الأربعاء، 26 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 26- الخروج من مصيبة أحد-3


حكمة إبقاء زعماء الكفر في غزوة أحد أحياءً بعد الغزوة


من الآثار والحكم اللطيفة في يوم أُحد: أن المسلمين لم يقتلوا عدداً كبيراً من الكافرين مع رغبتهم في قتلهم، والله عز وجل أراد أن يحفظ دماء هؤلاء الكافرين؛ لأنهم بعد سنوات سيسلمون ويصبحون نصراً للإسلام والمسلمين، انظر إلى القائد الأعلى لجيش مكة أبي سفيان والقواد الثلاثة الذين كانوا يساعدونه صفوان بن أمية، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، هؤلاء القواد الأربعة سواء كان القائد العام أو الثلاثة الذين تحته أسلموا، وكلهم كان لهم دور كبير في المعارك الإسلامية، وليس هؤلاء فقط، بل ومن النساء هند بنت عتبة التي كانت تحمس الجيش للقتال، والتي بقرت بطن حمزة رضي الله عنه وأرضاه ولاكت كبده، أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها، فهؤلاء القادة الأربعة وهند بنت عتبة شاركوا في موقعة اليرموك، وكان لهم دور كبير في نصر المسلمين في اليرموك، فأحياناً يكون في داخلنا رغبة قوية في هلكة الظالمين، ورغبة قوية في أن يخلصنا الله سبحانه وتعالى من فلان وفلان وفلان؛ لأنهم كادوا للإسلام ومكروا به، ومع ذلك يخبئ الله عز وجل لنا خيراً كثيراً في إبقائهم، فبعد قليل سيصيرون مسلمين، ويكونون هم أنصار الإسلام.



اصطفاء الله كثيراً من المجاهدين للشهادة


من الآثار والحكم التي نريد أن نقف معها وقفة: أن في هذه المصائب التي تنزل على الأمة الإسلامية ينتقي الله عز وجل بعضاً من المسلمين ليتخذهم شهداء، ومن الممكن أن يكونوا شهيدين أو ثلاثة في المعركة، عندها لن تأخذ في بالك قيمة الشهداء وعظمتهم، لكن حين يستشهد سبعون من المسلمين، فهذا أمر لافت للنظر جداً، وخاصة بهذه الطريقة المؤثرة التي حدثت يوم أُحد.


إن قصص الشهداء تفتت الأكباد خاصة عندما تقرأ قصة الشهيد الأول والثاني والثالث والعاشر إلى السبعين، هذا لابد أنه سيلفت النظر بوضوح إلى قيمة الشهداء في الميزان الإسلامي، فالقرآن مركز على قضية الجهاد، ويلفت النظر إلى أن الجهاد يكون بالنفس والمال، فالجهاد في غاية الأهمية، لا تقوم أمة إلا بالجهاد في سبيل الله، وإن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله ذلت: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى تعودوا إلى دينكم).


هذا هو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الواقع الذي نراه في كل صفحة من صفحات القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، ليس المال فقط، بل {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة:44]، فأنت عندما تجاهد بنفسك فهذا لاشك أنه شيء عظيم، وعندما تفقد نفسك وأنت ثابت في سبيل الله سبحانه وتعالى فهذا شيء أعظم، وعندما تهوى الموت في سبيل الله ويصبح أعظم أمنية عندك فلا شك أن هذا أعظم وأعظم وأعظم، وكل هذا رأيناه في أُحد، وليست المسألة أنك تكون شهيداً بمجرد رغبة عابرة تأتي على الذهن في لحظة من لحظات علو الإيمان أو القرب من الله عز وجل، ليست هذه السنة، السنة أن طريق المسلم طويل وصعب حتى يصل إلى الشهادة، نعم، هناك استثناءات وهناك بعض الظروف لا تكون على هذه الصورة، لكن الأصل أن الطريق طويل.

وكنت مستغرباً لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي ذكر فيه أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام ذكر أموراً كثيرة لا علاقة لها بالجهاد قبل أن يتكلم عن الجهاد؟ يا ترى! ما هو الرابط بين هذه الأمور وبين الجهاد؟ ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه لما سأله؟ سأل معاذ بن جبل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالاً جميلاً، ولكنه صعب، قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال له صلى الله عليه وسلم: لقد سألتني عن عظيم -أي: أمر كبير- وإنه ليسير على من يسره الله عليه -وما هو الطريق؟ - قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) الأمر الأول: توجيه النية الكاملة لله عز وجل عند المسلم، حتى يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون مجاهداً، ويصل بعد ذلك إلى الشهادة.


قال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، وليس من المعقول أبداً أن يكون مجاهداً دون أن يعمل هذه الفرائض، ثم قال: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا قول الله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ قوله: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).


فالرسول عليه الصلاة والسلام تكلم عن بعض أعمال الخير من الفرائض والنوافل من صيام وصدقة وقيام كلها مهمة جداً في الطريق للجهاد في سبيل الله، ثم قال: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ لسانه وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم).


إذاً: طريق الجهاد طريق طويل، لا يستطيع أن يصل إليه المسلم دون أن يؤدي الفرائض التي عليه، ولن يصل إلى طريق الجهاد في سبيل الله عز وجل من واظب على المعاصي والمخالفة، وواظب على عدم اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرائض.


ثم بعد الفرائض النوافل أيضاً، لن يصل إلى الجهاد إلا من قام الليل وتصدق وصلى النوافل وصام صيام النفل، فإن فعل ذلك كله أصبح مستعداً لأن يكون مجاهداً في سبيل الله، فيبدأ في حبه للجهاد في سبيل الله، فإنه لن يصل إلى الجهاد في سبيل الله إلا من أحبه، ولن يصل إلى مرتبة المجاهدين إلا من طلب الجهاد بصدق في سبيل الله، ولابد أن يكون كله في سبيل الله. إذاً: قضية الإخلاص في العمل قضية واضحة، فلو أنك تقاتل في سبيل القومية، أو في سبيل الوطنية أو في سبيل أهلك أو في سبيل كذا وكذا وكذا، كل هذا لا يصل بك إلى درجة الشهادة، فهذه محطة مهمة من محطات الوصول إلى الشهادة أن تكون مجاهداً في سبيل الله.


وبعد الإخلاص تحب الموت في سبيل الله، وهذه درجة أعلى، فقبل أن تصل إلى الشهادة لابد أن تحبها وتكون طالباً لها، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يحبب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قضية الموت في سبيل الله، وإنه لمكروه أن تطلب الموت في أي ظرف، إلا إذا كان في سبيل الله وكنت في أرض القتال، عندئذٍ ستطلب من الله سبحانه وتعالى أن ينعم عليك بنعمة الموت في سبيله سبحانه وتعالى. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في الحديث: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل) هذه هي أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في البخاري فإن قيل: لماذا يتمنى عملية القتل المتكررة؟ يفسر ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر في البخاري أيضاً يقول: (ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة)؛ لأنه عند دخوله الجنة يلقى خيراً عظيماً جداً نتيجة الشهادة؛ فيتمنى أن يعود فيقتل ليضاعف له من الخير في الجنة.

وقد صح في مسند أحمد بن حنبل و الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للشهيد عند الله سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة،ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه) .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق