الثلاثاء، 18 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 22- نصر بدر-1


الدرس الثاني والعشرون نصر بدر


من أسباب نصر الله لعباده المؤمنين أن يكونوا متحابين متآلفين متماسكين، مهما اختلفت أجناسهم، إذ إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، فتحقيق هذا الأمر مع غيره من المطلوبات الشرعية يحقق الصدق مع الله الذي نصر به المسلمون في غزوة بدر وغيرها من الغزوات، وخذل به أعداؤهم، وأنزل الله لتأييدهم جنوداً من عنده سبحانه.


تابع صفات الجيش المنصور وملامحه


أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.


في الدرسين الماضيين تكلمنا على أحداث كثيرة من أحداث غزوة بدر، وخرجنا من الدرسين بعدة صفات للجيش المنصور، أهمها: أنه جيش مؤمن بالله عز وجل، مؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، مؤمن باليوم الآخر، يعمل بصدق للوصول إلى الجنة، يتعاون فيه القائد مع الجنود لخدمة الأمة الإسلامية، لا ينعزل فيه القائد عن جيشه ولا الحاكم عن المحكومين، تترسخ فيه الشورى كمبدأ أصيل من مبادئ الحكم والوصول إلى قرار، يعد العدة المادية من سلاح وخطة وتدريب بقدر ما يستطيع، جيش حاسم غير متردد، نشيط لا فتور فيه، متفائل لا إحباط فيه، جريء شجاع لا يهاب الموت بل يطلبه؛ هذه بعض صفات الجيش المنصور.


الوحدة والتماسك بين المؤمنين
على أساس الدين لا النسب



ما زالت هناك صفات مهمة، وكلها واضحة في أهل بدر: الوحدة والألفة والتماسك والترابط بين أفراد الجيش الواحد، وبين أفراد الأمة الواحدة، فإنه لا يوجد نصر من غير وحدة.


هذه قاعدة، لكن الوحدة في الجيش المنصور لا بد أن تكون وحدة عقائدية، بمعنى: أن الرابط الرئيسي بين المسلمين هو الإسلام، لا قبلية ولا لون ولا عنصر ولا وضع اجتماعي ولا أي شيء من متعلقات الدنيا، فالوحدة في الله والأخوة في الله هما اللتان تنفعان فعلاً.


انظر إلى أهل بدر! جيش قوي متماسك، مع أن تركيبته عجيبة خاصة في هذا التوقيت، قبل الإسلام كان الرباط الأساسي في الجزيرة -ولعله الوحيد- هو رباط القبلية، حتى قالوا كلمتهم الفاسدة: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، ليس من المهم في أيام الجاهلية أين الحق أو العدل، لكن المهم أن هذا من قبيلتي سواء كان ظالماً أو مظلوماً لا فرق، فجاء الإسلام ليغير المقاييس الباطلة التي كانت الجاهلية تحكم بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال الكلمة نفسها لكن بتعديل كبير جداً في المفهوم والتصور.


قال لأصحابه: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماًَ)، وهذا الحديث في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، فتعجب الصحابة، وقالوا: (يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم: تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره).


وهكذا فإن أخي هو المشترك معي في العقيدة، ليس مهماً ما هي قبيلته أو بلده، أنصره بالعدل والحق فقط، ولو ظَلَم أشترك مع غيري كي أرده عن ظلمه، وأكبر ظلم في الدنيا هو الإشراك بالله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؛ لذلك رأينا التلاحم والتناصر والوحدة بين الطوائف المختلفة من أهل بدر، هذه الطوائف لم يجمعها إلا شيء واحد فقط هو الإسلام، فقد حاولوا أن يردوا الظلم الذي ارتكبه غيرهم، حتى لو كان الظالمون الآباء والأبناء والأقارب والعشيرة.


إن جيش المسلمين في بدر كان فيه المهاجر الذي من قريش، والأنصاري الذي من الأوس والخزرج، وفرع قريش بعيد جداً عن فرع الأوس والخزرج، فقريش من العدنانيين، والأوس والخزرج من القحطانيين، فرعان مختلفان تماماً، ومع ذلك لأول مرة في تاريخ العرب يكونون جيشاً واحداً، والذي جمعهم هو الإسلام؛ هذه نقطة من أهم نقاط بناء الأمة الإسلامية.


إن هذا الجيش لم يكن من كل القبائل فقط، بل كان فيه العربي وغير العربي، فـ بلال كان في هذا الجيش مع أنه حبشي، ولم يشعر مطلقاً بالغربة في هذا الجيش الذي يغلب عليه العرب، ولم يشعر العرب في داخل الجيش بأن هناك عنصراً غريباً في داخل الجيش من الحبشة، بل التعاون والتلاحم بينهم كان على أكبر مستوى.


تعالوا لنرى قصة قتل أمية بن خلف.
كان أمية بن خلف خائفاً من أن يشترك في غزوة بدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن المسلمين سيقتلونه، وكان أمية بن خلف صديقاً لـ عبد الرحمن بن عوف أيام الجاهلية، كان عبد الرحمن بن عوف يمشي في أرض بدر قبل انتهاء المعركة بقليل، وقد وضح أن النصر حليف المسلمين، حاملاً في يديه مجموعة أدراع استلبها من القتلى المشركين الذين قتلهم، والسلب: هو ما يكون على القتيل المشرك، وهو من حق المسلم الذي قتله، فرأى أمية وابنه واقفين في منتهى الرعب، فلما رأى عبد الرحمن صرخ: هل لك فيَّ تأخذني أنا؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيتك اليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ فرمى عبد الرحمن بن عوف بالأدراع وأخذ أمية بن خلف وابنه، واسم ولده علي بن أمية.


أخذ عبد الرحمن يمشي بهما في أرض بدر، فمر عليهم بلال بن رباح رضي الله عنه فلما رأى بلال أمية بن خلف تذكر الذكريات المؤلمة فإن أمية هو الذي كان يعذب بلالاً في مكة، فصرخ بلال: رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا.


لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ الموضوع ببساطة، وقال لـ بلال: أي بلال! أسيري، فكان بلال لا يقول إلا كلمة واحدة: لا نجوت إن نجا، فرأى عبد الرحمن بن عوف أن بلالاً يأخذ الموضوع بجد ولا يسمعه، فقال له: أتسمع يا بلال؟! هذا أسيري، فقال بلال: لا نجوت إن نجا، وكان عبد الرحمن يمنع بلالاً من الوصول إلى أمية، فنادى بلال إخوانه من الأوس والخزرج صارخاً: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف.


لا نجوت إن نجا، فجاء الأنصار وأحاطوا بـأمية بن خلف وابنه وبـعبد الرحمن بن عوف ، فلم يستطع عبد الرحمن أن يفعل شيئاً، وما هي إلا لحظات حتى تحققت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل أمية بن خلف وابنه على يد الأنصار رضي الله عنهم وعلى يد بلال ، وهكذا انتصر الأنصار -الأوس والخزرج- لأخيهم في الله بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنهم أجمعين، ومع أن عبد الرحمن بن عوف ضاعت من يده ثروة كبيرة إلا أنه كان يقول: يرحم الله بلالا ! ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.

وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه خاله في يوم بدر، كان اسمه العاص بن هشام بن المغيرة .


وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبحث عن ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ليقتله، وكان مشركاً يقاتل في صف المشركين، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يشبه أبا بكر بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأن ابتلاءات أبي بكر كانت قريبة من ابتلاءات إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد وصل الأمر إلى أنه كان سيذبح ابنه كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لكن بلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أشد: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، أراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابناً باراً به مؤمناً أصبح بعد ذلك نبياً، لكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يريد أن يذبح ابناً مشركاً، لكن هذا أيضاً صعب جداً، فإن ولدك مهما صنع فيك لا تحب له الأذى، فضلاً عن أن تؤذيه بنفسك، لكن أبا بكر كانت حياته كلها للإسلام، والأوسي والخزرجي والحبشي والرومي إخوانه في الله؛ لأنهم مسلمون، لكن ابنه ليس من أهله؛ لأنه مشرك، فيا له من إيمان في منتهى العمق! والحمد لله لم يستطع أبو بكر الوصول إلى ولده عبد الرحمن رضي الله عنه؛ لأن عبد الرحمن بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه.


ورأى مصعب بن عمير رضي الله عنه في نهاية موقعة بدر أخاه أبا عزيز بن عمير أسيراً في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شدَّ يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فتعجب أبو عزيز وقال لأخيه مصعب : أهذه وصاتك بي! فقال مصعب رضي الله عنه يلخص سبباً من أهم أسباب النصر: إنه -أي: الأنصاري- أخي دونك، سبحان الله!


هذا هو رباط العقيدة والألفة والمحبة والتعاون والتناصر في الله عز وجل، ثم يأتي من يقول: إن هذا الفعل يدل على التجرد من مشاعر الإنسانية، فإن مصعب بن عمير لا يشعر بأخوته لأخيه من الدم، فنقول: بل هذا هو منتهى الرقي في المشاعر الإنسانية، كل المشاعر موجهة لله عز وجل، إذا كان الإنسان يعيش لقضية ما، فإنه يكرس لها كل جهده ومشاعره وطاقاته، ويصبح متجرداً تماماً لهذه القضية، فإذا كانت هذه القضية هي إرضاء رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذه من أبلغ وأعظم المشاعر التي يتحلى بها الإنسان، وإننا الآن نتحدث عن يوم حرب ونزال ومفاصلة، وليس حديثنا عن أيام دعوة، فإن العلاقة في أيام الدعوة مختلفة تماماً مع الرحم، لكن الآن هناك مفاصلة كبرى كما ترون. ولن يفهم كل الناس هذه المشاعر المتجردة لله؛ لأن القليل من الناس هم الذين قد يصلون إلى هذا المستوى الراقي من الحس والفكر، فهذا الجيش كان عظيماً فعلاً.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق