الأحد، 23 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 25- يوم أحد-7


موقف النبي صلى الله عليه وسلم 
وأصحابه من شهداء أحد


نزل الرسول عليه الصلاة والسلام من فوق الجبل ليتفقد الشهداء، وكان موقفاً مريعاً، سبعون من أفاضل المسلمين كلهم ملقى على أرض أحد، كان منهم: حمزة بن عبد المطلب وعمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وحنظلة، وخيثمة، كثير من شهداء المسلمين سقطوا في يوم أحد، فوقف صلى الله عليه وسلم ونظر إلى الشهداء وقال: (اللهم إني شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك).

وكان هناك أناس من الصحابة أخذوا بعض الشهداء ليدفنوهم في المدينة، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يردوا جميعاً إلى أرض أحد ويدفنوا فيها، وألا يغسلوا ولا يكفنوا، بل يدفنوا في ثيابهم بعد أن تنزع الدروع والجلود من فوقهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين أحياناً في ثوب واحد، ويقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) فمن كان يحفظ القرآن أكثر وضعه الأول في اللحد.

وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) مرة ثانية، وكررها كثيراً في ذلك اليوم، وكان إذا علم أن بين اثنين من الصحابة محبة كبيرة دفنهما معاً، فدفن عبد الله بن عمرو بن حرام مع عمرو بن الجموح رضي الله عنهم أجمعين.

ولما رأى صلى الله عليه وسلم ما حدث بـ حمزة رضي الله عنه اشتد حزنه وتقطع كبده صلى الله عليه وسلم وبكى بكاءً شديداً، وانتحب حتى نشغ -كما يقول الراوي- من البكاء، يعني: صار له شهيق عال من البكاء.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب) بل وضعه صلى الله عليه وسلم في القبلة وصلى عليه مع كل شهيد رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم.

كذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه ممن قتل شهيداً في يوم أحد، وكفن في ثياب بالية رثة، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه.

وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (غطوا بها رأسه بهذه البردة، واجعلوا على رجله الإذخر) والإذخر نبات.

إن وضع الشهداء كان مؤلماً جداً للمسلمين، ومع كل هذه الأحداث جمع الرسول صلى الله عليه وسلم كل الموجودين في أرض القتال، وقال لهم: (استووا حتى أثني على ربي عز وجل) يا الله! موقف عجيب في كل مواقفه صلى الله عليه وسلم، فصاروا خلفه صفوفاً، فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو والجميع يؤمن على دعائه، استمعوا إلى دعائه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق).

هذا دعاء جميل، دعاء فيه الشكر الدائم لرب العالمين سبحانه وتعالى في كل الظروف، حتى لو كان ذلك بعد مصيبة أحد، دعاء فيه إعلان أن كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى قادر على منع الهزيمة، لكنه أوقع المصيبة بالمسلمين لِحكَمٍ كثيرة يعلمها، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166].

إذاً: هذا دعاء فيه تعظيم الآخرة في عيون الصحابة، خاصة في هذا الموقف، لما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول) حتى لو ضاقت الدنيا كلها وأعطيتنا الآخرة فنحن الرابحون، دعاء فيه وضوح الرؤية في حرب كل من صد عن سبيل الله، سواء كانوا من المشركين أو من الكفرة من أهل الكتاب الذين قاتلوا المسلمين، دعاء جامع شامل يعبر عن فهم دقيق للحبيب صلى الله عليه وسلم.

رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، واستقبل في حزن شديد، فكل بيت تقريباً فيه شهيد، وقابلته في الطريق حمنة بنت جحش رضي الله عنها ونعى إليها صلى الله عليه وسلم أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له الله عز وجل، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة منها لبمكان). وجاءت امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها في أحد، فنعوا لها جميعاً، فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الزوج والأخ والأب لم يشغلوا بالها، وأخذت تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: خيراً يا أم فلان! هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشاروا إليه، فقالت: كل مصيبة بعدك جلل.
يعني: صغيرة ويسيرة، هذه مشاعر الحب التي كانت من المسلمين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مع المصاب الفادح الذي أصيب به الجميع.



حقيقة غزوة أحد وأسباب مصيبة المسلمين فيها


لابد أن نقف وقفة ونقول: يا ترى ماذا نسمي أحداً؟ هل نسميها هزيمة أو نسميها نكسة؟ أو ماذا نسميها؟ عندما تراجع أحداث غزوة أحد سواء أثناء الغزوة أو بعد الغزوة، فإنك تجد أن كلمة هزيمة لا تنطبق على وصف غزوة أحد، فالجيش المكي لم يحتل موقع الجيش المسلم، والجزء الأساسي من الجيش المسلم لم يفر مع شدة الارتباك، نعم، هناك من فر، لكن مجموعة كبيرة من المسلمين بقيت في أرض المعركة، منهم من قاتل حول الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قاتل حتى استشهد.

والجيش المكي لم يفكر في مطاردة المسلمين، ومع أن أبا سفيان خاطب عمر بن الخطاب وأدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي وأنه في الجبل لم يفكر أن يصعد إلى الجبل مرة أخرى، ومع أن كل الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة قليلة من المسلمين، كذلك لم يقع أسير واحد من المسلمين في أيدي الكفار مع هذا الأمر الشديد الذي تحدثنا عنه، لكن في غزوة بدر أسر المسلمون سبعين من المشركين.

كما أنه لم تكن هناك غنائم مسلمة في أيدي الكفار، ولم يقف الجيش المكي في أرض المعركة يوماً ولا يومين ولا ثلاثة، بل عادوا إلى مكة في ذلك الوقت، وقد قعد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام، وقعد في غيرها من الغزوات ثلاثة أيام، بل إنه كان يقعد شهراً كاملاً في أرض القتال، لكن الكفار غادروا أحداً، ولم يفكروا في غزو المدينة المنورة مع أن المدينة خلا منها الجيش، فكل ذلك يدل على أن الموقعة ليست هزيمة للمسلمين،

لابد لها من وصف آخر، سنسميها كما سماها الله سبحانه وتعالى، فالله سماها في الكتاب الكريم: مصيبة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166].



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق