الأحد، 23 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 24- الطريق إلى أحد-2

تصاعد الأزمة بين اليهود والمسلمين


تصاعدت الأزمة بين اليهود وبين المسلمين، فقد حدث أن امرأة من المسلمين قدمت إلى سوق بني قينقاع، وجلست إلى أحد الصاغة اليهود تبيع وتشتري منه، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها،

أي: يحاولون أن يقنعوها بأن تكشف وجهها، فرفضت المرأة ذلك، فأتى أحد اليهود من ورائها وربط طرف ثوبها في رأسها دون أن تنتبه، فعندما وقفت انكشفت سوءتها فصرخت، فجاء مسلم وقتل اليهودي الذي فعل ذلك، فاجتمع يهود بني قينقاع على المسلم وقتلوه، فكانت بوادر أزمة ضخمة جداً في داخل المدينة المنورة؛ حيث إن قبيلة بني قينقاع اجتمعت على قتل المسلم بعد أن قامت بجريمة كشف عورة المرأة المسلمة، ووصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبمجرد أن وصل إليه الأمر جمع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجهز الجيش وانطلق مباشرة إلى حصون بني قينقاع، وحاصر يهود بني قينقاع فيها، وأصر صلى الله عليه وسلم على استكمال الحصار حتى ينزل اليهود على أمره.

وهكذا حرك الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الجيش بأكمله من أجل كشف عورة امرأة مسلمة واحدة، وإنه ليحز في نفس الإنسان الآن أن يرى عورات المسلمات تكشف في أماكن كثيرة من العالم، بل وتنتهك الحرمات إلى درجة القتل والاعتداء على المرأة، وإلى درجة أمور يستحي الإنسان من ذكرها، تحصل كل هذه الأشياء ولا تتحرك جيوش المسلمين.

حرك الرسول عليه الصلاة والسلام حرك جيشاً كاملاً من أجل كشف عورة امرأة مسلمة واحدة، هذه هي عزة الدولة الإسلامية وكرامتها، فإنه حصل نوع من الامتهان لهذه الكرامة بهذه العملية الفاجرة من اليهود، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، وانطلق بجيشه إلى حصار بني قينقاع مع احتمال سقوط دماء كثيرة نتيجة القتال بينه وبين بني قينقاع، وتعرفون أن بني قينقاع من أصحاب السلاح والقلاع والحصون والبأس الشديد في الحرب، لكن مع هذا كله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ذلك هو ثمن بسيط جداً جداً أمام حفظ كرامة الدولة الإسلامية.

وبالفعل بدأ الحصار يوم السبت في نصف شوال سنة (2) هجرية، يعني: بعد غزوة بدر بأقل من شهر، وحاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع أسبوعين بالتمام، حتى ظهر هلال ذي القعدة، وقذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حكم الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم قتلهم لهذه المخالفة الشنيعة التي فعلوها، وليس فقط لكشف وجه المرأة المسلمة ولا لقتل المسلم، بل لتراكمات طويلة جداً، فإن اليهود في مخالفات مستمرة منذ أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وفي سب علني لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وسب للصحابة، وإثارة للفتن بين المسلمين، فكان لابد أن تكون هناك وقفة من الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن هذا يعرفنا على واقعية المنهج الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى في هذه اللحظة أن قوة المسلمين تسمح بردع قوة اليهود، فقام صلى الله عليه وسلم بحصار اليهود وقتالهم، ولو قارنا هذا الموقف مع موقف سابق مر بنا في فترة مكة، وهو قتل سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، فإنه عندما قتلت سمية اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، ولم يحرك مجموعة الشباب المسلم الموجود في فترة مكة لقتال أبي جهل ؛ لأنه يعرف أن القوة الإسلامية لا تسمح بهذا الأمر في ذلك الوقت؛ من أجل ذلك لم يقم الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإجراء في فترة مكة، لكن الآن قد أذن بالقتال، بل فرض على المسلمين، وقوة المسلمين تسمح، فاختار الرسول عليه الصلاة والسلام هذا القرار.

فإذا أردنا أن نتأسى به صلى الله عليه وسلم في علاقتنا مع المشركين أو مع اليهود أو مع أعداء الأمة بصفة عامة، علينا أن ندرس جيداً الظرف الذي أخذ فيه صلى الله عليه وسلم القرار أياً كان هذا القرار. نزل اليهود على حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وخرجوا من حصونهم، والقرار كان قتل بني قينقاع، هنا جاء وكان عبد الله بن أبي ابن سلول قد أسلم منذ أيام قليلة، أي: لم يمض على إسلامه شهر، وكان حليفاً لبني قينقاع، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن في مواليه في بني قينقاع، فرفض الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه جريمة عسكرية كبرى وفتنة كبيرة تحدث في المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ القرار، فكرر ابن أبي الطلب مرة وثانية وثالثة، ثم أدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لبسه أثناء الحرب،

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسلني)، وغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال له: (ويحك أرسلني)، لكن المنافق عبد الله بن أبي أصر على إمساك الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر.

هكذا قال بمنتهى التصريح. إن عبد الله بن أبي كان حليفاً لبني قينقاع، وبنو قينقاع فيهم جيش قوامه (700) رجل، (400) حاسر و(300) دارع، يعني: (400) من غير دروع، و(300) عليهم دروع الحرب، هؤلاء السبعمائة قد منعوا عبد الله بن أبي -كما يقول هو- من الأحمر والأسود، فهي القوة العسكرية الرئيسية المساعدة لـعبد الله بن أبي زعيم الخزرج قبل أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا يمنعونه من الأحمر والأسود أي: من كل الناس

والرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يقتلهم جميعاً في لحظة واحدة، لكن ابن أبي يقول: إني والله امرؤ أخشى الدوائر، أي: تدور الدوائر بعد ذلك على المدينة فلن ألقى شخصاً يحميني، قال ذلك ولم يفكر في الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يفكر في الجيش الإسلامي، ولم يفكر في انتمائه، بل إن كل تفكيره كان في عقائده الجاهلية التي كان عليها، فعلاقته باليهود كانت أشد توثيقاً من علاقته برسول الله صلى الله عليه وسلم،

ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعذره؛ لأن إسلامه لم يزل حديثاً، وكان يؤمل كثيراً في إسلامه خاصة أن وراءه مجموعة كبيرة من الناس، فعامله صلى الله عليه وسلم بالحسنى في هذا الموقف، وقبل منه أن يفتدي هؤلاء، ولكن اشترط عليه أن يتركوا المدينة المنورة بأكملها، فقبل اليهود بذلك، وخرجوا من المدينة المنورة إلى منطقة تسمى أذرعات بالشام، ويقال: إنهم قد هلكوا بعد فترة وجيزة هناك، وبهذا انتهت قصة بني قينقاع من المدينة المنورة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق