
معانيها ويقدم مصلحة الناس على مصلحته ويكثر من الإحسان إلى الناس
ويكون عضواً فاعلاً ونافعاً في المجتمع . فإن مات فإن السماء تهتز لفقده
والأرض تحزن لفراقه ومكان سجوده وصلاته يبكي عليه والناس تتفقد إحسانه
وتحن إليه كما حدث عند وفاة زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما وكان
في حياته يتهم بالبخل وفي الليلة التي مات فيها قام شخص من الفقراء ينتظر من
يأتيه بالطعام كل يوم فلم يأته ففتح الباب ليجد جاره فاتحاً بابه أيضاً فسأل
جاره عن سبب فتحه بابه في ذلك الوقت فأخبره بأنه ينتظر محسناً يأتيه
بالطعام كل يوم فأخبره بأنه هو أيضا ينتظر لنفس السبب ولكن المحسن
لم يحضر وفي اليوم التالي عرف الناس أن زين العابدين قد انتقل إلى
رحمة الله وعرفوا أنه هو المحسن الذي كان يأتيهم بالطعام وكان
لا يدري به أحد إلا الله . لذلك كان رقما كبيراً في تاريخ الإنسانية
وسجل الرجال . والكثير ممن هم أغنى منه عاشوا وماتوا قبله
وبعده ولم يدر أحد بحياتهم ولا بوفاتهم لأنهم كانوا أصفاراً
على يسار رقم الحياة . فلنحاول أن لا نكون صفراً ولنعلم
أن الرقم الذي يمثلنا يكبر كلما كبر تدرجة إحساننا إلى
الناس ونحتل مكاناً في الوجود مساحته تعادل مساحة
نفعنا لخلق الله وتعاوننا مع الآخرين في سبيل المصلحة
الوطنية والإنسانية وشعورنا بالمسؤولية الملقاة على
عاتقنا وكلما زاد هذا الشعور زادت معه قيمة الإنسان
ولكن هل تدرون من هو أسوء من الشخص
الصفر ؟ إنه الرقم السلبي الذي لا يسلم الناس من شره
وأذاه فذلك الذي يقال عند وفاته : الحمد لله . فلا تكن
كذلك وحاول أن تكون ممن يقال عند وفاتهم : لا حول ولا قوة إلا بالله فقدنا فلان .






سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-10


الملامح العامة لبناء الأمة في الفترة المكية


تمت مرحلة هامة من مراحل السيرة النبوية بالهجرة إلى المدينة، تمت المرحلة المكية بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها، مرحلة ذات طابع خاص بدأ الإسلام فيها غريباً، واستمر غريباً إلى قرب نهايتها إلى أن آمن الأنصار.

كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة؛ لا يؤمنون إلا بالله عز وجل، لا يتوجهون بالعبادة لأحد سواه، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته؛ إنه إيمان عميق برب العالمين سبحانه وتعالى، واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون، وسيقوم فيه الناس لرب العالمين، يحاسبون على ما يعملون، لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، وإنها -والله- إما جنة أبداً أو نار أبداً.

وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة أيضاً الأخلاق الحميدة؛ هذبت نفوسهم تماماً، ارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.

وبالإضافة إلى العقيدة والأخلاق عرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب مليء بالابتلاءات والاختبارات، ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر، والله عز وجل يراقب العباد، يراقبهم في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يستثنى من هذا الاختبار أحد (يبتلى المرء على قدر دينه).

ومع كون هذه المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء والتعذيب سواء على الروح أو الجسد، إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، لكن ليست السعادة المادية الحسية التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، لا، إنما هي سعادة الروح والقلب، سعادة الطاعة لله عز وجل، سعادة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سعادة الصلاة ومناجاة الله عز وجل، سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين، سعادة الدعوة إلى الله عز وجل، سعادة كبيرة عندما ترى شخصاً كان يسجد لصنم، حياته تافهة حقيرة لا تساوي شيئاً، وفجأة تحول إلى عملاق من عمالقة الأرض، أي عقل وأي حكمة وأي شجاعة وأي أخلاق! سعادة عظيمة فعلاً، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا، سواء كانت فتناً في الجسد أو الهجرة أو الإغراءات بالمال أو بالسلطة أو بالنساء أو غيرها من الفتن.
والثبات أمام الفتن لا شك أنه يزرع سعادة في قلوب المؤمنين.

لقد كانت الفترة المكية بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل، من المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك دون المرور على فترة مكة، من المستحيل أن تبني أمة صالحة، أو تنشئ دولة قوية، أو تخوض جهاداً ناجحاً، أو تثبت في ميادين القتال والنزال، أو تقف بصلابة أمام فتن الدنيا المختلفة، من المستحيل أن تفعل كل ذلك إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها.

على الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق، عليهم أن يقفوا أمام كل حدث، قصر وقته أو صغر حجمه، لابد أن يقفوا أمامه وقوفاً طويلاً طويلاً، هنا البداية التي لابد أن نبدأ منها، بغير مكة لن تكون هناك المدينة، وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار، وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين.

كانت هذه هي فترة مكة الجميلة؛ لأنها تحكي قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازالت لنا جولات مع فترة جميلة أيضاً من فترات حياة رسول صلى الله عليه وسلم، تلك هي فترة المدينة المنورة.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



الخميس، 11 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-9


دروس من الهجرة النبوية


دروس الهجرة لا تحصى ولا تعد، لكننا سنختار بعضاً منها، وبالذات الدروس التي لها علاقة ببناء الأمة الإسلامية.
الدرس الأول: الأخذ بالأسباب، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، لكن نلاحظ كذلك أنه مع هذا الإعداد العظيم إلا أنه حدثت بعض الثغرات في الخطة، وهذا شيء خارج عن حدود البشر؛ إذ الكمال لله وحده.



منها: أن المشركين حاصروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، مع أن التخطيط أنه يخرج قبل الحصار، لكنهم أتوا قبل موعدهم الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن أحد المشركين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما خرج، وقال لزعماء مكة: لقد خرج عليكم محمد.
أيضاً: المشركون وصلوا إلى غار ثور مع كل الاحتياطات التي أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراقة لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق.
فمثل هذه الثغرات لابد أن تحصل، لكن المهم أنك بذلت الوسع في الإعداد، وكذلك لو أنك بذلت الاستطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يكمل العجز البشري، مثل ما حدث للكفار وحصل لهم عمى مؤقت أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يدخلوا الغار بعدما وصلوا إلى بابه، وخيل سراقة لا تستطيع المشي في الرمال، أشياء لم تكن في الحسبان، فالله عز وجل يعطيك هدية لو أنك بذلت وسعك.


الدرس الثاني: لم يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك رب الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك بعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بيقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وظهر أيضاً في أنه لم يكن يكثر الالتفات في طريقه، فهو مطمئن إلى أن الله عز وجل سينصر رسله والذين آمنوا، ومن غير هذا اليقين لا أعتقد أن بناء الأمة سيحصل، أو أن أي نصر ممكن أن يتحقق، لابد من يقين بنصر الله عز وجل.


الدرس الثالث: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، حتى في هذه الظروف يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى).


الدرس الرابع: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الناس تحتاج إلى صحبة، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبحث عن الصحبة الصالحة.


الدرس الخامس: وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطاردون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ربنا سبحانه وتعالى ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق الذي نقله قبل ذلك في لحظة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، لكن أين القدوة في ذلك؟ لابد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولابد أن يسير في هذا الطريق رسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب؛ ليعطي قدوة لكل قائد.


الدرس السادس: رأينا كيف أن الدعوة في دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثل النفس عند عموم البشر، لا يضيع فرصة، لا يرتبط بظرف، يدعو كل من يستطيع، رأيناه كيف دعا إلى الإسلام بريدة وأصحابه من قبيلة أسلم، لم يكن همه الهروب حتى يصل إلى المدينة، بل اعتبر أن الله عز وجل قد ساق إليه هذا الرجل وقومه هدية من الله عز وجل، فكيف يضيع فرصة مثل هذه، دعا بريدة وأسلم بريدة، وتغير حال بريدة وقبيلة أسلم كلها بعد هذا الإسلام، فانظروا إلى فضل الدعوة.


الدرس السابع: رأينا في هذه الرحلة استعداد الصديق رضي الله عنه وأرضاه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، القضية في منتهى الوضوح عند الصديق، أهم شيء في حياة الصديق رضي الله عنه هو أن يرضي الله عز وجل، وأن يرضي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يطلبه الله عز وجل في مكان فلا يجده، ليس هناك في حياته مكان لكلمة الظروف، كان يعتذر لكل ظرف يطرأ على حياته؛ يعتذر بأن عنده ظرفاً أعظم، فما هو هذا الظرف؟ هو العمل لله عز وجل، والبذل والتضحية والجهاد في سبيل الله عز وجل.


الدرس الثامن: رأينا شدة محبة الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا كيف أنه لا ينتظر أمراً ولا طلباً، إنما يجتهد هو في إتقان حبه لرسول صلى الله عليه وسلم؛ يجهز له الراحلة، يبكي من الفرح لصحبته، ينظف له الغار، يسير أمامه وخلفه حماية له، وغير ذلك من المواقف التي ذكرنا بعضها ولم نذكر أكثرها. حب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من فضائل الأعمال فحسب، بل هو من الواجبات، ومن قدم حباً على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خطر عظيم.


الدرس التاسع: رأينا بذل الصديق وعطاء الصديق ، أخذ معه في الرحلة (5000) درهم، وهي كل ما يمتلك من غير الراحلتين، وقبل ذلك أنفق (35000) ألف درهم في سبيل الله، وسيظل ينفق في المدينة، وسيظل ينفق وهو خليفة، وسيظل ينفق وهو على فراش الموت، هذا هو الصديق، من أجل ذلك يقول الله عز وجل: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 17 : 21 ) .


الدرس العاشر: وهو شيء مهم لفت الأنظار في قصة الهجرة، ولابد أن نقف معه وقفة، أترون كيف استعمل الصديق عائلته بالكامل في سبيل الله؛ عبد الله ينقل الأخبار، وأسماء تنقل الطعام والشراب، وعامر بن فهيرة يخفي آثار الأقدام، إن الصديق استطاع أن ينقل حبه للدعوة لكل عائلته، بعض الدعاة للأسف الشديد يعانون من مرض العزلة عن عائلتهم، تراهم في منتهى النشاط خارج البيت، ثم لا يشركون أقرب الأقربين إليهم في العمل لله عز وجل، هذا غياب كبير للفهم، وضياع هائل للأولويات، نريد أن نتعلمه من الصديق ، وتذكروا : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) .



الأربعاء، 10 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-8



مطاردة سراقة بن مالك للرسول صلى الله عليه وسلم
ومن معه أثناء الهجرة



رأى بعض المشركين القافلة وجاءوا إلى مكة يخبرونهم الخبر، فلعل الركب هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسمعهم سراقة بن مالك، وكان سراقة بن مالك يفكر في المائة الناقة التي هي لكل واحد من الاثنين، فخدع الناس، وقال لهم: هذا فلان وفلان أعرفهما، ومباشرة جهز فرسه وسلاحه وانطلق ليفوز بالجائزة الكبرى، واستطاع أن يصل إليهم، واقترب منهم، حتى إنه كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن،


وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت -كما يقول سراقة كما جاء في البخاري - وأبو بكر يكثر الالتفات من خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما اقترب منهم حدثت المعجزة وبدأت الفرس تسيخ في الأرض مرة وثانية وثالثة، وعلم سراقة أن هناك شيئاً غريباً، يقول: فأدركت أن القوم ممنوعون.


فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وذكر لهم أمر المكافأة التي جعلتها قريش فيهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخف عنا)، وبعد ذلك قال له شيء في منتهى الغرابة، قال: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى)، في هذا الموقف الصعب الذي يطارد فيه من أهل الأرض يبشر سراقة بانهيار عرش كسرى، وأنه سيأتي يوم يأخذ فيه المسلمون سواري كسرى غنيمة، وفي ذلك الوقت سراقة هو الذي سيأخذ هذين السوارين، وسراقة كان يصدق بهذا تماماً، إلى درجة أنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً بهذا الأمر، حتى إذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا الشيء فسيكون معه الدليل الذي يأخذ به السوارين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتاباً، فكتب له على رقة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق.


كان أول اليوم جاهداً في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي آخر اليوم كان مدافعاً عنه، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، والغريب أيضاً أن سراقة مع إحساسه بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يسلم إلا بعد فتح مكة وحنين، ومرت الأيام وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب وفيها سواري كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمه لـ عمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].


خروج بريدة بن الحصيب ومن معه
لمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة



لم تحصل مشاكل أخرى في الطريق إلا قبل المدينة المنورة، فقد فوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم برجل اسمه بريدة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، وقد خرج له في (70) من قومه، يريد المكافأة، ومع خطورة الموقف إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفقد أعصابه مطلقاً، بل بدأ يعرض الإسلام على بريدة وعلى قومه، وسبحان مقلب القلوب!


وقعت كلمات الله عز وجل في قلب بريدة وأصحابه، فآمنوا جميعاً في لحظة واحدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث سنين في مكة من أجل أن يأتي بهذا العدد (70)، وفي لحظة واحدة يؤمنون، الله عز وجل يخبرنا أن القلوب بيديه هو سبحانه وتعالى، يستطيع أن ينصرك في الوقت الذي يريده، لكن المهم أنك تعمل كما كان يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم.


هناك أحداث أخرى كثيرة وهامة وعظيمة ولطيفة في الهجرة، لكن المقام لا يتسع لها، وقد ذكرنا كثيراً من ذلك في محاضرات: الصديق الصاحب والخليل، فلا داعي للتكرار.

وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالماً، وكان ذلك في يوم (12) من ربيع الأول سنة (14) من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة وهامة في الدعوة الإسلامية، وهي مرحلة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-7


جهود قريش في البحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد خروجهما من مكة مهاجرين

اكتشف زعماء مكة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا حالة الطوارئ القصوى في مكة، وأخذوا مجموعة من القرارات: 
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مختف في بيته، أو أن الصديق يعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه، أخذ معه فرقة وذهب إلى بيت الصديق، وظل يطرق الباب بعنف، ففتحت له السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها: أين أبوك يا ابنة أبي بكر، قالت في هدوء: لا أدري، فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى طار قرطها.

هذا تجاوز كبير في أعراف مكة، أن رجلاً يضرب امرأة بهذه الصورة، ومع كل هذا التجاوز إلا أن أبا جهل لم يفكر أن يدخل البيت ويقلبه رأساً على عقب، لم يفكر أن يدخل يبحث على أي دليل، مع خطورة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولماذا لم يدخل؟ تذكروا أن زعماء مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في بيت الصديق؛ لذا يجوز أن يكون في بيت آخر من بيوت أصحابه، من أجل ذلك أخذوا القرار الثاني.

القرار الثاني: إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فإذا كان ما زال داخل مكة أمسكوا به وهو خارج منها.

القرار الثالث: مطلوب حياً أو ميتاً، إعلان عن جائزة كبرى لمن يأتي برسول صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، والجائزة مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن، ميزانيات ضخمة تنفق لصد الدعوة، ولوقف الدعوة إلى الله عز وجل.

القرار الرابع: المطاردة، استخدام قصاص الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام لرسول صلى الله عليه وسلم، استخدموا قصاص الأثر في كل الطرق الخارجة من مكة، وفي الحقيقة أن الكفار كانوا في منتهى الذكاء؛ درسوا كل المخارج بما فيها المخارج الجنوبية البعيدة عن طريق المدينة، ومع كل طرق التأمين التي كانت في خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كون الخطة بارعة، إلا أنه ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، فلابد من وجود ثغرات؛ لذا اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي بداخله غار ثور، وصعدوا الجبل ووصلوا إلى باب غار ثور، ولم يبق لهم إلا أن ينظروا إلى داخل الغار، ولو نظروا إلى داخله سيرون الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الغار في سكينة تامة، لكن الصديق رضي الله عنه كان قلقاً، يقول الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، إحساس بمعية الله في كل خطوة، والصديق لم يكن خائفاً على نفسه، بل خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أن الصديق قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة).

ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور؟ يعني: بعدما قطعوا هذا المشوار الطويل (8) كيلو من الصحراء والجبال والشمس والمشقة، وآثار الأقدام منتهية عند فتحة باب الغار، كان من العقل أن ينظروا ما في الداخل، لكنهم لم ينظروا، كم كانت ستأخذ هذه النظرة لو نظروها؟ لكن (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

هناك قصة مشهورة أن العنكبوت نسجت خيطاً كثيفاً على باب الغار، وقال الكفار: لو دخل من ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه القصة ضعيفة من كل طرقها، وإن كان بعض العلماء رفع درجة القصة إلى الحسن لكثرة الطرق، كذلك قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار قصص ضعيفة لا تصح أصلاً، وحتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضاً، وإلا كيف تفسر أن الغار يكون مفتوحاً والآثار وصلت إليه، والكفار لا ينظرون إلى داخله.

هذه معجزة ظاهرة! وليست هي المعجزة الأولى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الأخيرة، فحياته كلها معجزات صلى الله عليه وسلم.
فشلت المطاردة ورجع الكفار إلى مكة مرة أخرى وقد يئسوا من العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصديق رضي الله عنه، لكن مازالت المكافأة معلنة مائة ناقة لمن يعثر على أحدهما حياً أو ميتاً.

مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرراً في الخطة، وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين كل واحد منهم يقوم بدوره، ومرت الثلاثة الأيام، وجاء الدليل عبد الله بن أريقط بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وأحضر له ناقة وأخذوا معهم عامر بن فهيرة في هذه الرحلة المباركة.

انطلقت الرحلة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل في ليلة (1) ربيع أول من سنة (14) من النبوة، والهجرة لم تكن في محرم كما يظن كثير من الناس، إنما كانت في أواخر صفر وأوائل ربيع الأول من سنة (14) من النبوة.

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل، وزيادة في الحذر اتجهوا جنوباً وابتعدوا أكثر وأكثر عن طريق المدينة؛ زيادة في ضمان ألا يراهم أحد أبداً، وبعد ذلك سيتجهون إلى الغرب من أجل أن يأخذوا طريق البحر الأحمر الصعب، وعندما خرجوا من الغار كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي بطريقة غريبة، لفتت نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يسير أمام الرسول صلى الله عليه وسلم تارة، ثم يسير خلفه تارة أخرى، فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حب شديد: (يا رسول الله! أذكر الطلب -يعني: المطاردة- فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد -يعني: لو أن أحداً منتظرنا في الأمام- فأمشي بين يديك)، يتمنى الصديق أن لو جاء سهم أن يصيبه هو ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، منتهى الحب لرسول صلى الله عليه وسلم، وأكملت القافلة طريقها واتجهت إلى المدينة .


سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-6


حصار المشركين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم

ليلة الهجرة وخروجه من بينهم سالماً


عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وبدأ يجهز نفسه، ونادى علياً رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت عمره (23) سنة، وأخبره بدوره، وأنه سينام في سريره صلى الله عليه وسلم طوال الليل، ويتغطى ببرد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخضر، وفي الصباح يعيد الأمانات لأصحابها.


انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت حتى الليل، ثم في أول الليل فكر بالخروج والذهاب إلى الصديق، فرأى أن المشركين قد أتوا مبكرين عن الموعد الذي كان يظنه، ورآهم يحاصرون البيت، وعشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس أو المحاكمة، لقد صدر القرار بالقتل، وقد أتوا للتنفيذ مباشرة، فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يخرج؟ أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن يخرج من وسط المشركين، وأن يخرج أمام الناس كلهم، ولن يراك أحد منهم؛ فإن الله عز وجل سيأخذ أبصارهم، ستعمى الأبصار كما عميت قبل ذلك البصائر.


خرج الرسول صلى الله عليه وسلم أمام كل الناس ليلة (27) صفر سنة (14) من النبوة، خرج وهو يقرأ صدر سورة (يس) من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، وليس هذا فحسب، بل أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءاً منها على رأس كل مشرك؛ من أجل أن يقول لهم: لا تظنوا أنني قد بت خارج البيت، لا، أنا كنت بالداخل وخرجت أمامكم وأنتم لم تروني.


كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المشركون، لكن هذا الذي حصل كان لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه بدون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وظهرت المعجزة الظاهرة الواضحة في نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.


وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وجلس عنده حتى نصف الليل حسب الخطة، وبعد ذلك خرجا من الباب الخلفي للبيت، وتسللا من مكة، واتجها جنوباً إلى غار ثور، وعندما وصلا إلى الغار دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى الغار أولاً، وعمل عملية استكشافية؛ ليطمئن أنه لا خطر فيه، وعندما اطمأن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذا يكون هذا الجزء من الخطة مر بسلام والحمد لله.


هذا ما كان في الغار، أما عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فما زال المشركون على هيئتهم وعلى رءوسهم التراب، وعلي رضي الله عنه مازال نائماً بداخل البيت، وهم على حالتهم مر عليهم رجل مشرك ووجد على رأس كل رجل حفنة تراب، فاستغرب من شكلهم، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمداً قال: خيبكم الله، قد -والله- خرج عليكم.


فانزعجوا وتساءلوا، قبل قليل كان نائماً، ونحن نراه بالداخل وهو نائم وعليه برده، وبعد ذلك وجدوا التراب على رءوسهم، وليس واحداً أو اثنين، بل كلهم على رءوسهم التراب، فقام المشركون ونظروا من ثقب الباب، فرأوا رجلاً نائماً بالداخل وعليه البرد الأخضر، فتحير القوم، وقالوا: والله إنه لنائم، فهل يصدقون ذلك الرجل الذي قال لهم: إنه قد خرج عليكم، والتراب الذي رأوه على رءوسهم، أم يصدقون أعينهم؟ فأراد شخص منهم أن يريح الجميع، قال: لنكسر الباب ونرى من النائم بالداخل، لكن معظم الكفار اعترضوا؛ وقالوا: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار، لا يدخلون بيتاً بغير إذن أهله!


انتظر المشركون إلى الصباح ولم يستطيعوا الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يلحقهم العيب، وبعد قليل إذا هم بـ علي رضي الله عنه وأرضاه قام من الفراش، كان المشركون حينها في منتهى الغيظ، فأمسكوا بسيدنا علي بن أبي طالب وضربوه ضرباً شديداً رضي الله عنه، وأخذوه إلى البيت الحرام ليحققوا معه، وحبسوه هناك، ومع كل هذا الضرب إلا أنه لم يجب عليهم، ومع كونه فارساً مغواراً وكان عمره في ذلك الوقت (23) سنة إلا أنه لم يقاتلهم، وذلك لأمور:


أولاً: لم يؤذن بعد للمسلمين بالقتال إلى هذه اللحظة.


ثانياً: الهلكة محققة لغياب كل المسلمين، ولن يدافع عنه أحد، واجتماع كل المشركين على بني هاشم يصعب الأمر أكثر.


ثالثاً: أن عليه مهمة عظيمة وهي رد الأمانات إلى أهلها، فلابد أن يحافظ على نفسه حتى يؤديها؛ من أجل ذلك لم يرد عليهم حكمة وفقهاً من علي رضي الله عنه.


حبس سيدنا علي ساعة من الزمن، لا شهر ولا سنة ولا سنتين؛ لأن كفار مكة رأوا أن من الظلم أن يحبس إنسان بدون جريرة أو بدون ذنب أكثر من ساعة، ففي عرفهم أن الساعة كثيرة جداً.
مكث علي رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم هاجر مباشرة إلى المدينة المنورة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-5


بنود خطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

وصاحبه الصديق رضي الله عنه


مكث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه يخططان لأمر الهجرة، فقد وضعا خطة بارعة متقنة، بذلا فيها كل طاقة وفكر، وعملا حسابهما لأشياء كثيرة.

أولاً: لن يبيت الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته هذه الليلة، وسيخرج من بيته في أول الليل، ويترك علياً رضي الله عنه وأرضاه نائماً في سريره، ويجلس في بيت الصديق من أجل أن يتجنب الحصار الذي قد يفرض على بيته صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن موعد القتل الفجر، فيريد أن يترك البيت قبل الفجر، من أجل أن يفوت الفرصة على المشركين.


ثانياً: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه جزءاً من الليل، يعني: لن يهاجرا مباشرة، وسينتظرا إلى أن تهدأ الحركة في مكة تماماً، في ذلك الوقت سوف يأخذان الراحلتين وينطلقان من بيت الصديق رضي الله عنه.

ثالثاً: أنهما لن يخرجا من باب بيت الصديق بل من فتحة في خلف البيت لاحتمال وجود مراقبة على باب البيت؛ فقد يتوقعون هجرته معه، فهو الصاحب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أن المدينة لها طريقان من مكة: الأول: معروف وسهل وقصير نسبياً، والثاني: وعر وصعب وطويل وغير مألوف، ولا يعرفه الكثير من الناس، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من الطريق الصعب؛ طريق ساحل البحر الأحمر، نعم هو طويل وصعب، لكن لا يعرفه كثير من أهل مكة، فستكون فرصة الهجرة بأمان في هذا الطريق أكبر.

خامساً: لابد أن يستأجرا دليلاً يكون معهما في هذه الرحلة الصعبة؛ لأن الطريق غير معروف؛ فالسفر في الصحراء أمر خطير، والدليل لابد أن تكون عنده خبرة وأمانة، وفي نفس الوقت لا يشك المشركون في أمره؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق اتفقا على دليل اسمه عبد الله بن أريقط، وهذا الدليل من المشركين، وكان هذا الفعل منهما في منتهى الذكاء؛ فإن المشركين لن يشكوا مطلقاً في أمره، كما أنه رجل أمين يكتم السر، وهو في النهاية صاحب مصلحة سوف يؤدي المهمة ويأخذ عليها الأجر، وأكيد أنه أجر مجزٍ.

سادساً: قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في أول الهجرة سيتجه نحو اليمن لا المدينة المنورة لمسافة خمسة أميال -يعني: (8) كيلو متر- للتمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، سيبحثون عنه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.

سابعاً: أنهما سيذهبان أولاً إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار في جبل عال، والطريق إليه صعب جداً، وسيمكثان فيه ثلاثة أيام، وبعد ذلك يتحركان إلى المدينة عندما يفقد أهل مكة الأمل في العثور عليهما، وكذلك سوف يتركان الراحلتين مع الدليل عبد الله بن أريقط، من أجل ألا يرى أحد الراحلتين بجانب الغار، وعبد الله بن أريقط سوف يقابلهما بعد ذلك عند الغار بعد ثلاثة أيام.

ثامناً: يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الوضع في مكة، وتحركات زعماء مكة، فلابد من شخص يأتي لهم بالأخبار إلى الغار كل يوم ليعدلوا على حسبها الخطة لو حصل شيء مخالف للذي رتبوه، فاتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق رضي الله عنه أن الذي سيقوم بذلك هو عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو سيمكث في مكة طيلة النهار، ثم يأتي إلى الغار في أول الليل، ويجلس معهما في الغار ويخبرهما أخبار مكة، ثم يرجع إلى مكة قبل الفجر، ثم في الصباح الباكر يظهر نفسه للناس ويقف أمامهم ليروه؛ ليوهمهم أنه بات في مكة ولم يكن خارجها.

تاسعاً: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، فهو سيرعى الأغنام على آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأقدام الصديق رضي الله عنه، وبعد ذلك فوق أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، من أجل أن يضيع فرصة تتبع آثار الأقدام بقدر استطاعته، وهذا شيء في منتهى الروعة؛ مع أنهم مشوا في اتجاه الجنوب، ولكن كذلك أخذوا حذرهم في هذا.

عاشراً: أن الذي سيحضر لهم الطعام والشراب فترة الثلاثة أيام في غار ثور السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكانت حاملاً وفي الشهور الأخيرة من حملها، وإن كان المشركون وضعوا مراقبة على أولاد الصديق الرجال، فمن الصعب أن يضعوها على النساء، كما أنهم لم يعتادوا من النساء أن تقوم بمثل هذه الأدوار، وتذكروا أننا نتكلم عما قبل (1400) سنة سابقة، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة تحمل الطعام والشراب وتسير به مسافة (8) كيلو متر من مكة وحتى غار ثور، ثم تصعد الجبل الصعب، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة! لكن لا تستغربوا، فإنها ابنة الصديق رضي الله عنه وعنها.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-4


إلي بيت الصديق - رضي الله عنه -


خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهيرة إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي غطى رأسه ببعض الثياب، ووصل إلى بيت الصديق من دون أن يراه أحد، فاستغرب الصديق من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وقال: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، والصديق إلى الآن لا يعلم أنه سيهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الهجرة في هذا اليوم ليلاً، في نفس اليوم الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم فأذن له أبو بكر، فدخل، فوجد مع أبي بكر أهله، فقال له: (أخرج من عندك، فقال الصديق: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله -يعني: لا تخف منهم- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج)، يعني: الهجرة.

وانظروا إلى أول رد فعل للصديق رضي الله عنه وأرضاه، أول شيء كان يشغله أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخيل أن يبتعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو للحظات، فقال أبو بكر عندما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيهاجر: (الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة).

فرح الصديق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة، ولم يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلم أكن أدري أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي)، هذا مع الخطورة المعروفة في هذه الرحلة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة الموقف، وأنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقاً؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمه أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وتهون أمامه كل المصاعب ويبقى إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سنهاجر، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.

من قبل أن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيهاجر معه كان قد جهز راحلتين، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراحلة، ولكنه قال للصديق: بالثمن، ودفع ثمن الراحلة للصديق رضي الله عنه.

لا شك أن الصديق كان إنساناً وكان تاجراً وكان أباً وكان زوجاً وكان كذا وكذا وكذا، مثل أي شخص بيننا، لا شك أن عنده أشياء كثيرة تشغله وتعطله مثل أي إنسان، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يعطي للعمل لله عز وجل القدر الحقيقي، من أجل ذلك كان يجد وقتاً وطاقة؛ لأنه يريد أن ينفذ ما أمره به ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الإنسان الذي عاش للإسلام، فـالصديق رجل عاش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، الأوليات عنده واضحة، وهذه من أهم الدروس التي ممكن أن نتعلمها من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أننا نضع الإسلام وواجبات الأمة في المرتبة الأولى من الأولويات لدينا.





سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-3


إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة
مع أبي بكر وعلي رضي الله عنهما



نزل جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر هذه الجريمة، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، والرسول عليه الصلاة والسلام سأله عمن يهاجر معه؟ فقال: أبو بكر الصديق، يعني: صحبة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل، ويا لها من درجة عالية للصديق رضي الله عنه وأرضاه.


بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب للهجرة، وبالذات أنه علم أن المشركين يريدون قتله فجر يوم الجمعة (27) صفر سنة (14) من النبوة، فزعماء قريش اجتمعوا في يوم الخميس (26) صفر، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويرتب معه موضوع الهجرة، ولابد أن يكون كل شيء في سرية تامة، ولا يلفت أنظار أي شخص من قريش؛ من أجل ألا يقدم زعماء قريش موعد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.


وهناك مشكلة أخرى كان يفكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي هل كان أبو بكر جاهزاً للسفر مباشرة في الموعد الذي أخبره جبريل أن يهاجر فيه، فـ الصديق سيترك كل شيء، ولا يدري متى سيرجع، وقد لا يرجع بالمرة، ويموت في المدينة المنورة، وسيأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عائلته، فهو سيترك بناته وأولاده وأباه وأمه، وهذه تعتبر مشكلة بالنسبة للصديق.


وهناك مشاكل أخرى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: أن قريشاً سوف تكتشف هجرته لا محالة إن آجلاً أو عاجلاً، فكيف يعطل المطاردة المشركة له؟ كيف يهرب منهم والكفار كلهم يعرفون أنه مسافر إلى المدينة المنورة، ويعرفون الاتجاه الذي يمشي فيه؟ ومنها: أنه كانت عنده أمانات كثيرة وضعها أهل مكة عنده، وكأنه مثل البنك بالنسبة لهم، كان يحفظ لهم أماناتهم وأموالهم، ومع أن أهل مكة مشركون ورافضون للإسلام، إلا أنهم لم يجدوا أحداً في مستوى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يضعون أماناتهم عنده مع حربهم المستمرة له صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعاجيب الزمان! المهم أن هذه كانت مشاكل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لابد أن يجد لها حلاً.


ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصديق رضي الله عنه في وقت الظهيرة؛ لأن شوارع مكة في ذلك الوقت تكون خالية، ولن يراه أحد إذا ذهب في هذا الوقت، كما أن الصديق لم يكن معتاداً مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في هذا الوقت، فيكون هذا أدعى للتخفي.


شيء آخر فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يكلف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمهمتين كبيرتين،

المهمة الأولى: أن ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاء المشركون ونظروا يرون شخصاً نائماً ومغطى ببردة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتأخرون في ملاحقة الرسول صلى الله عليه وسلم.


المهمة الثانية: رد الأمانات إلى أصحابها، وبعد أن ينتهي من المهمتين يهاجر إلى المدينة المنورة وحده.




الثلاثاء، 9 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-2


اجتماع قريش بدار الندوة

بهدف منع الرسول صلى الله عليه وسلم 
من الهجرة إلى المدينة



نتيجة للعوامل السابقة الموجودة في المدينة المنورة، والتي كانت تسبب خطراً كبيراً على زعماء مكة، إلا أن المسلمين كلهم تسربوا من بين أيديهم، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه هما: أبو بكر وعلي رضي الله عنهما، وإذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه فكل المشاكل التي يخافونها ستقع، لكن من المؤكد أنه لا خطورة على مكة والرسول صلى الله عليه وسلم مازال فيها؛ لأنه من المؤكد أن المهاجرين والمؤمنين من الأوس والخزرج سوف ينتظرون قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ من أجل أن يضمنوا سلامته من ناحية، ومن ناحية أخرى ليأخذ القرار بالهجوم على مكة، فلو استطاع المشركون أن يسيطروا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن خطر يثرب سيقل، لكن كيف يسيطرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقبيلة بني هاشم قبيلة كبيرة وعزيزة، ومن الصعب أن يدخلوا معها في حرب أو صراع، فقرر زعماء مكة نتيجة لهذه الحيرة أن يعقدوا اجتماعاً طارئاً، ليجدوا حلاً.

في يوم الخميس (26) صفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة عقد الاجتماع، وكان أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية، ما عدا قبيلة بني هاشم؛ مثل أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب كلهم عن قبيلة بني عبد شمس، والنضر بن الحارث عن بني عبد الدار، وأمية بن خلف عن بني جمح وغيرهم كثير، ولم يسمح لأي قبيلة غير قريش أن تدخل دار الندوة.

وبمناسبة دخول هؤلاء دار الندوة لا يوجد دليل صحيح على قصة إبليس الذي تمثل بصورة الشيخ النجدي وحضر معهم الاجتماع؛ فإن شياطين الإنس في مكة لم يكونوا بحاجة إلى شياطين الجن.

بدأ الاجتماع الخطير، ووضعوا المشكلة التي اجتمعوا من أجلها، وبدءوا بالنظر في آراء الحضور، فالطائفة المعتدلة من زعماء مكة كانوا يرون أن حبس الرسول صلى الله عليه وسلم كافياً، لكن اليمين المكي المتطرف كان رأيه مخالفاً لهذا الرأي، قال أحدهم -ولعله أبو جهل -: لابد من قتل هذا الرجل، وفي الحقيقة أن هذه الفكرة كانت تعجبهم، ولكن لم يكن عند أحد الجرأة أن ينطق بها؛ لأن بني هاشم قبيلة قوية، ومن الذي سيضحي بنفسه وقبيلته ويقف أمام بني هاشم، لكنّ أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية،


وهي: أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شاباً قوياً، فيحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تجد بنو هاشم أمامها إلا قبول الدية؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا كل القبائل، ثم خرجوا بالموافقة على هذا، قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف هذا الحدث: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال:30]، (يثبتوك) أي: يقيدوك أو يحبسوك، {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

هذه الأفكار التي ظهرت في دار الندوة، وهذه التدبيرات كلها تقع تحت كلمة: ((وَيَمْكُرُونَ)).
وفي الجزء المقابل: ((وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)).




الاثنين، 8 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-1


الدرس الرابع عشر الهجرة إلى المدينة



مع ما بذله الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من تدبير الهجرة والتواري عن قريش، إلا أن العجز البشري يبقى له مكان في تلك الخطة، ليأتي التدبير الإلهي ليثبت نصرة الدين ورفعة حامليه، فالأخذ بالأسباب المادية مطلوب، ولكن لا بد من أن يعتمد على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.




مخاوف قريش من هجرة المسلمين
من مكة إلى المدينة ومخاطر ذلك عليهم



بدأت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة بعد شهر من البيعة، وتكلمنا عن صعوبة الهجرة وتضحياتها، وعن كفاح الصحابة سواء من الرجال أو النساء، فقد كانت معاناة كبيرة وضخمة، لكنها تمت على خير، ووصل المهاجرون إلى البلد العظيم المدينة المنورة.


لم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل واحد منهم له دور مهم في المرحلة القادمة كما سنرى إن شاء الله.


كانت قريش في أزمة كبيرة، ما من يوم يصبحون فيه إلا ويجدون واحداً من المسلمين قد اختفى، أو عائلة مسلمة اختفت، وبعض الأحيان كانوا يجدون فرعاً كاملاً من قبيلة ليس موجوداً، بحيث إن الهجرة كانت تتم بصورة سرية تماماً، إلا هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.


عرف المشركون أن الهجرة كانت إلى المدينة المنورة، ليس فقط من الشك الذي كان في وفد يثرب الذي جاء إلى مكة قبل ذلك في موسم الحج سنة (13) من البعثة، لكن من أخبار مؤكدة أتت إلى قريش من المدينة المنورة عن طريق أعوان وحلفاء لهم تؤكد هجرة المسلمين إلى المدينة،


ويؤكد على هذا ما حصل من أبي جهل وأخيه الحارث لأخيهما من الأم عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، كان مسلماً وهاجر إلى المدينة المنورة مثل بقية المهاجرين المسلمين، وعلم أبو جهل بهجرته، فلحقه أبو جهل وابتكر حيلة من أجل أن يعيد عياشاً إلى مكة، فأقنعه بأن أمه مريضة، وأنها تريد أن تراه قبل أن تموت، وفعلاً أخذت عياش الرقة لأمه، وعاد مع الحارث وأبي جهل، وبينما هو في الطريق قيداه بالحبال وأخذاه إلى مكة وهو مقيد، وقالا لأهل مكة: هكذا فافعلوا بسفهائكم، وحبس في مكة لفترة طويلة.

الشاهد من القصة: أن أبا جهل كان يعرف إلى أين يهاجر المسلمون، وأنهم كانوا يذهبون إلى المدينة المنورة.

سبب هذا الأمر قلقاً لقريش؛ لأنها كانت على فقه كامل بخطورة الموقف عليهم لو انتشر الإسلام، من هذه المخاطر:

أولاً: أن الذين هاجروا من مكة ليسوا أغراباً عن أهل مكة، بل إن كل واحد من زعماء قريش كان له أخ مهاجر أو ابن أو ابنة، وكل واحد منهم بداخله غيظ كبير على الدين الجديد الذي عرضهم لهذه المشكلة، وكل واحد منهم بداخله كذلك حب فطري لأولاده وأقاربه، ويرى أنهم قد بعدوا عنه، فهذه كانت مشكلة كبيرة، وكان من الصعب أن يقبل بها أهل مكة.

ثانياً: أن دعوة الإسلام لو انتشرت في الجزيرة العربية، فمن الممكن أن تفقد قريش الكثير من مكانتها في الجزيرة، فقد كانت تكسب كثيراً من تجارة الحج إلى مكة، ومن تجارة بيع الأصنام، نعم، دين الإسلام يشجع الحج إلى مكة، لكن تجارة الأصنام وتجارة الخمور والزنا والربا ستقف، مصالح كثيرة جداً ستقف لأهل مكة، وكلها سوف تتعطل لو انتشرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية.


ثالثاً: كان المشركون يفهمون جيداً أن المسلمين ما هاجروا إلى المدينة من أجل قضاء فترة راحة أو استجمام، بل هاجروا لإقامة دولة إسلامية، ولو أقاموا هذه الدولة فلابد أن يعودوا إلى مكة مرة أخرى في يوم من الأيام، وعندما يعودوا إليها، لن يعودوا من أجل السكن فيها، لا، بل سيعودون من أجل أن يحكموا مكة، هكذا يقول المنطق، مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة (13) سنة، يفهمهم قضية أن الحكم لله، فمؤكد أن المسلمين لن يرضوا أن يبقى أهل مكة على تحكيمهم لهبل أو أنصار هبل في حياتهم، لابد أن يحكموا الإله الذي يعبدونه ألا وهو الله عز وجل، وبالتالي يحكمون مكة، وكان هذا مرعباً لزعماء قريش.


رابعاً: أن هذه الهجرة لم تكن إلى أي مكان، لا، بل إلى المدينة المنورة (يثرب)، وكان لها وضع خاص، ففي اعتقادي أن هذا المكان أكثر مكان لا يحب المشركون أن تكون الهجرة إليه، وذلك لعدة نقاط:


الأولى: أن سكان يثرب هم الأوس والخزرج، وهم من أعز القبائل العربية، ومن أقواها في الحرب، وأشدها ممارسة لفنون القتال المختلفة، ولعل السبب في عدم ظهورهم في الجزيرة العربية، وأن تكون لهم كلمة مسموعة وكبيرة فيها هو الصراع الداخلي بين الأوس والخزرج، فلو حصل اتحاد بين هاتين القبيلتين الكبيرتين فسوف تكون مشكلة حقيقية على بقية القبائل.

الثانية: أن الأوس والخزرج من أصول قحطانية، بينما قريش من أصول عدنانية، وتعرفون كيف كانت أثر القبلية في أيام الجاهلية، فإذا كانت قريش بفروعها لها خلافات كبيرة، مثل ما رأينا خلاف بني هاشم مع بني مخزوم، ومرجعهما إلى قريش، فما بالكم بين قحطاني وعدناني.


الثالثة: أن المدينة المنورة حصينة، وتعتبر حصانتها حصانة جغرافية طبيعية، فلو فكرت قريش في يوم من الأيام أن تغزو المدينة فسوف تتخذ قراراً صعباً.


الرابعة: أن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية المتجهة من وإلى الشام، فتستطيع المدينة المنورة أن تخنق مكة اقتصادياً، يظهر هذا جلياً عندما نعلم أن مكة كانت تتاجر بربع مليون دينار ذهب سنوياً مع الشام، تجارة مهولة، فتخيل في هذا الزمان ما مقدارها! وهذه كانت رحلة موسم الشتاء.


الخامسة: أهل مكة يعلمون أن اليهود يسكنون في المدينة المنورة، وهم أهل سلاح ومال واقتصاد وأعداد غفيرة، وقبائل متعددة، فماذا لو آمن اليهود وانضموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه بالنسبة إلى قريش مصيبة كبيرة،


والحقيقة: أن العقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب، ويؤمنون بالأنبياء، وكانوا يعلمون أن نبياً سوف يظهر في ذلك الزمن، وكانت تعرف قريش هذا الكلام عن اليهود، فكان يخيفها هذا الاعتقاد جداً، لولا أن اليهود لم يكن عندهم عقل، وهذا هو السبب الذي جعلهم لا يدخلون هذا الدين.





سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-10


وجه هجرة عمر علناً
بينما كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سراً



كان كل الصحابة تقريباً يهاجرون في السر، من دون أن يشعر بهم أحد، حتى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت سرية، إلا هجرة واحد من الصحابة فقط كانت علناً أمام كل الناس، تلك هي هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقف عمر رضي الله عنه وأرضاه في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع: يا معشر قريش! من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، كان يقول هذا الكلام وهو متقلد سيفه، ويده الثانية فيها بضعة أسهم.

فلم يقم له أحد، وهاجر رضي الله عنه وأرضاه أمام الناس أجمعين، كانت رهبة كبيرة لـ عمر عند عموم الناس! ممكن أن يسأل سائل: لماذا هاجر عمر رضي الله عنه علناً والرسول صلى الله عليه وسلم يهاجر سراً؟ الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، وعموم المسلمين سيقلدونه، سواء في زمن مكة، أو في الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه وأرضاه، وليس مطلوباً منهم ذلك، لكن المطلوب هو الحذر والاحتياط، والأخذ بالأسباب الكاملة لتأمين عملية الهجرة، والهجرة في حد ذاتها لم تكن هدفاً، إنما كان الهدف الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، ويجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة.

لكن على الناحية الثانية أيضاً: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان سليماً، لم تكن هناك مخالفة شرعية، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعترض على هذا الكلام، ولو وجدت مخالفة شرعية لاعترض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدل المسار للمسلمين، لكن هذا لم يحصل، فهجرة عمر بهذه الصورة صنعت رهبة كبيرة في قلوب الكافرين، أوقفت تفكيرهم تماماً، وهذا كان فيه فوائد كثيرة:

منها: أنه هاجر معه (20) شخصاً من ضعفاء الصحابة! لم يستطع أحد من المشركين أن يقترب منهم، ولو أنهم خرجوا بمفردهم كان من الممكن أن يقتلوا، لكن لما أذل الله المشركين بهذه الصورة سهلت هجرة هؤلاء الضعفاء، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول: إن إسلام عمر كان فتحاً، وارجعوا بذاكرتكم إلى قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

يقول عبد الله بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة.. وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

كان في هجرة الصحابة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، لكنها كانت خطوة لابد منها على خطورتها لبناء الأمة الإسلامية؛ وبهذا هاجر معظم المسلمين في مكة، وكل هذا تم في شهرين اثنين فقط، محرم وصفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة، يعني: بعد حوالي شهر واحد فقط أو أقل من بيعة العقبة الثانية، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان بقاؤهما بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم.

يا ترى كيف ستكون هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما هو رد فعل المشركين؟ وما هي تفاصيل الخطة البارعة التي سيضعها الرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ سنتكلم عن كل هذا في الدرس الآتي بمشيئة الله تعالى.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-9


الهجرة إلى المدينة


أصبح الوضع مستقراً إلى حد كبير في المدينة المنورة، وأصبحت الصعوبة في مكة، زعماء قريش الآن يعلمون بتدبير إسلامي خفي لشيء هم لا يعلمونه، هنا صدر الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم للمؤمنين في مكة بأن يهاجروا إلى المدينة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر، الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، كل المسلمين لابد أن يهاجروا إلى المدينة المنورة؛ لأن هناك مشروعاً ضخماً محتاجاً إلى كل طاقة، هناك مشروع اسمه: بناء الأمة الإسلامية.


وبدأت الهجرة، والهجرة لم تكن شيئاً سهلاً، لم تكن عقد عمل أهدي لهم في بلد غني، كانت الهجرة تعني ترك الديار، والأموال، والأعمال، والذكريات.
كانت الهجرة الاستعداد لحرب ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل في كل الأرض، كانت استعداداً لحرب الأحمر والأسود من الناس، هذه هي الهجرة، ولم تكن هروباً، بل استعداداً لتكاليف أشق، ولواجبات أكثر وأعظم.


أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة، وانتظر هو فلم يهاجر، لم يكن همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه ويؤمن حاله، أو يحافظ على أمواله، كان كل همه أنه يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، ليعلمنا أن القيادة ليست نوعاً من الترف أو الرفاهية، بل مسئولية وتضحية وأمانة.


أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره لكل المسلمين في مكة بالهجرة، وليس في مكة فحسب، بل أي مسلم موجود على الأرض كان لابد أن يهاجر إلى المدينة المنورة، إلا من استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يمكث في مكانه، لسبب من الأسباب.


كان هذا هو الوضع في هذه الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو مختلف عن هجرة الحبشة، فليس كل المسلمين هاجروا إلى الحبشة، كما أن طبيعة المكان وظروف المكان تختلف من الحبشة إلى المدينة، كان المهاجرون إلى الحبشة يريدون فقط الحفاظ على أنفسهم؛ لئلا يستأصل الإسلام إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة، لم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة أبداً، بل كان المسلمون مجرد لاجئين عند ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.


كانت المدينة صالحة لإقامة أمة إسلامية بخلاف الحبشة فإنها لا تصلح، لأن في الحبشة معوقات كثيرة جداً لبناء الأمة الإسلامية، مثل: اختلاف اللغة والتقاليد، وعدم استقرار الوضع، ولأن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد فقط وهو النجاشي رحمه الله، فهو ملك لا يظلم عنده أحد، وإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، لكن في المدينة الوضع غير هذا، الهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل على أنصار المدينة، والجو العام في المدينة أصبح محباً للإسلام، أو على الأقل كان قابلاً للفكرة، ومن ثم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية لكل المسلمين.


بدأت الهجرة العظيمة، ووقعت تضحيات مهولة مع إصرار وعزيمة، لكن كانت هناك أشياء كثيرة تخفف من آلام الهجرة، وهو إحساس المسلمين أنهم قاب قوسين أو أدنى من بناء الأمة، وقبل ذلك شعورهم بالمعية مع الله عز وجل، وشعورهم أن قائدهم معهم، وسيهاجر ويضحي ويتعب مثلهم، واستقبال الأنصار لكل من هاجر بحفاوة بالغة، وكأنهم إخوانهم من قديم.


هذه الأشياء كلها كانت تخفف كثيراً من آلام الهجرة، ومع ذلك كانت الهجرة صعبة.
قصص الهجرة كثيرة وعظيمة، وحقيقة أن المقام لا يتسع لتفصيلاتها، ويكفي أن كل واحد من المهاجرين قد ترك وراءه شيئاً عزيزاً عليه.


فمثلاً: أبو سلمة رضي الله عنه وأرضاه، هاجر وترك زوجته وابنه في قصة مشهورة مؤلمة، لكن كان أبو سلمة يفهم واجبه، وكذلك كانت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها تفهم دورها، فصبرت سنة كاملة بعيدة عن زوجها، وسنة كاملة بعيدة عن ابنها الذي أخذه زوجها بعد فترة قصيرة عندما هاجر أبو سلمة، ثم بعد سنة كاملة هاجرت إلى زوجها ومعها ابنها الآخر، هاجرت مسافة (500) كيلو متر لوحدها، تضحيات مهولة.

وصهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه ترك وراءه كل ثروته، ترك ما جمعه خلال السنين الطويلة، ترك كل رصيده وهاجر إلى المدينة، ترك وظيفته التي كان مستقراً فيها وهاجر وغيره وغيره وغيره، كل قصص الهجرة فيها تضحيات ضخمة.


وفوق أن الصحابة تركوا كل شيء وراءهم، إلا أنه كانت هناك خطورة حقيقية على حياتهم؛ فالكفار لم يكن عندهم أي مانع من قتل أي شخص إذا أمسكوا به، وعلموا أنه مسلم يريد أن يهاجر، بل أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فما بالكم بأي شخص ضعيف أو حليف، أو أي شخص من قريش؟!



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-8


موقف قريش من بيعة العقبة الثانية بعد علمهم بها


لم تمر بيعة العقبة الثانية دون تنغيص، فقد كان أتعس مخلوق عرف هذه البيعة هو الشيطان، يقول سيدنا كعب بن مالك: (لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط.
-وهم علموا أنه الشيطان بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم- قال: يا أهل الجباجب، -يعني: المنازل، ينادي أهل مكة- هل لكم في مذمم -يقصد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم- والصباة معه؛ قد أجمعوا على حربكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزب العقبة -أي: شيطان العقبة- اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك)، وبعد ذلك شعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المشركين سيحضرون فقال للأنصار: (ارفعوا إلى رحالكم).


كان على الأنصار أن يركضوا مسرعين إلى رحالهم؛ لأنهم عرفوا أن قريشاً قد تأتي في أي لحظة، لكن لم يحصل هذا، وإنما قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، الذي قام قبل قليل يقول للأنصار: أنتم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس، قام وقال: (والذي بعثك بالحق! لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا).


وانتبهوا: أن القتال في منى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، فهم كانوا قد بايعوا على أن يدافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وليس في منى ولا في مكة، لكن العباس بن عبادة يعطي ما هو فوق البيعة، فهو يبحث عن الجنة.


فكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في منتهى الوضوح، قال: (لم أؤمر بذلك)، أي: لم أؤمر بالقتال بعد، نعم بايع الأنصار على الجهاد، لكن ليس الآن وقت التطبيق، وهذا من فقه الموازنات؛ لو تقاتل الأنصار الآن مع المشركين فلاشك أن الأنصار سيبادون عن آخرهم، نعم سقطوا شهداء، ولكن أين الدولة؟ أين الدعوة؟ أين التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين؟ أين بناء الأمة الإسلامية؟ فعلاً كان لابد للمسلمين أن يتجنبوا القتال تماماً في هذا الوقت؛ من أجل ذلك رجع الأنصار إلى خيامهم، وناموا مع الوفد المشرك الذين أتوا معه، ولم يشعر بهم أحد حتى من وفدهم.

في اليوم الثاني علمت قريش بموضوع اللقاء، من الذي أعلمهم؟ الله أعلم، إما الشيطان الذي صرخ بالليل، وإما أن شخصاً رآهم، فذهبت قريش لمقابلة زعيم يثرب عبد الله بن أبي ابن سلول، وبدأت تتكلم معه في خطاب يجمع بين الترغيب والترهيب، قالوا: يا معشر الخزرج -يكلمون عبد الله بن أبي ابن سلول - إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم،


يعني: نحن نحبكم، لكن لو استمريتم على هذا الأمر سنحاربكم، وأنت تعرفون جيداً من هي قريش؟ فلما سمع عبد الله بن أبي ابن سلول هذه الكلمات قام يقول بمنتهى الحمية: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا على مثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.

نعم هو صادق من داخله؛ لأنه لم يعلم أي شيء عن هذا اللقاء؛ لأن المسلمين تكتموا بكل شيء عن موضوع اللقاء أو الإسلام، ولم يكن يعلم المشركون منهم من المسلمين في داخل وفدهم، هذا كان رد عبد الله بن أبي ابن سلول، أما رد المسلمين الذي بداخل الوفد، الذين قاموا بالبيعة، فنظر بعضهم إلى بعض ولم يتكلموا، وكأن شيئاً لم يكن.


اقتنعت قريش بكلام الوفد اليثربي، وتركوه وعادوا مرة أخرى إلى مكة، لكن بعدما عادوا إلى مكة علموا أن ظنهم كان في محله، فرجعوا مرة أخرى بسرعة من أجل أن يمسكوا بوفد يثرب فوجدوه قد رحل؛ لأنهم تقابلوا للبيعة في آخر ليلة من ليالي الحج، تحسباً لهذه الظروف التي حصلت، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عمل حسابه لها.

ارتحل الوفد، لكن من بعيد رأى زعماء مكة اثنين من المسلمين؛ رأوا سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، والمنذر بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، وهذان الاثنان هم من النقباء، أما المنذر بن عمرو فاستطاع الهروب، لكنهم أمسكوا بـ سعد بن عبادة سيد الخزرج، رجل عزيز لم يهن في حياته قط، لكن زعماء مكة أمسكوا به وضربوه وجروه على الأرض.


موقف في منتهى الخطورة، نظر المسلمون في مكة إلى أخيهم المؤمن وهو يضرب، ولا يستطيعون حراكاً؛ لأنهم لو تحركوا من أجل إنقاذه سيعلم مشركو مكة أن هناك بيعة تمت، وأن هناك لقاء تم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يتحرك من أجل نصرة سعد بن عبادة وهذا أيضاً من فقه الموازنات.

كان جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ممن رأى الموقف، وسعد بن عبادة رضي الله عنه كان يجير لهم القوافل عندما تمر بالمدينة المنورة، فأجاروه من قريش، وعاد سعد بن عبادة إلى قافلة الأنصار، ووصلوا إلى المدينة في أمان، وبدأ الأنصار في المدينة يمهدون لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين من مكة، بدءوا جميعاً يستعدون لوضع النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام: المدينة المنورة. هذه كانت بيعة العقبة الثانية بكل الشروط التي فيها، وبكل الملابسات، وهناك دروس أخرى كثيرة لكن المقام لا يتسع لها .




الأحد، 7 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-7


مناقب أصحاب بيعة العقبة الثانية


قبل أن نترك الأنصار نذكر بعض الإحصائيات اللطيفة على أسماء الأنصار المشاركين في هذه البيعة، وكلها إحصائيات في الحقيقة لها معنى.
عندما بحثت في أسماء الصحابة الذين حضروا هذه البيعة من الأنصار وجدت قرابة السبعين من هؤلاء -يعني: تقريباً كلهم- اشترك في غزوة بدر الكبرى، يعني: لم تكن البيعة كلام وحسب على الجهاد، لا، فكلهم نفذوا، (70) تقريباً من هؤلاء حضروا غزوة بدر الكبرى.



ثم حوالي نصف هذا العدد اشترك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل المشاهد والغزوات؛ لأن كثيراً منهم استشهد في الغزوات الأولى.
أيضاً حوالي ثلث أصحاب بيعة العقبة الثانية مات شهيداً في سبيل الله عز وجل، يعني خمسة من اثني عشر.
يعني: القيادة في نظرهم كانت مسئولية لم تكن أبداً تشريفاً أو منصباً.



أيضاً لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء الأنصار المبايعين في بيعة العقبة الثانية الفرار أبداً، لا في أُحد ولا في حنين ولا غيرهما، لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء طلب للدنيا ولا للإمارة ولا للمال.
خلاصة القول أن الصدق الكامل في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي قلوب الأنصار المبايعين في هذه البيعة هو الذي كفل النجاح لهذه البيعة الفريدة، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24].
صدقوا الله عز وجل فصدقهم الله عز وجل.




الخميس، 4 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-6


حرية اختيار الأنصار لنقبائهم 
في بيعة العقبة الثانية



هناك بعض الأمور الإدارية في تنظيم العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار.
أولاً: سيتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مَن مِن الأنصار؟ لابد من وجود من يمثل الأنصار.
ثانياً: كيف يكون التعامل بين المهاجرين والأنصار، لو حصلت مشكلة من الأنصار لمن المرجع؟ ولو حصلت مشكلة من المهاجرين لمن المرجع؟ أمور إدارية هامة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يكون هناك من يمثل الأنصار، فجعل لكل خمسة من الأنصار نقيباً، فيكون كل ستة مجموعة، ولما كان الأنصار (73) خرج منهم (12) نقيباً.


أيضاً كان من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتقيهم بنفسه، أو أن يأخذ أصحاب بيعة العقبة الأولى؛ لأنهم كانوا اثني عشر، أو أن يكل ذلك إلى مصعب بن عمير، أو إلى البراء بن معرور رئيس الوفد، أو أسعد بن زرارة لأنه أحد السابقين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر قاعدة عظيمة من قواعد الحكم في الإسلام، وهي قاعدة أن على الشعب أن ينتخب ممثليه انتخاباً حقيقياً، ليس فيه تدخل من القائد الأعلى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومكم بما فيهم).


حرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم، هم أدرى بحالهم، وعندما يختار الشعب حكومته بحرية حقيقية ليس فيها أي تدخل من أي جهة، يسمع لها بعد ذلك بمنتهى الحب، ويطيعها بمنتهى الأمانة، يحس فعلاً أنها حكومته وليست مفروضة عليه، هذا ما كان يريد أن يزرعه الرسول صلى الله عليه وسلم بداخل الأنصار، وداخل الأمة الإسلامية بكاملها إلى يوم القيامة.


جلس الأوس والخزرج سوية لأول مرة في تاريخهم لاختيار نقبائهم، وكانوا قبل ذلك يتقاتلون ويتصارعون، ويذبح كل واحد الثاني من أجل كرسي الحكم، لكنه الإيمان، فعندما آمنوا تغير كل شيء، كل واحد يضع يده الآن على كتف الآخر.


إن الذي جمع الأوس والخزرج هو نبل الغاية، وسمو الهدف، عندما كان الكرسي هو الهدف، كان الخلاف والنزاع الذي لا نهاية له، ولما أصبحت الجنة هي الهدف وهي الغاية لم يعد للكرسي قيمة، بل أصبح مسئولية وتكليفاً لم يعد تشريفاً، انقلب التنافس على الكرسي إلى التنافس على الجنة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، هذه هي عظمة الإسلام.


في لحظات كان النقباء هم: أسعد بن زرارة، البراء بن معرور، عبد الله بن عمرو بن حرام، سعد بن عبادة، عبادة بن الصامت، سعد بن الربيع، عبد الله بن رواحة، رافع بن مالك، المنذر بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، كان هؤلاء تسعة هم نقباء الخزرج.

أما نقباء الأوس فكانوا ثلاثة: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، وأبو الهيثم بن التيهان وقيل بدلاً منه: رفاعة بن عبد المنذر رضي الله عنهم أجمعين.

ويختفي من أسماء الأوس البطل الإسلامي العظيم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه لم يحضر أصلاً من المدينة المنورة إلى مكة.

بعد هذا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعاً مع هؤلاء النقباء قال لهم فيه: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم) يعني: أنتم مسئولون عن كل الأنصار، (وأنا كفيل على قومي -يعني: المسلمين من أهل مكة- فقالوا: نعم).

إذاً: الآن قسم المسئوليات، الاثنا عشر هؤلاء مسئولون عن الأنصار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسئول عن المهاجرين، وبعد ذلك طلب منهم أن يختاروا واحداً منهم يكون رئيساً لهم، وبالتالي يسهل عملية الاتصال والمتابعة والإدارة وغير ذلك من الأمور، فاختاروا أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه أصغر النقباء رضي الله عنه، لما يظهر عليه من موهبة فذة.
وبهذا انتهت مراسم البيعة الفريدة بنجاح في عقر دار المشركين، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله عز وجل، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].



الأربعاء، 3 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-5


موقف الأنصار من بنود بيعة العقبة الثانية


عادة في المفاوضات يناقش كل بند على حدة، فهذا البند نوافق عليه، وهذا البند مرفوض، وهذا فيه تعديل، هذا الكلام يحصل عادة في أي مفاوضات سياسية، لكن نحن قلنا قبل ذلك: إن الأنصار شيء آخر، الأنصار هم أنصار، فماذا قالوا؟ قام البراء بن معرور رضي الله عنه يتكلم عن وفد الأنصار، وقد كان رئيس الوفد المسلم، مع العلم أن البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه لم يسلم إلا منذ ثلاثة أيام، أسلم وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى مكة، لكنه كعادة الأنصار ولد إيمانه عملاقاً.

قال البراء بن معرور رضي الله عنه: (والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا -يعني: نساءنا- فبايعنا يا رسول الله! -وانتبه فهو الذي يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم- فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر) يعني: يشجعه على البيعة، أترون إلى مدى اشتياق الأنصار للبيعة على الجهاد؟ هذا هو الجيل الذي سينصره الله عز وجل، لكن وأثناء كلام البراء اعترض كلامه أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، أحد الصحابة الأجلاء القدماء الذين أسلموا في بيعة العقبة الأولى، قال: (يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها -أي: بيننا وبين اليهود عهوداً- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟).

الحقيقة أن موقف الأنصار خطير، فهم عقدوا معاهدات مع اليهود، وسيقطعونها، لكن ما الذي سيحصل لو أن دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتشر ووضعه استقر هل سيرجع مرة أخرى إلى مكة؟ وإذا رجع إلى مكة كيف سيكون وضعهم مع اليهود؟

قد يقول قائل: إن هذا الاعتراض فيه تطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: كيف تفترض أنه ممكن أن يتركك وأنت محتاج له؟ لكن حقيقة كلام أبي الهيثم كان بمثابة التحميس والدفع للأنصار بالمبايعة، فهو متأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتركهم، لكنه يخاف أن أحد الأنصار المشاركين في البيعة يفكر هذا التفكير؛ فيكون خائفاً من اليهود على مستقبل المدينة، فلو أن أبا الهيثم رضي الله عنه أثار هذه النقطة في هذه اللحظات سيغلق كل أبواب الشيطان، وسيريح الأنصار، من أجل ذلك تكلم بمثل هذا.

تبسم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!) إن قدر القيادة لا ينقص لو أن أحداً من الجنود اعترض على نقطة ما يريد التوضيح، والقيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل على العكس، القيادة الواعية لا تخيف الناس أو تكتم أفواههم، بل المفروض أن تشجع كل الناس أن يقولوا كل ما في صدورهم، وحينها سيشعر الناس أن قيادتهم ليست مفروضة عليهم، مثل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا منكم وأنتم مني).


ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يعلمنا أن أي إنسان قابل للمناقشة وللحساب وللاستجواب؛ لأنه في النهاية بشر، والبشر لابد أن يخطئوا، وليس شرطاً أن يكون مخطئاً كذلك، لكن نريد معرفة وجهة نظره، نستفسر، نتعلم، نضيف، نحذف، نعدل من أجل أن نصل إلى الأفضل، هذه هي العلاقة السليمة بين القائد والجند، وكذلك إذا أحس الجند أن القائد معهم في نفس المشكلة يشكو مما يشكون منه، يتألم مما يتألمون منه سيبذلون قصارى جهدهم، لكن على النقيض من هذا؛ لو أنهم أحسوا بتكبر القائد، وبسعادته وقت حزنهم، وترفهه وقت بؤسهم، وأمنه وقت خوفهم، وراحته وقت تعبهم، لو شعروا بهذه الأشياء كلها فمن المستحيل أن يعملوا بحماسة وجدية، لأنهم فقدوا مصداقية القائد، والقدوة فيه.


أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال في منتهى الصدق والتعاطف مع أبي الهيثم والأنصار: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)، فتشجع الأنصار عندما سمعوا هذه الكلمات، وقاموا مسرعين إلى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم،


لكن حصلت معارضة أخرى بعد هذا الكلام، قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يخاطب قومه قبل أن يبايعوا، وقال لهم: (هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، فقال العباس بن عبادة: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس -يعني: كل الناس-، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم -يعني: لو أسلمتموه- خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو -والله- خير الدنيا والآخرة).

العباس بن عبادة أيضاً من السابقين، ويعرف جيداً علامَ يبايع، لكنه يخاف أن يكون أحد الأنصار غير مستوعب لهذه التضحيات كلها، فيحاول أنه يوضح الرؤية على قدر استطاعته للأنصار، فرد عليه الأنصار وقالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.

إذاً: لابد من المبايعة له صلى الله عليه وسلم، فقاموا يبايعون، لكن قبل أن يبايعوا سألوا: ما الثمن لمصيبة الأموال وقتل الأشراف؟ ما الثمن للطاعة المطلقة في النشاط والكسل؟ ما الثمن للنفقة في العسر واليسر، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللجهاد والنصرة، وحرب الأحمر والأسود من الناس؟


قالوا: ( فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لكم الجنة ) ! الثمن لكل هذه التضحيات الجنة، ليس هناك وعد بشيء آخر، لا وعد بدولة ولا بتمكين ولا بنصر، مع أنه لابد أن يحصل كل هذا في يوم من الأيام، لكنك قد تموت شهيداً قبل التمكين بسنوات، قد تموت طريداً شريداً معذباً، قد يحدث كل ذلك، لكن المهم أنك ذاهب إلى الجنة، هذا هو المهم .


لما سمع الأنصار هذه الكلمة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن عندهم غير كلمة واحدة قالوها بعد ذلك، قالوا: (ابسط يدك يا رسول الله -يريدون مبايعته- فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يديه للأنصار من أجل أن يبايعوه)، لكن قبل أن يضع أي أنصاري يديه في يد الرسول صلى الله عليه وسلم قام الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه وأمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم -اعتراض ثالث- وقال يكلم الأنصار: (رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)


أي: نحن نعلم جيداً أنه رسول، ونعلم أن هناك جنة، ولكن الكلام سهل، كل الناس يريدون الجنة، لكن لابد أن تعرفوا العمل المطلوب منكم من أجل الدخول إلى الجنة، لابد أن تعملوا أشياء صعبة، قال أسعد بوضوح: (وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإن كنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، و أما إن كنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله)

قام الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه ليؤكد على نفس المعنى من جديد، لكن بألفاظ أخرى، من أراد أن يحيا حياة آمنة؛ يعبد الله عز وجل في بيته، أو في مسجده ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل، ولكن ليس له علاقة بتمكين دين الله في الأرض، ولا بالجهاد في سبيل الله، ولا بالدعوة إلى الله، ولا بالعمل الدءوب لله، ولا بالتضحية من أجل الله عز وجل، فعليه أن يبايع بيعة النساء، هذه تكفيه، أما من أراد أن يبايع بيعة الرجال، وبيعة الحرب فعليه أن يفقه هذه البيعة فقهاً جيداً، فهذه الاعتراضات كلها من أناس هم من السابقين أصحاب بيعة العقبة الأولى،


أرادوا بها أن يوضحوا للأنصار ولنا الصورة بأكملها، لكن الأنصار كلهم كانوا يفهمون شروط البيعة؛ لذا قالوا في منتهى الوضوح والحماسة: (يا أسعد : أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة)

يعطيهم الجنة بهذه الشروط؛ لأنه يعرف أن بداخلهم صدقاً كبيراً، لذا كان يعطيهم الجنة، وتمت البيعة الخالدة بيعة العقبة الثانية التي غيرت وجه التاريخ، والثمن الجنة .



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-4


بنود بيعة العقبة الثانية


تهيأت للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الصعب الحرج، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت فرصة كبيرة ليذهب إلى بلد كريم، وفي هذا الظرف يعرض على الأنصار شروطاً في منتهى المشقة لقبول استضافته، لم يعرضها على أحد آمن من قبل.

كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ييسر على الناس أمر الإيمان، كان يقبل أن يقوم الرجل بالفرائض فقط ولا يؤدي النوافل، وكان يقول: (أفلح إن صدق)، (إن صدق دخل الجنة) وليس هذا فحسب، بل كان يعطي الأموال من أجل أن يتألف قلوب الناس للإيمان.

أما الآن وهو في هذا الموقف الحرج فإنه يشترط شروطاً قاسية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يبني أمة، وفرق كبير بين بناء فرد صالح يعيش لنفسه ولأسرته، وبين فرد صالح في ذهنه وتفكيره أنه يحمل هم الأمة الإسلامية، ولا يعرف أن ينام وهو يرى حوله المنكر والظلم والكفر، ولو رأى أخاه يُظلم لابد أن ينصره، لو رأى أحداً يمس كرامة الأمة الإسلامية يقوم ويدافع عنها كما يدافع عن ابنه أو زوجته أو أمواله أو حياته، هذا هو الفرد المسلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيه في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية؛

من أجل ذلك قال لهم ما سيأتي، كما أنه كان يعلم أنه يخاطب أناساً على قدر المسئولية، كان يكلم الأنصار، ذكر لهم خمسة بنود:

الأول: قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل)، السمع في النشاط سهل، لكن في الكسل صعب، وكان من الممكن أن يقول: تبايعوني على السمع والطاعة، لكن الغرض هو توضيح الرؤية تماماً، سواء كنت كَسِلاً أو نَشِطاً لابد أن تسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتطيع له.
البند الثاني: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، كذلك النفقة في اليسر سهلة، لكن في العسر تحتاج إلى أناس معينين.
البند الثالث: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهذا هو دور الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم.
البند الرابع: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم)، الجهاد وكلمة الحق.
البند الخامس: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، ليس فقط تمنعوني فحسب، بل تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم؛ حبك لرسولك ولدينك ولأمتك لابد أن يكون أكثر من حبك لنفسك ولزوجتك وأولادك.

واضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبني مسلماً من طراز خاص سيحمل هم الأمة كلها!


الفرق بين بيعة العقبة الأولى والثانية


كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى يبني فرداً مسلماً مؤمناً يتصف بعقيدة سليمة، وبأخلاق حميدة: لا يسرق لا يزني لا يقتل، لكن أن تبني أمة فأنت تحتاج لما هو أعلى، تحتاج لبذل وعطاء ودماء، تحتاج لمكابدة لصبر لقوة لتحمل لتجرد، بناء الأمم يحتاج إلى أناس من نوع خاص، مثل الذين كان يشترط عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الشروط الصعبة، أما أن يكتفي المؤمن بالاعتقاد الصحيح، وبالصلاة، والصوم واجتناب الكبائر؛ من سرقة وزنا وقتل، فهذا جزء من الإسلام، نعم هو جزء مهم، لكن في النهاية هو جزء من الإسلام.

إن الناس يحتاجون لمن يقودهم إلى الخير، والإسلام يريد الذي يدافع عنه، ما أكثر من يعتدي على حرمات المسلمين، من سيدافع؟ ومن سيحمي؟ من سيجاهد ويكافح؟ من سيبلغ رسالة ربنا لكل الأرض؟ هذا هو الفرق بين البيعة الأولى والبيعة الثانية.

ويكفي أن البيعة الأولى التي اهتمت ببناء الفرد المسلم من دون جهاد أنها عرفت في التاريخ باسم بيعة النساء، بينما عرفت بيعة العقبة الثانية بهذه الشروط الصعبة بأنها بيعة الحرب وبيعة الجهاد.