الأحد، 16 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 20- أهل بدر-5


مقدمات غزوة بدر


كذلك فعل أبو جهل أحد كبار شياطين الإنس في مكة، دفع نفسه وزعماء مكة جميعاً للخروج إلى حتفهم، وقصته مع أمية بن خلف معروفة ذكرها البخاري في صحيحه، كان أمية بن خلف من عتاة الإجرام، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه صديقاً له في الجاهلية وقد زار سعد مكة وأحب أن يطوف، وفي أثناء زيارته لمكة قال سعد لـأمية : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنهم قاتلوك)، أي: أن المسلمين سيقتلون أمية بن خلف ، ففزع أمية بن خلف وقال: بمكة؟ قال سعد : لا أدري.


ازداد رعب أمية ، ورجع مسرعاً إلى أهله وقال لزوجته: يا أم صفوان ! ألم تسمعي ما قال لي سعد ؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمداً أخبرهم أنهم قاتلي، فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري، فقال أمية : والله لا أخرج من مكة.


إن هذه القصة تعرفنا كيف أن أهل الباطل يقرون من داخلهم أن أهل الإيمان هم على حق، وأن كلامهم صحيح لا خطأ فيه، وحق لا باطل فيه، لكن الكبر والبطر يمنعهم من الإيمان. كذلك هذه القصة تثبت المؤمنين، فلا بد لكل مؤمن أن يعرف أن عدوه من داخله مرتعب منه مهما كان هذا العدو قوياً، ومهما كان أعوانه كثراً. ولما قرر جيش مكة الخروج خاف أمية أن يخرج مع الجيش؛ لأنه يعرف أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق، أتاه أبو جهل فقال له: يا أبا صفوان ! إنك متى ما يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك.


حاول أن ينافقه قليلاً، لكن أمية قال له: هذا ليس مزحاً سأموت، فأرسل إليه أبو جهل عقبة بن أبي معيط ، وعقبة بن أبي معيط مجرم شيطان، فقد ذهب وأحضر لـأمية بن خلف طيباً خاصاً بالنساء، فوضعه بين يديه وقال له: تطيب.
إنما أنت من النساء، فقال أمية : قبحك الله! فاستحى أن يكون جميع الرجال قد خرجوا وهو قاعد، فقرر أمية بن خلف أن يخرج وينفذ خطة كي يرجع،


وقرر أن يشتري أجود بعير في مكة ليقوم بالهروب إن سنحت له فرصة، ورجع إلى البيت وتجهز للخروج فقالت له أم صفوان : أوقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريباً، وفي أثناء الطريق قرر أمية الرجوع أكثر من مرة، لكن أبا جهل كان يأتيه ويكمل الطريق معه حتى وصلوا بدراً، وكان مصيره مثلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قال تعالى: (( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا )) [الطارق:15-16] سبحان الله! رأس الباطل أبو جهل هو الذي يدفع جنده إلى الهلكة، انظروا ماذا يقول الله سبحانه وتعالى: (( اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ )) [فاطر:43]، فـأبو جهل كان يعتقد أن هذا هو أفضل إعداد، وأنه قد مكر بالمسلمين.


خرج جيش مكة، وفي الطريق قبل أن يصلوا إلى بدر وصلتهم رسالة أخرى من أبي سفيان يقول فيها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا. اكتشف أبو سفيان تحركات الجيش المسلم، وعلم أنه سينتظر في بدر، وبسرعة غير اتجاهه ناحية الغرب، وسار على ساحل البحر الأحمر وأفلت بالقافلة، وكان أبو سفيان يرى أنه لا داعي للدخول في صدام دون إعداد جيد مسبق، فالأفضل تدبير أمر الجيش بترو.


وجدت هذه الرسالة هوى في قلب أمية بن خلف وغيره، فأراد الجميع الرجوع، لكن أبا جهل قام لهم، وأخذ يدفعهم دفعاً، كما دفع فرعون جنده للدخول في البحر خلف موسى عليه السلام.


قال أبو جهل للجيش: والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم بها ثلاثاً، فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف القيان. أي: المطربات، وهذا كعادة أهل الباطل دائماً، عند مناسبات النصر يعدون حفلة ويأتون فيها بالمطربين والمطربات، ويأكلون ويشربون الخمر، ويفعلون أشياء من هذا القبيل. لكن المسلمين يحتفلون للنصر بصلاة الفجر وسجدة الشكر، يحتفلون بصدقات وإعتاق عبيد ورفع لذكر الله في الأرض، أما أهل الباطل فعلى العكس تماماً، لا يذكرون الله سبحانه وتعالى أبداً لا في نصرهم ولا في هزيمتهم، فهم لم يخرجوا إلا إرضاء لأهوائهم ورغبة في الذكر عند الناس، يتضح ذلك جلياً في قول أبي جهل : وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً.


فكل الذي في رأسه ذكر الناس لهم، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [الأنفال:47]، وبرغم إصرار أبي جهل إلا أن مجموعة من المشركين انشقت عن الصف ورفضت إكمال الطريق، هذه المجموعة كان يقودها الأخنس بن شريق ، وأخذ معه بني زهرة بالكامل وكان تعدادهم 300 مقاتل، وعاد بهم إلى مكة.


إن هذه الانقسامات داخل حزب الباطل هي نصر كبير للمؤمنين، فالجيش المكي أصبح ألف مقاتل وأكمل الطريق حتى نزل قريباً من بدر عند مكان يعرف بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق