الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-7


الأعمال النبوية التي قام بها صلى الله عليه وسلم
بعد وصوله إلى المدينة المنورة



لابد أن تركز على الترتيبات النبوية بعد وصوله مشارف المدينة، أول شيء فعله كذا ثم كذا ثم كذا، فهذا الترتيب مقصود، وكل الإشارات في حياته صلى الله عليه وسلم لها معنى، بل كل حركة وسكنة في حياته كانت بتوجيه ومراقبة من رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى اختياراته البشرية صلى الله عليه وسلم التي كانت لا تتوافق مع ما يريده رب العالمين سبحانه وتعالى؛ كان ينزل جبريل عليه السلام مباشرة ليعدل المسار للرسول صلى الله عليه وسلم، وليوضح لهم مراد رب العالمين سبحانه وتعالى من هذه النقطة، فأصبحت السيرة النبوية من أولها إلى آخرها بوحي وتأييد من رب العالمين سبحانه وتعالى.


ولا وصول إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا باتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالترتيب الذي فعل صلى الله عليه وسلم.



بناء مسجد قباء وبعده المسجد النبوي وأهمية ذلك


أول الخطوات إنشاء مسجد قباء، فقد ظل صلى الله عليه وسلم في قباء أسبوعين تقريباً، وانتقل بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وسنرجع إلى النقطة هذه بعد قليل.


في المدينة المنورة استُقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار استقبالاً كبيراً جداً ومشرفاً مرة أخرى، بعد أسبوعين من انتقاله من قباء، وتسابق الأنصار جميعاً بشتى قبائلهم على استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد من الأنصار يريد أن تأتي ناقته صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فكل فرد من الأنصار يريد أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كلمة أصبحت منهجاً لحياة الصحابة بعد ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة).


أي: دعوا الناقة فإنها مأمورة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنا أيضاً مأمور، والمؤمنون جميعاً مأمورون: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يختار إذا كان الله هو الذي يختار له أمراً من الأمور، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد أجلس في بيت فلان أو بيت فلان، أو بيت أقربائي من بني النجار، أو بيت صحابي كبير، أو أحد ممن أحبهم، لكن إذا أمر الله عز وجل فلا مجال للهوى ولا مجال للاختيار، فالذي يأمر الناقة هو رب العالمين سبحانه وتعالى، وعلينا جميعاً أن نسمع ونطيع؛ هكذا علمهم بوضوح، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ليقول للرسول عليه الصلاة والسلام: انزل في بيت فلان، أو ضع المسجد في هذا المكان الفلاني، لكن هذا المشهد العلني أمام الجميع، والجميع يتسابق لاستقباله صلى الله عليه وسلم، وهو يخرج نفسه تماماً من الاختيار ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين، هذا المشهد زرع معنى مهماً جداً، سيظل معنا طول فترة المدينة المنورة، وما أكثر التشريعات والأحكام التي نزلت في المدينة المنورة، وقد لا يفقهها عامة الناس، وقد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين، وبركت الناقة في مكان معين في المدينة المنورة، وفي هذا المكان قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي.


فأول شيء فعله صلى الله عليه وسلم في قباء هو بناء المسجد، وأول شيء فعله في المدينة المنورة بناء المسجد النبوي، وفعله هذا ليس مصادفة أو إشارة عابرة، بل هو منهج أصيل.


فلا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل لدور المسجد؛ فالمساجد في هذا الوقت كثيرة، لكن كثيراً منها غير مُفعّل كمسجد، مخطئ من ظن أن المسجد لم ينشأ إلا لأداء الصلوات الخمس فقط، بل في بعض الدول الإسلامية يُقفل المسجد مباشرة بعد الصلاة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط.


إن دور المسجد في بناء الأمة الإسلامية أعمق من ذلك بكثير، وليست أهمية المسجد في حجمه أو شكله أو زخرفته أو قص الشريط لفتحه، هذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، وكان يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، ولفظ ابن خزيمة: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، تجد المساجد ضخمة وكبيرة جداً وتجد فيها صفاً أو صفين! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أُمرت بتشييد المساجد) والتشييد: رفع البناء زيادة عن الحاجة، وقال في رواية أبي داود: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)، نهتم بالشكليات كالرخام والزخارف وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية داخل المسجد.


والمسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية، من ذلك: الحفاظ على إيمان المسلمين، فالأساس الرئيسي الذي اجتهد صلى الله عليه وسلم في زرعه في صحابته هو الإيمان بالله عز وجل، والمسجد كما يظهر من اسمه هو مكان للسجود لرب العالمين سبحانه وتعالى، للرضوخ الكامل له، والطاعة المطلقة لكل أوامره.


فمن الصعب جداً أن يجلس المسلمون في بيت الله عز وجل؛ ليأخذوا قراراً أو يعتمدوا رأياً، ثم هم يخالفون ما أراده الله عز وجل منهم.


والمسجد مكان يحفظ على المسلمين دينهم؛ ولهذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، فالصلاة في المسجد لا ينبغي التخلف عنها إلا في ظروف ضيّقة ومحدودة؛ لأن المسجد مكان لالتقاء المسلمين وتقوية للأواصر بينهم، فعدم الحضور لصلاة الجماعة في المسجد عمل لا يقوي الأواصر بين المسلمين، فأنت إذا كنت تحافظ على الصلاة خمس مرات في اليوم، فستكون علاقتك بأخيك المسلم الذي تراه في المسجد خمس مرات في منتهى القوة، فإذا أصابه مرض أو مشكلة أو أزمة عرفت ذلك بسهولة، فالمسجد يقوي وينمّي الروابط والأواصر بين المسلمين، كما أنه يذيب الفوارق بينهم، فالحاكم بجوار المحكوم، والوزير بجوار الغفير، يتعاون فيه المسلمون على البر والتقوى، دون النظر إلى الفوارق الطبقية التي بينهم.


والمسجد مدرسة لتعليم المسلمين كل أمور حياتهم، كما أنه مكان لقيادة الأمة.
فزعماء الأمة الإسلامية في زمن ازدهارها كانوا دائماً مرتبطين بالمسجد، فعدم دخول زعماء الأمة المسجد إلا في المناسبات فقط مأساة كبيرة، فإن صلاح الدين الأيوبي كان يصلي في المسجد، وكذلك نور الدين محمود و عبد الرحمن الناصر و عبد الرحمن الداخل ويوسف بن تاشفين ، وأي بطل من أبطال الإسلام والمسلمين، وأي قائد رفع رأس الأمة فترة من الزمان كان مرتبطاً بالمسجد، وأي واحد يتخلى عن المسجد أبى الله عز وجل إلا أن يخزيه في الدنيا والآخرة.


إذاً: سياسة الأمة الإسلامية كلها في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كانت تُدار من داخل المسجد، تسيير الجيوش من داخل المسجد، قرارات الحرب من داخل المسجد، المعاهدات من داخل المسجد، استقبال الوفود في داخل المسجد، القضاء في المسجد، مقر الحكم في الإسلام وبيت الحكم هو بيت الله سبحانه وتعالى المسجد. كذلك كان المسجد مكاناً لإعلان أفراح المسلمين، ومكاناً لتربية الأطفال، ومكاناً للترفيه الأدبي، كذلك كان المسجد مأوى للفقراء وعابري السبيل، ومكاناً لمداواة المرضى، هذا كله له أدلة كثيرة في السيرة النبوية، وله مواقف كثيرة، والوقت لا يتّسع ويحتاج إلى محاضرات لتفسير دور المسجد في حياة المسلمين؛ لأن كل جزئية من جزئيات الحياة للمسجد فيها دور.


وليس معنى هذا أنني أحول المسجد الآن إلى مستشفى ودار ضيافة ومحكمة ووزارة، ليس هذا هو المقصود، إنما المعنى الذي يجب ألا يغيب أبداً عن الذهن هو أن تربية المسجد أساسية في إدارة كل هذه الهيئات، والذي لا يعرف لله حقه لن يعرف للخلق حقوقهم، والذي ليس له ضوابط من الشرع لن تكون هناك حدود لظلمه وفساده وضلاله في الأرض، والذي لا يعرف طريق المسجد لا يعرف طريق الحق والعدل والأمانة والشرف.


هذه المعاني السابقة تعرفنا بوضوح المعنى العميق الذي ذكره ربنا سبحانه وتعالى في الآية القرآنية: (( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا )) [البقرة:114]


فمن منع الناس من تفعيل دور المسجد لم يؤثر فقط على المصلين في المسجد، ولكن يؤثّر على المجتمع بكامله؛ لذلك عظّم الله عز وجل من شأن هذه الجريمة فقال: (( أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) [البقرة:114]. فأول شيء فعله الرسول عليه الصلاة والسلام في بناء دولته أن بنى مسجد قباء في قباء، وبنى المسجد النبوي في المدينة المنورة.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-6


وقفة مع لحظة التمكين 
لرسول الله صلى الله عليه وسلم



قبل أن نعرف ما الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، أريد أن أقف وقفة وأقول: إن لحظة التمكين قد تكون قريبة جداً، راجع معي الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات.

قبل ثلاث سنوات من الهجرة كان عام الحزن الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة رضي الله عنه وأرضاها، وأظلمت مكة تماماً، وأُغلق فيها باب الدعوة، حتى اضطر الرسول عليه الصلاة والسلام لأول مرة في تاريخه أن يخرج من مكة المكرمة سعياً وراء إيصال الدعوة إلى غيرها؛ لأنه لم يجد أحداً في مكة المكرمة سيؤمن في تلك اللحظة، وخرج صلى الله عليه وسلم في مشوار طويل شاق جداً إلى الطائف، وتعلمون جميعاً ما حدث في الطائف، وخرج منها صلى الله عليه وسلم وقد رُمي بالحجارة وأُلقي التراب فوق رأسه وسُب بأقبح الألفاظ، ودخل مكة بعد ذلك في جوار مشرك وهو مطعم بن عدي، والمحلل للوضع يجد أنه من المستحيل حقاً في عرف أهل الدنيا وفي حسابات المادة أن تقوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين المضطهدين المشردين المعذبين في داخل مكة المكرمة دولة، ولو بعد عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة.



وراجع مرة أخرى الفترة المكية لتعرف صعوبة هذه الفترة، لا يوجد فيها أي أنصار من أي نوع، رفضت مكة الإيمان، ورفضت الطائف الإيمان، ورفضت كل القبائل التي أتت في العام العاشر والعام الحادي عشر من البعثة جميعاً الإيمان بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل من كل الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم الإيمان إلا ستة من الخزرج في آخر العام الحادي عشر من البعثة، كانت هذه الأحداث قبل الهجرة بسنتين، وفي غضون سنتين أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً لدولة، ومع أن الدولة بُقعة صغيرة لا تُرى على خريطة العالم في ذلك الوقت في المدينة المنورة، لكن أصبحت له دولة وأصبح ممكناً وزعيماً، وأصبح الجميع يسمع له ويطيع.


سبحان الله! حصل هذا بدون أي نوع من الشواهد، لم نكن نرى أي شاهد، لكن إذا قارنت هذا الوضع بما نحن عليه الآن في عصرنا هذا فإنك ستجد أن الشواهد لإقامة الأمة الإسلامية كثيرة جداً، راجع ثلاثين سنة أو أربعين سنة مضت كيف كان وضع المسلمين ووضعهم حالياً بفضل الله؟ كم من الناس يصلون الآن في المساجد؟ ففي الستينات لم يصل من الناس في المساجد إلا عدد قليل نادر، وتجد المصلي كبيراً جداً في السن، وانظر الآن إلى المساجد بحمد الله، فإنك ستجد عدد المصلين هائلاً وبالذات من الشباب.


كم من المحجبات والملتزمات بالزي الشرعي؟ كم من الدعاة أصحاب الفهم الصحيح الشامل للإسلام انتشروا في بقاع الأرض بكاملها؟ كم من الهيئات تتبنى الآن شئون الإسلام؟ بل انظر إلى كم من المتسلقين الراغبين في السيطرة على أفكار الناس يلوحون بالإسلام وينافقون المسلمين؟ فمن ثلاثين إلى أربعين سنة لم يكن هناك شيء اسمه نفاق للإسلام؛ لأن الإسلام كان ضعيفاً، أما في هذا الوقت فإن الجميع ينافق المسلمين، وإذا رأيت الرجل ينافق الإسلام أو ينافق المسلمين فاعلم أن الإسلام قوي وقاهر، وأن له حضوراً وهيبة وعظمة في قلب هذا الذي ينافق؛ ولذلك ينافقه، وبفضل الله الآن لو راجعنا قلوب ومشاعر العالم الإسلامي بصفة عامة تجد فيها انسياقاً طبيعياً فطرياً للإسلام.

أيضاً عند الانتخاب مثلاً تجد الناس يختارون من رفع لواء الإسلام وشعاره، وإن كانوا لا يعرفون اسمه؛ وذلك لأنه يتبنى الفكر الإسلامي الذي يحبه الناس، فهذه كلها علامات وشواهد على قرب قيام الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بإذن الله.



أما أيام الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن هذا موجوداً في فترة عام الحزن ولا في العام الذي تلاه، ومع ذلك قامت الأمة الإسلامية، وأقيمت دولة إسلامية تقيم شرع الله عز وجل في غضون ثلاث سنوات فقط.



الثلاثاء، 11 يونيو 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-5


بداية العهد المدني
بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه



نحن وقفنا في محاضرات مكة المكرمة على أمر الهجرة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام هاجر هو وكل المسلمين الذين يستطيعون الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

وعند دخولنا المدينة المنورة لفت الأنظار مباشرة رد فعل الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم لدخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، كان فرحاً شاملاً في كل المدينة المنورة، فقد استقبلوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالأناشيد والأهازيج كما تعلمون جميعاً: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع إلى آخر الكلمات التي كان يقولها الأنصار بحب حقيقي وفرح فطري في داخلهم، وهذا الفرح بتحمل المسئولية أمر غريب يحتاج منا إلى وقفة، فشتان بين من يبحث عن الدعوة ومن تبحث الدعوة عنه، وشتان بين من يبحث عن الجهاد ومن يبحث الجهاد عنه، وشتان بين من يبحث عن التضحية ومن تبحث التضحية عنه، فالأنصار كانوا يبحثون عن الدعوة وخدمة الإسلام.


ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المدينة المنورة، ودخوله هذا معناه خطير جداً، معناه: حرب الأحمر والأسود من الناس.
معناه: مفارقة العرب قاطبة.
معناه: العداء المستمر مع اليهود الذين يسكنون في داخل المدينة المنورة، ولهم علاقات قديمة جداً مع الأنصار.
معناه: تضحية وبذل وإنفاق وموت في سبيل الله عز وجل.
كان الأنصار يعرفون جيدًا هذه المعاني قبل أن يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة؛ لأنهم عاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية على النفقة في العسر واليسر، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وعلى أن ينصروه إذا قدم إليهم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، كل هذا في مقابل الجنة.

ومستحيل أن يدفع أحد هذه الأشياء جميعها من غير أن يكون عنده إيمان يقيني جازم أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن الجنة حق، وأنه سيدخلها بهذه الأعمال التي قدمها من أجل الله عز وجل.


إذاً: ففرح الأنصار هذا يعبر عن طبيعة الأنصار التي سوف نراها بعد هذا في كل مراحل المدينة المنورة، في كل الفترات سواء في داخل المدينة أو في خارج المدينة، فكل الأحداث عطاء مستمر متواصل يعجب له الإنسان، ولا يفقهه إلا من يعلم أن الأنصار مؤمنون إيماناً يقينياً بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في حق الأنصار كلمات جميلة تُكتب بماء الذهب وبما هو أغلى من الذهب، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار).


فإذا كنت تحب الأنصار فأنت مؤمن، وإن كنت تبغضهم فأنت منافق، فانظر كيف أصبح إيمان العبد بقدر وشرف الأنصار علامة من علامات صدق إيمانه، والذي لا يحب الأنصار يجب عليه أن يراجع نفسه، فهؤلاء الأنصار خرجوا فرحين جداً بتلقي كم هائل من المشاكل التي سوف تحدث في المدينة المنورة بعد دخول الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فرحين لأن هذا هو طريق الدعوة الذي سيوصلهم إلى الجنة، وأنتم تعرفون هذا من قبل، الطريق صعب لكن نهايته الجنة، وفرحهم هذا كان فرحاً إيجابياًّ وليس مجرد فرح قلبي.
من أول يوم خرجوا إليه بالسلاح، والخروج بالسلاح فيه معنى التشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زماننا هذا الوقت عندما نستقبل رئيساً أو شخصية كبيرة نستقبلها بالسلاح أو بما يسمى تشريفة السلاح هذا.


فهذا فيه تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا فهو تطمين لقلبه صلى الله عليه وسلم أنهم ما زالوا على عهد البيعة التي عقدوها معه قبل ذلك في مكة المكرمة بيعة العقبة الثانية، وهناك أعداء كثر في داخل المدينة المنورة وفي خارجها يتمنون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير من المشركين موجودون في داخل المدينة المنورة، معظم أهل المدينة كانوا لا يزالون غير مؤمنين، وعندك أيضاً مشركو مكة الذين استمروا في تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، ولم يفلت منهم صلى الله عليه وسلم إلا عند دخوله إلى قباء أول مواضع المدينة المنورة، وقلنا قبل هذا إن قبيلة أسلم اعترضت الرسول عليه الصلاة والسلام قبل دخوله إلى المدينة المنورة بقليل؛ بغية القبض عليه لتسليمه إلى قريش؛ لنيل الجائزة الكبرى التي أعطتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مائة من النوق، وهو رقم ضخم في ذلك الزمان.


الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه مخاطر كثيرة داخل المدينة وخارجها، فالأنصار من أول لحظة يقولون: نحن معك بالسلاح، ونحن مستعدون أن نفديك بكل ما نمتلك من أموال وأرواح وكل شيء.


إذاً: كان هذا وضع الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، واستقبالهم الحافل برسول الله صلى الله عليه وسلم استقبال مشرف حقيقة، ينبئ ويخبر عن طيب وحسن طبيعة الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-4


شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم
والعمل بمقتضاها


الثاني: الإيمان الكامل والجازم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى برسالة منه إلى البشر عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ما حرمت مثل الذي حرم الله) تماماً بتمام؛ لأن السنة وحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، والقرآن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.


فلو كان الناس لا يفهمون معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وظنوا أنه مجرد رجل حكيم أو عبقري أو سياسي قدير أو كذا من الأمور، لأخذوا من كلامه وردوا حسب ما أرادوا، لكن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يزرعه في فترة مكة المكرمة أن ما يقوله هو وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، سواء كان كلام رب العالمين القرآن، أو كان وحياً وعبّر عنه صلى الله عليه وسلم بالمعنى، سواء الحديث القدسي أو الحديث النبوي كما نعلم جميعاً.



الإيمان الجازم باليوم الآخر


الثالث: الإيمان الجازم بأن هناك بعثاً يوم القيامة، وأن هناك حساباً من إله قدير عليم حكيم، يثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار.
هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا يدعو المشركين جميعاً إلى الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى.
قال: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعلمون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً).


الآثار المترتبة على الإيمان بالشهادتين واليوم الآخر


هناك أمور أخرى كثيرة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم منها: تقوية الأواصر بين المسلمين، زرع الأخلاق الحميدة، وتنمية روح التسامي والتضحية عند المسلمين، والبذل والعطاء، لكن لن تتحقق هذه الأمور كلها إلا إذا آمنت أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة إيماناً يقينياً جازماً.
قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].


هل نستطيع أن نفهم تطبيق شرع الله في حياتنا من غير أن نفهم هذه الأصول أو الأسس الثلاثة؟ في فترة المدينة المنورة جاءت تشريعات وقوانين كثيرة جداً، ولن يطبق هذه القوانين إلا من رُبِّي تربية صادقة صحيحة في فترة مكة المكرمة، أو تربى في المدينة المنورة على هذه الأصول الثلاثة المهمة.


فإن كان الإيمان ضعيفاً كان الانسياق للقانون الذي أتى من عند رب العالمين عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أيضاً، ومن ثم كان بناء الأمة الإسلامية ضعيفاً، والدستور الإسلامي هو أحكم قانون عرفته الأرض؛ لأنه من عند رب العالمين سبحانه وتعالى الذي يعلم ما يصلح العباد وما ينفعهم؛ لهذا كان اختياره لنا دائماً أفضل من اختيارنا لأنفسنا، والمسألة مسألة إيمان ويقين كما ذكرنا، إلا أن فلسفة الحكم في الإسلام لا تعتمد فقط على دقة القوانين وإحكامها، ولا تعتمد على مهارة الحاكم وحسن إدارته، بل تعتمد أيضاً على الشعور الدائم من المسلم بأنه مراقب من رب العالمين سبحانه وتعالى، وليست فقط رقابة ظاهرية، بل رقابة للباطن أيضاً: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29].
ويصف ربنا سبحانه وتعالى نفسه بقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].


ونتيجة هذه المراقبة سيكون الحساب يوم القيامة ثم الجنة أو النار، ومن ثم الأمة التي تؤمن بالله لا تخالف الدستور أو القانون الإلهي حتى في غياب عين الحاكم، أو حتى في غياب المدير أو الشرطي، وما ذلك إلا لأنها تعلم أن الله عز وجل يراقبها.
هذه هي فلسفة الحكم في الإسلام، لو أحسن المسلمون فقه هذه الفلسفة لكانت أمة الإسلام هي أكثر الأمم انضباطاً في تنفيذ قوانينها.


ولو أضفت إلى هذا حقيقة أن القانون الإسلامي هو أفضل قانون في الأرض بلا منازع؛ فإن هذا يفرز أفضل أمة بكل المقاييس؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فأنتم خير أمة وقانونكم هو خير القوانين، واتباعكم للقانون خير الاتباع، هذا إذا كان الناس يفهمون حقيقة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة.

فإذا رأيت في فترة من الفترات أو في مكان من الأمكنة أن أمة الإسلام ليست خير الأمم في الأرض، فاعلم أن هذا نتج من مخالفة المسلمين، إما بترك أجزاء من القانون، وإما بسوء التربية الذي يفرّغ القانون من روحه ومعناه، فيتحايل عليه المسلم ناسياً أن الله يراقبه؛ وما ذلك إلا لضعف إيمان، لو حصل هذا ستجد الفساد في أمة الإسلام، وستجد الرشوة والتزوير لإرادة الشعوب، وستجد التدليس على الناس، والكذب والبهتان والفواحش والمنكر، ستجد انهياراً كاملاً لكل فضيلة وخلق ومعروف؛ وذلك لأن القانون تفرّغ من روحه، فالناس لا يعرفون أن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل يراقبهم في كل صغيرة وكبيرة.



خلاصة لما سبق لن تكون للمسلمين أمة ودولة بغير تربية مكة، تربية الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان باليوم الآخر، تربية الصبر والثبات والتضحية والتجرد والإخلاص الكامل لله رب العالمين سبحانه وتعالى.





الثلاثاء، 21 مايو 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-3


الأسس التي بنى عليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية


تربية مكة كانت الأساس للصرح الضخم الذي بُني بعد ذلك في المدينة المنورة، والأساس الذي يبني فوقه عشرات الأدوار لا أحد يراه، إلا العالمين ببواطن الأمور، فلو أتيت أحد المهندسين فإنه يستطيع أن يخبرك بعمق الأساس ومساحته وقوته، وأيضاً كم يستطيع أن يبني فوق العمارة التي بُنيت، فلو كان الأساس ضعيفاً فإن البناء ينهار عند أول هزة، قد تجده يقف أمامك فترة من الزمن، لكن أول زلزال ولو كان يسيراً قد يجعل البناء ينهار بالكلية، وما أكثر ما رأينا دولاً وأحياناً تكون دولاً إسلامية تنهار؛ لأن الأساس كان ضعيفاً، والتربية كانت ضعيفة، وما أحداث طالبان منا ببعيد، ما نشك في نياتهم وفي أخلاقهم وفي عبادتهم، لكن البناء كان ضعيفاً، والتربية كانت ضعيفة؛ فحدث هذا الانهيار المروع وفي فترة قصيرة؛ لأنه لم تُدرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام دراسة متأنية منهم، أو ممن وقع من أمثالهم في حلقات التاريخ المختلفة.


إلى كل العاملين على الساحة الإسلامية أقول: دراسة السيرة ليست ترفاً فكرياً، إنما هي فريضة على كل من أراد أن يعز هذه الأمة وأن يشارك في بنائها.
ما هو الأساس الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء الأمة الإسلامية، وحرص على تقويته في فترة مكة المكرمة؟ ما الذي نأخذه من فترة مكة لندخل فترة المدينة؟


شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها


جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم ثلاثة أسس رئيسية للأمة الإسلامية: الأول: الإيمان به وتعظيمه واليقين الكامل في قدرته وحكمته وأحقيته بالطاعة والخضوع، لا إله إلا الله، هذه كلمة عاش لها صلى الله عليه وسلم فترة طويلة من الزمان، من أول البعثة إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وهو يزرع في الناس هذه الكلمة الموجزة جداً، التي توضح معنى عبادة الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، كان يمشي وسط المشركين في مكة المكرمة ويقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، فنجاة البشر بصفة عامة في الدنيا بقول لا إله إلا الله، ونجاة البشر يوم القيامة بقول لا إله إلا الله.


لكن ليس المقصود أن تقولها باللسان، فجميعنا يقول: لا إله إلا الله، من منا في حياته يطبق قول لا إله إلا الله؟ هل كان ينكر العرب أن الله عز وجل هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلق البشر؟ أبداً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] هذا اعتراف من الجميع، لكن المشكلة الرئيسة أنهم حكموا غير الله عز وجل في حياتهم، عبدوا الله عز وجل ظاهراً وطبقوا شرع غيره في كل جزئية من جزئيات حياتهم؛ لذلك كانوا من الكافرين، وخسروا الخسران المبين؛ من أجل عدم تطبيق كلمة لا إله إلا الله في حياتهم، والذين قالوها هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ملكوا العرب والعجم كما وعدهم صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم).


يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] الناس جميعاً تعترف أن الخلق لله، ما ادعى بشر قبل ذلك وإلى الآن وإلى يوم القيامة أنه يخلق، فالجميع يعترف أن الخلق قوة خارجة عن إرادة البشر وقدرتهم، وهذا يحيلنا جميعاً إلى الله عز وجل أنه هو الذي خلق، لكن من الذي يأمر؟ {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].


لا إله إلا الله تقتضي أن تطيع الله عز وجل، إن هذا الكلام ليس بالسهل، بل كثيراً ما يتعارض مع مصلحتك في الظاهر، والشرع كله مصلحة؛ واتباع شرع ربنا سبحانه وتعالى يحقق لك المصالح في الدنيا والآخرة، لكن عين الإنسان القاصرة أحياناً لا ترى الخير، ولا ترى الحق والصواب في أمر من الأمور، وتظن أن اختيارها أفضل مما اختاره رب العالمين سبحانه وتعالى لها، وهذا ضعف إيمان، فلابد أن تؤمن إيماناً يقينياً بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى على أنه يختار الاختيار الأفضل لك ولأمتك، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة في كل مكان في الأرض؛ لأن هذه حقائق ثابتة، والإنسان إذا كان عنده تردد في هذا المعنى فهذا ضعف إيمان؛ ولهذا مكث الرسول صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة من مجموع (23) سنة من البعثة كلها يزرع هذا المعنى فقط، ويركز تركيزاً كاملاً على معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله.


فرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يعمل من أجل لا إله إلا الله فترة طويلة جداً من الزمان، وحرص في فترة المدينة المنورة على تأكيد هذا المعنى حتى مات صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالأصل الأول الذي لا تُبنى أمة الإسلام إلا به: لا إله إلا الله.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-2


بناء الدولة الشاملة

ومن المجموعات مجموعة: بناء الدولة الشاملة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء العسكري، البناء القضائي، البناء الرياضي، فالرسول عليه الصلاة والسلام كوَّن دولة شاملة بترتيبات دقيقة جداً وقانون محكم، كل هذا يحتاج إلى تفصيلات لا نستطيع أن نتحدث عنها كلها في هذه المجموعة.

إجمالاً فترة المدينة المنورة بصفة عامة لها سمات تميزها عن فترة مكة المكرمة، ففترة مكة تستطيع أن تقول: إنها فترة بناء الفرد المسلم الصالح المؤمن بربه، والمؤمن برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، المعتقد بالبعث والحساب يوم القيامة، ودخول الجنة أو النار، كانت بناءً للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جداً، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، فمرة عن طريق التخفي، ومرة أخرى عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، ومرة عن طريق الهجرة، فالهجرة إلى الحبشة كانت مرتين، والثالثة كانت للمدينة المنورة.

أما فترة المدينة المنورة فكانت فترة بناء للأمة الإسلامية بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكة نبني أفراداً، ففي فترة المدينة المنورة نبني دولة كاملة قوية بكل ما تحتاجه الدولة من مؤسسات. وهذه القضية شاقة عسيرة، لكن بدأها الرسول عليه الصلاة والسلام بصبر، وبدأ معه المؤمنون في هذا البناء الكبير. هذه قضية بناء أمة بكل الأصول والتفريعات، فنحن عندما نريد تأسيس شركة كبرى من لا شيء أمر صعب، فكيف ببناء أمة؟!


إن قصة البناء هذه من معجزات الإسلام؛ لأنه لم تقم أمة في هذا التوقيت بهذا المعدل السريع والبناء القوي والعمق الحضاري المذهل إلا في أمة الإسلام، فبعض الدول قامت بسرعة، لكنها سرعان ما وقعت، ولم تترك خلفها أي تراث حضاري يُذكر، فعندما تريد المقارنة بين قيام أمة الإسلام وبين قيام أمة التتار تجد أن أمة التتار أيضاً قامت بسرعة، وانتشرت انتشاراً هائلاً في الأرض، لكن أين تراث التتار الآن؟ أين الميراث الحضاري لهذه الدولة؟ انتهت بالكامل، بل على العكس دخلت دولة التتار التي كانت تحتل مساحات شاسعة من العالم الإسلامي في الإسلام؛ لأن دين الله عز وجل يختلف كلية عن كل قوانين البشر الوضعية، دين غالب قاهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .


لا شك أن بناء هذه الأمة واجه تحديات هائلة، تحديات داخل المدينة المنورة وخارج المدينة المنورة، داخل الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية، تحديات في كل جوانب الحياة، سلاسل متتالية من الصراع، ومن أزمة إلى أزمة أخرى، ومن مشكلة إلى مشكلة أكبر، ومع ذلك تم بناء الأمة الإسلامية. هذه ليست حكمة بشرية فقط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أحكم البشر وأعلم الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو منهج إلهي صادق بنى الأمة بهذا الإعجاز الواضح وبهذا التوقيت المعجز، ففي غضون عشر سنوات فقط أصبحت دولة المدينة المنورة دولة معترفاً بها في العالم، لها قوة، ولها مكانة، ولها سفراء، ولها مراسلات إلى كل بقاع العالم، ولها لقاءات حربية صارمة وقوية مع قوى العالم في ذلك الوقت.

تجربة رائعة حقاً تستحق الدراسة، بل تجب دراسة هذه التجربة، هذا هو الدين الإسلامي حقيقة، الدين الإسلامي ليس مجرد صلاة وصوم وقيام ليل وذكر، الدين الإسلامي منظومة متكاملة تحكم حياة الأفراد والمجتمعات، بل وحياة الأرض بصفة عامة، إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ]الأنعام:162] فقد تعلمنا في فترة المدينة المنورة كيف يكون المحيا لله عز وجل في كل جزئية من جزئيات الحياة.

فترة مكة كان أيضاً يطبق على المسلمين، لكن المسلمين لم تكن عندهم تشريعات ولا دولة، ولم تكن عندهم سياسة واقتصاد وقضاء، هذه الأمور لم تكن واضحة تمام الوضوح؛ لأن المسلمين كانوا عبارة عن جماعة صغيرة جداً مضطهدة ومعذبة ومشردة، لكن الدستور الإسلامي وضح تمام الوضوح في فترة المدينة المنورة. ومع كون المحلل للأحداث يجد أن فترة بناء الأمة تبدو في ظاهرها أصعب من فترة مكة التي هي بناء الأفراد، إلا أنني أقول: إن الفترتين كانت على مستوى واحد من الأهمية تقريباً، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك أمة إسلامية قوية بغير تربية مكة، ولن تفهم فترة المدينة مطلقاً بدون الرجوع إلى فترة مكة .



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-1


الدرس الخامس عشر قيام الدولة الإسلامية



بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية على أسس قوية ترتكز عليها، لمواجهة التحديات القائمة تجاهها، ففي الفترة المكية نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الأفراد على العقيدة الصحيحة، واتضح ذلك جلياً على الواقع في الفترة المدنية بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، إذ فيها كان بناء الدولة الإسلامية الشاملة.



مميزات العهد المدني وقيام الدولة الإسلامية


أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.


اليوم نبدأ الحديث عن العهد المدني في السيرة النبوية، قبل هذا تكلمنا عن العهد المكي، والكثير الكثير من الأحداث الهامة جداً في العهد المكي للأسف أغفلت؛ لكثرة الأحداث وصعوبة الإلمام بكل ما تم في حياته صلى الله عليه وسلم من دروس وعبر وعظات وأحكام وتشريعات، إذا كنا نقول ذلك الكلام عن فترة مكة فالحديث عن فترة المدينة أصعب بشكل لافت للنظر؛ لأن أحداث المدينة المنورة كثيرة جداً ومتشعّبة: غزوات، وسرايا، ومعاهدات، ولقاءات ومعاملات، وحياة زوجية للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة مع الصحابة، وحياة مع المنافقين، وحياة مع أعداء الأمة من اليهود ومن المشركين ومن غيرهم،


في الحقيقة هناك تنوعات هائلة في السيرة النبوية، ويكاد يكون من المستحيل أن تجمع كل السيرة النبوية في فترة المدينة المنورة في مجموعة واحدة أو مجموعتين أو ثلاث أو أكثر، سنظل نتكلم سنين كثيرة في السيرة النبوية، ومهما تكلم المتكلمون قبل ذلك ستجد جديداً في السيرة النبوية؛ لأن السيرة النبوية كنز لا ينتهي عجائبه، كما تقرأ القرآن الكريم فأنت في كل فترة تأتي بجديد وبإضافة في فقه آية أو في فهم معنى، ويبدع المفسّرون في تفسير بعض الآيات كل سنة، مع أن لنا تقريباً (1400) سنة ونحن نفسر القرآن الكريم، كذلك في السيرة النبوية كلما تقرأ حدثاً قد تطلع منه على جديد، وكتب السيرة التي تُطبع في هذا الوقت بعد (1400) سنة من التدقيق والتحليل والدراسة للسيرة النبوية ما زالت تخرج لنا جديداً.

إذاً: السيرة النبوية إعجاز وترتيب دقيق جداً من رب العالمين سبحانه وتعالى، وضع الله عز وجل فيها كل المتغيرات والأحداث، التي من الممكن أن تحدث في الأرض وإلى يوم القيامة؛ لكي يقيم حجته على البشر في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] ففي كل مواقف الحياة تستطيع أن تجد سنة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا في مجموعة المدينة هذه لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتناول جميع الأمور بالترتيب، سنُغفل بعضها، ونحيل هذه الأمور إلى مجموعات أخرى من المحاضرات والدروس.

على سبيل المثال سنجعل مجموعة نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وحل مشكلات العالم.
نتناول فيها كيف حل الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة البطالة، ومشكلة الأمية، ومشكلة الزواج المتأخر، ومشكلة الفقر، ومشكلة اللاجئين مشاكل كثيرة جداً مرت بالأمة الإسلامية، حلها الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة علمية عملية واضحة، نستطيع أن نقلدها بمنتهى السهولة لو درسنا السيرة النبوية.

وسوف نجعل أيضاً مجموعة من المحاضرات إن شاء الله نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين.
وسنجمع فيها أخطاء المؤمنين التي وقعوا فيها في فترة المدينة أو في فترة مكة، وهذه الأخطاء في الحقيقة تحتاج منا إلى دراسة متأنية وتحليل لكل خطأ كيف حدث؟ وكيف خرج منه المسلمون؟ وفي الحقيقة تأخذ مساحات كبيرة جداً من الوقت في التحليل والدراسة؛ ولهذا سنحاول أن نخرج هذه الأخطاء قدر المستطاع دون الإخلال بترتيب الأحداث وبفقه المعاني في داخل الفترة النبوية في المدينة المنورة، ونجمع كل هذه الأخطاء في مجموعة: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين.




الثلاثاء، 23 أبريل 2013

ماذا تحب من الدنيا ؟



جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم وسألهم مبتدأ بأبي بكر ماذا تحب من الدنيا ؟ 

فقال أبي بكر ( رضي الله عنه) أحب من الدنيا ثلاث:

الجلوس بين يديك – والنظر إليك – وإنفاق مالي عليك

وأنت يا عمر ؟
قال أحب ثلاث :

أمر بالمعروف ولو كان سرا – ونهي عن المنكر ولو كان جهرا – وقول الحق ولو كان مرا

وأنت يا عثمان ؟
قال أحب ثلاث :

إطعام الطعام – وإفشاء السلام – والصلاة بالليل والناس نيام

وانت يا علي ؟
قال احب ثلاث :

اكرام الضيف – الصوم بالصيف - وضرب العدو بالسيف

ثم سأل أبا ذر الغفاري :
وأنت يا أبا ذر : ماذا تحب في الدنيا ؟
قال أبو ذر :أحب في الدنيا ثلاث :

الجوع؛ المرض؛ والموت

فقال ! له النبي (صلى الله عليه وسلم): ولم؟
فقال أبو ذر

أحب الجوع ليرق قلبي؛ وأحب المرض ليخف ذنبي؛ وأحب الموت لألقى ربي

فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) حبب إلى من دنياكم ثلاث :
الطيب؛ والنساء؛ وجعلت قرة عيني في الصلاة

وحينئذ تنزل جبريل عليه السلام وأقرأهم السلام
وقال: وانأ أحب من دنياكم ثلاث :
تبليغ الرسالة؛ وأداء الأمانة؛ وحب المساكين؛

ثم صعد إلى السماء وتنزل مرة أخرى
وقال : الله عز وجل يقرؤكم السلام ويقول : انه يحب من دنياكم ثلاث:
لساناً ذاكراً ؛
و قلباً خاشعاً ؛
و جسداً على البلاءِ صابراً


سبحان الله وبحمده ،،، سبحان الله العظيم

هذه الرسالة تستحق أن ترسلها لغيرك كما أنها تستحق أن تبقى في صندوق رسائلك تقرأها من حين لآخر
دعواتكم لجميع المسلمين بالتوفيق والسداد




معلومات هامة عن القطط

معلومات تثير الإهتمام:

- عاش القط مع البشر لقرابة 3500 سنة ، حينما استخدمه قدماء المصريين لحماية القمح من الفئران و القوارض.
- القط من أكثر الحيوانات المنزلية شعبيةً حول العالم.
- يمكن للقط أن يزيد وزنه كثيراً ، و قد يصل إلى 23 كيلوجرام أو أكثر، و هو أمرٌ غير صحي له ، لذلك يجب تنظيم أكله و ملاعبته ليجري حول المنزل.


- عندما يغضب القط أو يخاف ، ترجع أذناه للخلف.
- إذا انتبه لصوتٍ ما ، فإن اتجاه أذنيه يتبع الصوت.
- يوفر القط طاقته بالنوم الكثير.
- للقط نظرٌ ممتاز و يرى جيداً في الضوء و بعض الظلام ، و إذا كان الظلام حالكاً (حتى للقط) فإنه يستخدم شارباه لمعرفة التغيرات الطفيفة في اتجاه الهواء فيعرف عن الأجسام التي حوله حتى لو لم يرها.


- القط حيوانٌ نظيف جداً ، و يستحم بأن يلعق نفسه ، و قد يلفظ كراتاً من الشعر من آنٍ لآخر بسبب الشعر الداخل إلى معدته. الكثير من القطط تستمتع بتنظيف غيرها من القطط بل حتى البشر.


- القطط (كبقية الفصيلة) من أفضل الحيوانات في الصيد ، هذا إذا لم تكن الأفضل على الإطلاق .
- بسبب حجمها ، فإن القطة لا تشكل أي خطر على البشر ، إلا في حالات العدوى.
- عكس الإعتقاد الشائع ، فإن حليب البقر غذاء غير صالح للقط ، لأنه صعب الهضم.


- يموء القط إذا شعر بالألم ، و قد يعني مواؤه مجرد التحية ("كيف الحال؟") ، و كذلك للفت انتباه البشر (ليغذّوه أو ليلعبوا معه).
- عند دعك القط بشكلٍ سليم ، فإنه يخرج من رئته صوت خرير ، معبراً عن سعادته. صوت الخرير هذا هو كالإبتسامة



الرجل الصفر

من الناس من يعيش
حياة مديدة ويمر بأحوال
سعيدة ولكن محصلة حياته
تكون صفراً . ومن الناس من يعيش
حياة قصيرة ويمر بأحوال عسيرة لكن
محصلة حياته تشكل رقماً كبيراً في عداد
الرجال . فالأول يعيش على هامش الحياة لا يهتم
إلا بنفسه ولا يكترث بمصالح الناس ولا يلقي بالاً للمصلحة
العامة فيموت دون أن يدري به أحد لأن موته لا يغير شيئا
في حياة الناس ولا ينقص الكون محسنا ًبفقده ولا يخسر مصلحاً
بموته فيخرج من الدنيا غير مأسوف عليه .والثاني يعيش الحياة بكل
معانيها ويقدم مصلحة الناس على مصلحته ويكثر من الإحسان إلى الناس
ويكون عضواً فاعلاً ونافعاً في المجتمع . فإن مات فإن السماء تهتز لفقده
والأرض تحزن لفراقه ومكان سجوده وصلاته يبكي عليه والناس تتفقد إحسانه
وتحن إليه كما حدث عند وفاة زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما وكان
في حياته يتهم بالبخل وفي الليلة التي مات فيها قام شخص من الفقراء ينتظر من
يأتيه بالطعام كل يوم فلم يأته ففتح الباب ليجد جاره فاتحاً بابه أيضاً فسأل
جاره عن سبب فتحه بابه في ذلك الوقت فأخبره بأنه ينتظر محسناً يأتيه
بالطعام كل يوم فأخبره بأنه هو أيضا ينتظر لنفس السبب ولكن المحسن
لم يحضر وفي اليوم التالي عرف الناس أن زين العابدين قد انتقل إلى
رحمة الله وعرفوا أنه هو المحسن الذي كان يأتيهم بالطعام وكان
لا يدري به أحد إلا الله . لذلك كان رقما كبيراً في تاريخ الإنسانية
وسجل الرجال . والكثير ممن هم أغنى منه عاشوا وماتوا قبله
وبعده ولم يدر أحد بحياتهم ولا بوفاتهم لأنهم كانوا أصفاراً
على يسار رقم الحياة . فلنحاول أن لا نكون صفراً ولنعلم
أن الرقم الذي يمثلنا يكبر كلما كبر تدرجة إحساننا إلى
الناس ونحتل مكاناً في الوجود مساحته تعادل مساحة
نفعنا لخلق الله وتعاوننا مع الآخرين في سبيل المصلحة
الوطنية والإنسانية وشعورنا بالمسؤولية الملقاة على
عاتقنا وكلما زاد هذا الشعور زادت معه قيمة الإنسان
ولكن هل تدرون من هو أسوء من الشخص
الصفر ؟ إنه الرقم السلبي الذي لا يسلم الناس من شره
وأذاه فذلك الذي يقال عند وفاته : الحمد لله . فلا تكن
كذلك وحاول أن تكون ممن يقال عند وفاتهم : لا حول ولا قوة إلا بالله فقدنا فلان .






سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-10


الملامح العامة لبناء الأمة في الفترة المكية


تمت مرحلة هامة من مراحل السيرة النبوية بالهجرة إلى المدينة، تمت المرحلة المكية بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها، مرحلة ذات طابع خاص بدأ الإسلام فيها غريباً، واستمر غريباً إلى قرب نهايتها إلى أن آمن الأنصار.

كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة؛ لا يؤمنون إلا بالله عز وجل، لا يتوجهون بالعبادة لأحد سواه، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته؛ إنه إيمان عميق برب العالمين سبحانه وتعالى، واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون، وسيقوم فيه الناس لرب العالمين، يحاسبون على ما يعملون، لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، وإنها -والله- إما جنة أبداً أو نار أبداً.

وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة أيضاً الأخلاق الحميدة؛ هذبت نفوسهم تماماً، ارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.

وبالإضافة إلى العقيدة والأخلاق عرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب مليء بالابتلاءات والاختبارات، ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر، والله عز وجل يراقب العباد، يراقبهم في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يستثنى من هذا الاختبار أحد (يبتلى المرء على قدر دينه).

ومع كون هذه المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء والتعذيب سواء على الروح أو الجسد، إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، لكن ليست السعادة المادية الحسية التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، لا، إنما هي سعادة الروح والقلب، سعادة الطاعة لله عز وجل، سعادة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سعادة الصلاة ومناجاة الله عز وجل، سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين، سعادة الدعوة إلى الله عز وجل، سعادة كبيرة عندما ترى شخصاً كان يسجد لصنم، حياته تافهة حقيرة لا تساوي شيئاً، وفجأة تحول إلى عملاق من عمالقة الأرض، أي عقل وأي حكمة وأي شجاعة وأي أخلاق! سعادة عظيمة فعلاً، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا، سواء كانت فتناً في الجسد أو الهجرة أو الإغراءات بالمال أو بالسلطة أو بالنساء أو غيرها من الفتن.
والثبات أمام الفتن لا شك أنه يزرع سعادة في قلوب المؤمنين.

لقد كانت الفترة المكية بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل، من المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك دون المرور على فترة مكة، من المستحيل أن تبني أمة صالحة، أو تنشئ دولة قوية، أو تخوض جهاداً ناجحاً، أو تثبت في ميادين القتال والنزال، أو تقف بصلابة أمام فتن الدنيا المختلفة، من المستحيل أن تفعل كل ذلك إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها.

على الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق، عليهم أن يقفوا أمام كل حدث، قصر وقته أو صغر حجمه، لابد أن يقفوا أمامه وقوفاً طويلاً طويلاً، هنا البداية التي لابد أن نبدأ منها، بغير مكة لن تكون هناك المدينة، وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار، وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين.

كانت هذه هي فترة مكة الجميلة؛ لأنها تحكي قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازالت لنا جولات مع فترة جميلة أيضاً من فترات حياة رسول صلى الله عليه وسلم، تلك هي فترة المدينة المنورة.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



الخميس، 11 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-9


دروس من الهجرة النبوية


دروس الهجرة لا تحصى ولا تعد، لكننا سنختار بعضاً منها، وبالذات الدروس التي لها علاقة ببناء الأمة الإسلامية.
الدرس الأول: الأخذ بالأسباب، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، لكن نلاحظ كذلك أنه مع هذا الإعداد العظيم إلا أنه حدثت بعض الثغرات في الخطة، وهذا شيء خارج عن حدود البشر؛ إذ الكمال لله وحده.



منها: أن المشركين حاصروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، مع أن التخطيط أنه يخرج قبل الحصار، لكنهم أتوا قبل موعدهم الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن أحد المشركين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما خرج، وقال لزعماء مكة: لقد خرج عليكم محمد.
أيضاً: المشركون وصلوا إلى غار ثور مع كل الاحتياطات التي أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراقة لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق.
فمثل هذه الثغرات لابد أن تحصل، لكن المهم أنك بذلت الوسع في الإعداد، وكذلك لو أنك بذلت الاستطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يكمل العجز البشري، مثل ما حدث للكفار وحصل لهم عمى مؤقت أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يدخلوا الغار بعدما وصلوا إلى بابه، وخيل سراقة لا تستطيع المشي في الرمال، أشياء لم تكن في الحسبان، فالله عز وجل يعطيك هدية لو أنك بذلت وسعك.


الدرس الثاني: لم يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك رب الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك بعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بيقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وظهر أيضاً في أنه لم يكن يكثر الالتفات في طريقه، فهو مطمئن إلى أن الله عز وجل سينصر رسله والذين آمنوا، ومن غير هذا اليقين لا أعتقد أن بناء الأمة سيحصل، أو أن أي نصر ممكن أن يتحقق، لابد من يقين بنصر الله عز وجل.


الدرس الثالث: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، حتى في هذه الظروف يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى).


الدرس الرابع: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الناس تحتاج إلى صحبة، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبحث عن الصحبة الصالحة.


الدرس الخامس: وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطاردون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ربنا سبحانه وتعالى ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق الذي نقله قبل ذلك في لحظة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، لكن أين القدوة في ذلك؟ لابد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولابد أن يسير في هذا الطريق رسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب؛ ليعطي قدوة لكل قائد.


الدرس السادس: رأينا كيف أن الدعوة في دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثل النفس عند عموم البشر، لا يضيع فرصة، لا يرتبط بظرف، يدعو كل من يستطيع، رأيناه كيف دعا إلى الإسلام بريدة وأصحابه من قبيلة أسلم، لم يكن همه الهروب حتى يصل إلى المدينة، بل اعتبر أن الله عز وجل قد ساق إليه هذا الرجل وقومه هدية من الله عز وجل، فكيف يضيع فرصة مثل هذه، دعا بريدة وأسلم بريدة، وتغير حال بريدة وقبيلة أسلم كلها بعد هذا الإسلام، فانظروا إلى فضل الدعوة.


الدرس السابع: رأينا في هذه الرحلة استعداد الصديق رضي الله عنه وأرضاه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، القضية في منتهى الوضوح عند الصديق، أهم شيء في حياة الصديق رضي الله عنه هو أن يرضي الله عز وجل، وأن يرضي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يطلبه الله عز وجل في مكان فلا يجده، ليس هناك في حياته مكان لكلمة الظروف، كان يعتذر لكل ظرف يطرأ على حياته؛ يعتذر بأن عنده ظرفاً أعظم، فما هو هذا الظرف؟ هو العمل لله عز وجل، والبذل والتضحية والجهاد في سبيل الله عز وجل.


الدرس الثامن: رأينا شدة محبة الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا كيف أنه لا ينتظر أمراً ولا طلباً، إنما يجتهد هو في إتقان حبه لرسول صلى الله عليه وسلم؛ يجهز له الراحلة، يبكي من الفرح لصحبته، ينظف له الغار، يسير أمامه وخلفه حماية له، وغير ذلك من المواقف التي ذكرنا بعضها ولم نذكر أكثرها. حب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من فضائل الأعمال فحسب، بل هو من الواجبات، ومن قدم حباً على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خطر عظيم.


الدرس التاسع: رأينا بذل الصديق وعطاء الصديق ، أخذ معه في الرحلة (5000) درهم، وهي كل ما يمتلك من غير الراحلتين، وقبل ذلك أنفق (35000) ألف درهم في سبيل الله، وسيظل ينفق في المدينة، وسيظل ينفق وهو خليفة، وسيظل ينفق وهو على فراش الموت، هذا هو الصديق، من أجل ذلك يقول الله عز وجل: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 17 : 21 ) .


الدرس العاشر: وهو شيء مهم لفت الأنظار في قصة الهجرة، ولابد أن نقف معه وقفة، أترون كيف استعمل الصديق عائلته بالكامل في سبيل الله؛ عبد الله ينقل الأخبار، وأسماء تنقل الطعام والشراب، وعامر بن فهيرة يخفي آثار الأقدام، إن الصديق استطاع أن ينقل حبه للدعوة لكل عائلته، بعض الدعاة للأسف الشديد يعانون من مرض العزلة عن عائلتهم، تراهم في منتهى النشاط خارج البيت، ثم لا يشركون أقرب الأقربين إليهم في العمل لله عز وجل، هذا غياب كبير للفهم، وضياع هائل للأولويات، نريد أن نتعلمه من الصديق ، وتذكروا : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) .



الأربعاء، 10 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-8



مطاردة سراقة بن مالك للرسول صلى الله عليه وسلم
ومن معه أثناء الهجرة



رأى بعض المشركين القافلة وجاءوا إلى مكة يخبرونهم الخبر، فلعل الركب هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسمعهم سراقة بن مالك، وكان سراقة بن مالك يفكر في المائة الناقة التي هي لكل واحد من الاثنين، فخدع الناس، وقال لهم: هذا فلان وفلان أعرفهما، ومباشرة جهز فرسه وسلاحه وانطلق ليفوز بالجائزة الكبرى، واستطاع أن يصل إليهم، واقترب منهم، حتى إنه كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن،


وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت -كما يقول سراقة كما جاء في البخاري - وأبو بكر يكثر الالتفات من خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما اقترب منهم حدثت المعجزة وبدأت الفرس تسيخ في الأرض مرة وثانية وثالثة، وعلم سراقة أن هناك شيئاً غريباً، يقول: فأدركت أن القوم ممنوعون.


فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وذكر لهم أمر المكافأة التي جعلتها قريش فيهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخف عنا)، وبعد ذلك قال له شيء في منتهى الغرابة، قال: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى)، في هذا الموقف الصعب الذي يطارد فيه من أهل الأرض يبشر سراقة بانهيار عرش كسرى، وأنه سيأتي يوم يأخذ فيه المسلمون سواري كسرى غنيمة، وفي ذلك الوقت سراقة هو الذي سيأخذ هذين السوارين، وسراقة كان يصدق بهذا تماماً، إلى درجة أنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً بهذا الأمر، حتى إذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا الشيء فسيكون معه الدليل الذي يأخذ به السوارين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتاباً، فكتب له على رقة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق.


كان أول اليوم جاهداً في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي آخر اليوم كان مدافعاً عنه، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، والغريب أيضاً أن سراقة مع إحساسه بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يسلم إلا بعد فتح مكة وحنين، ومرت الأيام وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب وفيها سواري كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمه لـ عمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].


خروج بريدة بن الحصيب ومن معه
لمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة



لم تحصل مشاكل أخرى في الطريق إلا قبل المدينة المنورة، فقد فوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم برجل اسمه بريدة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، وقد خرج له في (70) من قومه، يريد المكافأة، ومع خطورة الموقف إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفقد أعصابه مطلقاً، بل بدأ يعرض الإسلام على بريدة وعلى قومه، وسبحان مقلب القلوب!


وقعت كلمات الله عز وجل في قلب بريدة وأصحابه، فآمنوا جميعاً في لحظة واحدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث سنين في مكة من أجل أن يأتي بهذا العدد (70)، وفي لحظة واحدة يؤمنون، الله عز وجل يخبرنا أن القلوب بيديه هو سبحانه وتعالى، يستطيع أن ينصرك في الوقت الذي يريده، لكن المهم أنك تعمل كما كان يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم.


هناك أحداث أخرى كثيرة وهامة وعظيمة ولطيفة في الهجرة، لكن المقام لا يتسع لها، وقد ذكرنا كثيراً من ذلك في محاضرات: الصديق الصاحب والخليل، فلا داعي للتكرار.

وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالماً، وكان ذلك في يوم (12) من ربيع الأول سنة (14) من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة وهامة في الدعوة الإسلامية، وهي مرحلة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-7


جهود قريش في البحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد خروجهما من مكة مهاجرين

اكتشف زعماء مكة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا حالة الطوارئ القصوى في مكة، وأخذوا مجموعة من القرارات: 
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مختف في بيته، أو أن الصديق يعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه، أخذ معه فرقة وذهب إلى بيت الصديق، وظل يطرق الباب بعنف، ففتحت له السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها: أين أبوك يا ابنة أبي بكر، قالت في هدوء: لا أدري، فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى طار قرطها.

هذا تجاوز كبير في أعراف مكة، أن رجلاً يضرب امرأة بهذه الصورة، ومع كل هذا التجاوز إلا أن أبا جهل لم يفكر أن يدخل البيت ويقلبه رأساً على عقب، لم يفكر أن يدخل يبحث على أي دليل، مع خطورة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولماذا لم يدخل؟ تذكروا أن زعماء مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في بيت الصديق؛ لذا يجوز أن يكون في بيت آخر من بيوت أصحابه، من أجل ذلك أخذوا القرار الثاني.

القرار الثاني: إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فإذا كان ما زال داخل مكة أمسكوا به وهو خارج منها.

القرار الثالث: مطلوب حياً أو ميتاً، إعلان عن جائزة كبرى لمن يأتي برسول صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، والجائزة مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن، ميزانيات ضخمة تنفق لصد الدعوة، ولوقف الدعوة إلى الله عز وجل.

القرار الرابع: المطاردة، استخدام قصاص الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام لرسول صلى الله عليه وسلم، استخدموا قصاص الأثر في كل الطرق الخارجة من مكة، وفي الحقيقة أن الكفار كانوا في منتهى الذكاء؛ درسوا كل المخارج بما فيها المخارج الجنوبية البعيدة عن طريق المدينة، ومع كل طرق التأمين التي كانت في خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كون الخطة بارعة، إلا أنه ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، فلابد من وجود ثغرات؛ لذا اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي بداخله غار ثور، وصعدوا الجبل ووصلوا إلى باب غار ثور، ولم يبق لهم إلا أن ينظروا إلى داخل الغار، ولو نظروا إلى داخله سيرون الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الغار في سكينة تامة، لكن الصديق رضي الله عنه كان قلقاً، يقول الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، إحساس بمعية الله في كل خطوة، والصديق لم يكن خائفاً على نفسه، بل خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أن الصديق قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة).

ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور؟ يعني: بعدما قطعوا هذا المشوار الطويل (8) كيلو من الصحراء والجبال والشمس والمشقة، وآثار الأقدام منتهية عند فتحة باب الغار، كان من العقل أن ينظروا ما في الداخل، لكنهم لم ينظروا، كم كانت ستأخذ هذه النظرة لو نظروها؟ لكن (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

هناك قصة مشهورة أن العنكبوت نسجت خيطاً كثيفاً على باب الغار، وقال الكفار: لو دخل من ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه القصة ضعيفة من كل طرقها، وإن كان بعض العلماء رفع درجة القصة إلى الحسن لكثرة الطرق، كذلك قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار قصص ضعيفة لا تصح أصلاً، وحتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضاً، وإلا كيف تفسر أن الغار يكون مفتوحاً والآثار وصلت إليه، والكفار لا ينظرون إلى داخله.

هذه معجزة ظاهرة! وليست هي المعجزة الأولى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الأخيرة، فحياته كلها معجزات صلى الله عليه وسلم.
فشلت المطاردة ورجع الكفار إلى مكة مرة أخرى وقد يئسوا من العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصديق رضي الله عنه، لكن مازالت المكافأة معلنة مائة ناقة لمن يعثر على أحدهما حياً أو ميتاً.

مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرراً في الخطة، وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين كل واحد منهم يقوم بدوره، ومرت الثلاثة الأيام، وجاء الدليل عبد الله بن أريقط بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وأحضر له ناقة وأخذوا معهم عامر بن فهيرة في هذه الرحلة المباركة.

انطلقت الرحلة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل في ليلة (1) ربيع أول من سنة (14) من النبوة، والهجرة لم تكن في محرم كما يظن كثير من الناس، إنما كانت في أواخر صفر وأوائل ربيع الأول من سنة (14) من النبوة.

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل، وزيادة في الحذر اتجهوا جنوباً وابتعدوا أكثر وأكثر عن طريق المدينة؛ زيادة في ضمان ألا يراهم أحد أبداً، وبعد ذلك سيتجهون إلى الغرب من أجل أن يأخذوا طريق البحر الأحمر الصعب، وعندما خرجوا من الغار كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي بطريقة غريبة، لفتت نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يسير أمام الرسول صلى الله عليه وسلم تارة، ثم يسير خلفه تارة أخرى، فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حب شديد: (يا رسول الله! أذكر الطلب -يعني: المطاردة- فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد -يعني: لو أن أحداً منتظرنا في الأمام- فأمشي بين يديك)، يتمنى الصديق أن لو جاء سهم أن يصيبه هو ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، منتهى الحب لرسول صلى الله عليه وسلم، وأكملت القافلة طريقها واتجهت إلى المدينة .


سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-6


حصار المشركين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم

ليلة الهجرة وخروجه من بينهم سالماً


عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وبدأ يجهز نفسه، ونادى علياً رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت عمره (23) سنة، وأخبره بدوره، وأنه سينام في سريره صلى الله عليه وسلم طوال الليل، ويتغطى ببرد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخضر، وفي الصباح يعيد الأمانات لأصحابها.


انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت حتى الليل، ثم في أول الليل فكر بالخروج والذهاب إلى الصديق، فرأى أن المشركين قد أتوا مبكرين عن الموعد الذي كان يظنه، ورآهم يحاصرون البيت، وعشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس أو المحاكمة، لقد صدر القرار بالقتل، وقد أتوا للتنفيذ مباشرة، فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يخرج؟ أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن يخرج من وسط المشركين، وأن يخرج أمام الناس كلهم، ولن يراك أحد منهم؛ فإن الله عز وجل سيأخذ أبصارهم، ستعمى الأبصار كما عميت قبل ذلك البصائر.


خرج الرسول صلى الله عليه وسلم أمام كل الناس ليلة (27) صفر سنة (14) من النبوة، خرج وهو يقرأ صدر سورة (يس) من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، وليس هذا فحسب، بل أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءاً منها على رأس كل مشرك؛ من أجل أن يقول لهم: لا تظنوا أنني قد بت خارج البيت، لا، أنا كنت بالداخل وخرجت أمامكم وأنتم لم تروني.


كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المشركون، لكن هذا الذي حصل كان لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه بدون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وظهرت المعجزة الظاهرة الواضحة في نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.


وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وجلس عنده حتى نصف الليل حسب الخطة، وبعد ذلك خرجا من الباب الخلفي للبيت، وتسللا من مكة، واتجها جنوباً إلى غار ثور، وعندما وصلا إلى الغار دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى الغار أولاً، وعمل عملية استكشافية؛ ليطمئن أنه لا خطر فيه، وعندما اطمأن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذا يكون هذا الجزء من الخطة مر بسلام والحمد لله.


هذا ما كان في الغار، أما عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فما زال المشركون على هيئتهم وعلى رءوسهم التراب، وعلي رضي الله عنه مازال نائماً بداخل البيت، وهم على حالتهم مر عليهم رجل مشرك ووجد على رأس كل رجل حفنة تراب، فاستغرب من شكلهم، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمداً قال: خيبكم الله، قد -والله- خرج عليكم.


فانزعجوا وتساءلوا، قبل قليل كان نائماً، ونحن نراه بالداخل وهو نائم وعليه برده، وبعد ذلك وجدوا التراب على رءوسهم، وليس واحداً أو اثنين، بل كلهم على رءوسهم التراب، فقام المشركون ونظروا من ثقب الباب، فرأوا رجلاً نائماً بالداخل وعليه البرد الأخضر، فتحير القوم، وقالوا: والله إنه لنائم، فهل يصدقون ذلك الرجل الذي قال لهم: إنه قد خرج عليكم، والتراب الذي رأوه على رءوسهم، أم يصدقون أعينهم؟ فأراد شخص منهم أن يريح الجميع، قال: لنكسر الباب ونرى من النائم بالداخل، لكن معظم الكفار اعترضوا؛ وقالوا: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار، لا يدخلون بيتاً بغير إذن أهله!


انتظر المشركون إلى الصباح ولم يستطيعوا الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يلحقهم العيب، وبعد قليل إذا هم بـ علي رضي الله عنه وأرضاه قام من الفراش، كان المشركون حينها في منتهى الغيظ، فأمسكوا بسيدنا علي بن أبي طالب وضربوه ضرباً شديداً رضي الله عنه، وأخذوه إلى البيت الحرام ليحققوا معه، وحبسوه هناك، ومع كل هذا الضرب إلا أنه لم يجب عليهم، ومع كونه فارساً مغواراً وكان عمره في ذلك الوقت (23) سنة إلا أنه لم يقاتلهم، وذلك لأمور:


أولاً: لم يؤذن بعد للمسلمين بالقتال إلى هذه اللحظة.


ثانياً: الهلكة محققة لغياب كل المسلمين، ولن يدافع عنه أحد، واجتماع كل المشركين على بني هاشم يصعب الأمر أكثر.


ثالثاً: أن عليه مهمة عظيمة وهي رد الأمانات إلى أهلها، فلابد أن يحافظ على نفسه حتى يؤديها؛ من أجل ذلك لم يرد عليهم حكمة وفقهاً من علي رضي الله عنه.


حبس سيدنا علي ساعة من الزمن، لا شهر ولا سنة ولا سنتين؛ لأن كفار مكة رأوا أن من الظلم أن يحبس إنسان بدون جريرة أو بدون ذنب أكثر من ساعة، ففي عرفهم أن الساعة كثيرة جداً.
مكث علي رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم هاجر مباشرة إلى المدينة المنورة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-5


بنود خطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

وصاحبه الصديق رضي الله عنه


مكث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه يخططان لأمر الهجرة، فقد وضعا خطة بارعة متقنة، بذلا فيها كل طاقة وفكر، وعملا حسابهما لأشياء كثيرة.

أولاً: لن يبيت الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته هذه الليلة، وسيخرج من بيته في أول الليل، ويترك علياً رضي الله عنه وأرضاه نائماً في سريره، ويجلس في بيت الصديق من أجل أن يتجنب الحصار الذي قد يفرض على بيته صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن موعد القتل الفجر، فيريد أن يترك البيت قبل الفجر، من أجل أن يفوت الفرصة على المشركين.


ثانياً: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه جزءاً من الليل، يعني: لن يهاجرا مباشرة، وسينتظرا إلى أن تهدأ الحركة في مكة تماماً، في ذلك الوقت سوف يأخذان الراحلتين وينطلقان من بيت الصديق رضي الله عنه.

ثالثاً: أنهما لن يخرجا من باب بيت الصديق بل من فتحة في خلف البيت لاحتمال وجود مراقبة على باب البيت؛ فقد يتوقعون هجرته معه، فهو الصاحب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أن المدينة لها طريقان من مكة: الأول: معروف وسهل وقصير نسبياً، والثاني: وعر وصعب وطويل وغير مألوف، ولا يعرفه الكثير من الناس، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من الطريق الصعب؛ طريق ساحل البحر الأحمر، نعم هو طويل وصعب، لكن لا يعرفه كثير من أهل مكة، فستكون فرصة الهجرة بأمان في هذا الطريق أكبر.

خامساً: لابد أن يستأجرا دليلاً يكون معهما في هذه الرحلة الصعبة؛ لأن الطريق غير معروف؛ فالسفر في الصحراء أمر خطير، والدليل لابد أن تكون عنده خبرة وأمانة، وفي نفس الوقت لا يشك المشركون في أمره؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق اتفقا على دليل اسمه عبد الله بن أريقط، وهذا الدليل من المشركين، وكان هذا الفعل منهما في منتهى الذكاء؛ فإن المشركين لن يشكوا مطلقاً في أمره، كما أنه رجل أمين يكتم السر، وهو في النهاية صاحب مصلحة سوف يؤدي المهمة ويأخذ عليها الأجر، وأكيد أنه أجر مجزٍ.

سادساً: قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في أول الهجرة سيتجه نحو اليمن لا المدينة المنورة لمسافة خمسة أميال -يعني: (8) كيلو متر- للتمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، سيبحثون عنه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.

سابعاً: أنهما سيذهبان أولاً إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار في جبل عال، والطريق إليه صعب جداً، وسيمكثان فيه ثلاثة أيام، وبعد ذلك يتحركان إلى المدينة عندما يفقد أهل مكة الأمل في العثور عليهما، وكذلك سوف يتركان الراحلتين مع الدليل عبد الله بن أريقط، من أجل ألا يرى أحد الراحلتين بجانب الغار، وعبد الله بن أريقط سوف يقابلهما بعد ذلك عند الغار بعد ثلاثة أيام.

ثامناً: يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الوضع في مكة، وتحركات زعماء مكة، فلابد من شخص يأتي لهم بالأخبار إلى الغار كل يوم ليعدلوا على حسبها الخطة لو حصل شيء مخالف للذي رتبوه، فاتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق رضي الله عنه أن الذي سيقوم بذلك هو عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو سيمكث في مكة طيلة النهار، ثم يأتي إلى الغار في أول الليل، ويجلس معهما في الغار ويخبرهما أخبار مكة، ثم يرجع إلى مكة قبل الفجر، ثم في الصباح الباكر يظهر نفسه للناس ويقف أمامهم ليروه؛ ليوهمهم أنه بات في مكة ولم يكن خارجها.

تاسعاً: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، فهو سيرعى الأغنام على آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأقدام الصديق رضي الله عنه، وبعد ذلك فوق أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، من أجل أن يضيع فرصة تتبع آثار الأقدام بقدر استطاعته، وهذا شيء في منتهى الروعة؛ مع أنهم مشوا في اتجاه الجنوب، ولكن كذلك أخذوا حذرهم في هذا.

عاشراً: أن الذي سيحضر لهم الطعام والشراب فترة الثلاثة أيام في غار ثور السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكانت حاملاً وفي الشهور الأخيرة من حملها، وإن كان المشركون وضعوا مراقبة على أولاد الصديق الرجال، فمن الصعب أن يضعوها على النساء، كما أنهم لم يعتادوا من النساء أن تقوم بمثل هذه الأدوار، وتذكروا أننا نتكلم عما قبل (1400) سنة سابقة، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة تحمل الطعام والشراب وتسير به مسافة (8) كيلو متر من مكة وحتى غار ثور، ثم تصعد الجبل الصعب، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة! لكن لا تستغربوا، فإنها ابنة الصديق رضي الله عنه وعنها.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-4


إلي بيت الصديق - رضي الله عنه -


خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهيرة إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي غطى رأسه ببعض الثياب، ووصل إلى بيت الصديق من دون أن يراه أحد، فاستغرب الصديق من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وقال: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، والصديق إلى الآن لا يعلم أنه سيهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الهجرة في هذا اليوم ليلاً، في نفس اليوم الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم فأذن له أبو بكر، فدخل، فوجد مع أبي بكر أهله، فقال له: (أخرج من عندك، فقال الصديق: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله -يعني: لا تخف منهم- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج)، يعني: الهجرة.

وانظروا إلى أول رد فعل للصديق رضي الله عنه وأرضاه، أول شيء كان يشغله أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخيل أن يبتعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو للحظات، فقال أبو بكر عندما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيهاجر: (الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة).

فرح الصديق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة، ولم يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلم أكن أدري أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي)، هذا مع الخطورة المعروفة في هذه الرحلة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة الموقف، وأنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقاً؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمه أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وتهون أمامه كل المصاعب ويبقى إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سنهاجر، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.

من قبل أن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيهاجر معه كان قد جهز راحلتين، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراحلة، ولكنه قال للصديق: بالثمن، ودفع ثمن الراحلة للصديق رضي الله عنه.

لا شك أن الصديق كان إنساناً وكان تاجراً وكان أباً وكان زوجاً وكان كذا وكذا وكذا، مثل أي شخص بيننا، لا شك أن عنده أشياء كثيرة تشغله وتعطله مثل أي إنسان، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يعطي للعمل لله عز وجل القدر الحقيقي، من أجل ذلك كان يجد وقتاً وطاقة؛ لأنه يريد أن ينفذ ما أمره به ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الإنسان الذي عاش للإسلام، فـالصديق رجل عاش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، الأوليات عنده واضحة، وهذه من أهم الدروس التي ممكن أن نتعلمها من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أننا نضع الإسلام وواجبات الأمة في المرتبة الأولى من الأولويات لدينا.





سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-3


إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة
مع أبي بكر وعلي رضي الله عنهما



نزل جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر هذه الجريمة، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، والرسول عليه الصلاة والسلام سأله عمن يهاجر معه؟ فقال: أبو بكر الصديق، يعني: صحبة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل، ويا لها من درجة عالية للصديق رضي الله عنه وأرضاه.


بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب للهجرة، وبالذات أنه علم أن المشركين يريدون قتله فجر يوم الجمعة (27) صفر سنة (14) من النبوة، فزعماء قريش اجتمعوا في يوم الخميس (26) صفر، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويرتب معه موضوع الهجرة، ولابد أن يكون كل شيء في سرية تامة، ولا يلفت أنظار أي شخص من قريش؛ من أجل ألا يقدم زعماء قريش موعد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.


وهناك مشكلة أخرى كان يفكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي هل كان أبو بكر جاهزاً للسفر مباشرة في الموعد الذي أخبره جبريل أن يهاجر فيه، فـ الصديق سيترك كل شيء، ولا يدري متى سيرجع، وقد لا يرجع بالمرة، ويموت في المدينة المنورة، وسيأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عائلته، فهو سيترك بناته وأولاده وأباه وأمه، وهذه تعتبر مشكلة بالنسبة للصديق.


وهناك مشاكل أخرى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: أن قريشاً سوف تكتشف هجرته لا محالة إن آجلاً أو عاجلاً، فكيف يعطل المطاردة المشركة له؟ كيف يهرب منهم والكفار كلهم يعرفون أنه مسافر إلى المدينة المنورة، ويعرفون الاتجاه الذي يمشي فيه؟ ومنها: أنه كانت عنده أمانات كثيرة وضعها أهل مكة عنده، وكأنه مثل البنك بالنسبة لهم، كان يحفظ لهم أماناتهم وأموالهم، ومع أن أهل مكة مشركون ورافضون للإسلام، إلا أنهم لم يجدوا أحداً في مستوى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يضعون أماناتهم عنده مع حربهم المستمرة له صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعاجيب الزمان! المهم أن هذه كانت مشاكل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لابد أن يجد لها حلاً.


ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصديق رضي الله عنه في وقت الظهيرة؛ لأن شوارع مكة في ذلك الوقت تكون خالية، ولن يراه أحد إذا ذهب في هذا الوقت، كما أن الصديق لم يكن معتاداً مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في هذا الوقت، فيكون هذا أدعى للتخفي.


شيء آخر فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يكلف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمهمتين كبيرتين،

المهمة الأولى: أن ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاء المشركون ونظروا يرون شخصاً نائماً ومغطى ببردة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتأخرون في ملاحقة الرسول صلى الله عليه وسلم.


المهمة الثانية: رد الأمانات إلى أصحابها، وبعد أن ينتهي من المهمتين يهاجر إلى المدينة المنورة وحده.




الثلاثاء، 9 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 14- الهجرة إلى المدينة-2


اجتماع قريش بدار الندوة

بهدف منع الرسول صلى الله عليه وسلم 
من الهجرة إلى المدينة



نتيجة للعوامل السابقة الموجودة في المدينة المنورة، والتي كانت تسبب خطراً كبيراً على زعماء مكة، إلا أن المسلمين كلهم تسربوا من بين أيديهم، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه هما: أبو بكر وعلي رضي الله عنهما، وإذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه فكل المشاكل التي يخافونها ستقع، لكن من المؤكد أنه لا خطورة على مكة والرسول صلى الله عليه وسلم مازال فيها؛ لأنه من المؤكد أن المهاجرين والمؤمنين من الأوس والخزرج سوف ينتظرون قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ من أجل أن يضمنوا سلامته من ناحية، ومن ناحية أخرى ليأخذ القرار بالهجوم على مكة، فلو استطاع المشركون أن يسيطروا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن خطر يثرب سيقل، لكن كيف يسيطرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقبيلة بني هاشم قبيلة كبيرة وعزيزة، ومن الصعب أن يدخلوا معها في حرب أو صراع، فقرر زعماء مكة نتيجة لهذه الحيرة أن يعقدوا اجتماعاً طارئاً، ليجدوا حلاً.

في يوم الخميس (26) صفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة عقد الاجتماع، وكان أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية، ما عدا قبيلة بني هاشم؛ مثل أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب كلهم عن قبيلة بني عبد شمس، والنضر بن الحارث عن بني عبد الدار، وأمية بن خلف عن بني جمح وغيرهم كثير، ولم يسمح لأي قبيلة غير قريش أن تدخل دار الندوة.

وبمناسبة دخول هؤلاء دار الندوة لا يوجد دليل صحيح على قصة إبليس الذي تمثل بصورة الشيخ النجدي وحضر معهم الاجتماع؛ فإن شياطين الإنس في مكة لم يكونوا بحاجة إلى شياطين الجن.

بدأ الاجتماع الخطير، ووضعوا المشكلة التي اجتمعوا من أجلها، وبدءوا بالنظر في آراء الحضور، فالطائفة المعتدلة من زعماء مكة كانوا يرون أن حبس الرسول صلى الله عليه وسلم كافياً، لكن اليمين المكي المتطرف كان رأيه مخالفاً لهذا الرأي، قال أحدهم -ولعله أبو جهل -: لابد من قتل هذا الرجل، وفي الحقيقة أن هذه الفكرة كانت تعجبهم، ولكن لم يكن عند أحد الجرأة أن ينطق بها؛ لأن بني هاشم قبيلة قوية، ومن الذي سيضحي بنفسه وقبيلته ويقف أمام بني هاشم، لكنّ أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية،


وهي: أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شاباً قوياً، فيحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تجد بنو هاشم أمامها إلا قبول الدية؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا كل القبائل، ثم خرجوا بالموافقة على هذا، قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف هذا الحدث: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال:30]، (يثبتوك) أي: يقيدوك أو يحبسوك، {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

هذه الأفكار التي ظهرت في دار الندوة، وهذه التدبيرات كلها تقع تحت كلمة: ((وَيَمْكُرُونَ)).
وفي الجزء المقابل: ((وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)).