الأحد، 16 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 19- الطريق إلى بدر-6


تابع وقفات مع سرية نخلة


لكن في نفس الوقت كانت هذه السرية في آخر ليلة في الشهر الحرام رجب، والقتال فيه ممنوع فهل يتقيد الصحابة بالقوانين التي انتهكها عدوهم آلاف المرات، ويضيعون فرصة السيطرة على القافلة، أم يرمون بالقانون عرض الحائط ويهجمون على القافلة؟ هل يرفع الصحابة الظلم الذي وقع عليهم منذ سنين، وقد جاءت فرصة قد لا تتكرر بسهولة، أم يتركون هذه الفرصة الثمينة؟ هل يراعي المسلمون الآن الشهر الحرام، ولا يعتدون على قريش وقد سلبت أموالهم وهتكت أعراضهم وأراقت دماءهم في مكة البلد الحرام، وفي الأشهر الحرام قبل ذلك على يد أصحاب القافلة أنفسهم، هل يفعلون ذلك، أم ينتقمون لأنفسهم وقد جاءتهم الفرصة؟ كانت أسئلة محيرة جداً في أذهان الصحابة، فقد جلسوا سوياً يتشاورون، وبعد الشورى أخذوا القرار، والقرار كان برفع الظلم الذي وقع عليهم، والهجوم على القافلة في الليلة الأخيرة من شهر رجب.


وبالفعل قامت الفرقة الإسلامية بالهجوم على القافلة، وقتل في هذا الهجوم أحد المشركين وكان اسمه عمرو بن الحضرمي وأسر اثنان من المشركين: عثمان بن عبد الله بن المغيرة، و الحكم بن كيسان ، وفر الرابع وكان اسمه نوفل بن عبد الله بن المغيرة ، وغنم المسلمون القافلة بكاملها، وعادوا إلى المدينة بالأسيرين والقافلة، وقد حققوا انتصاراً لم يحققوه قبل ذلك. وهذان الأسيران كانا أول أسيرين في الإسلام، والقتيل هو أول قتيل في الإسلام، وهذه أول غنائم في الإسلام، كان يوماً فاصلاً في تاريخ الجزيرة العربية.


وقامت الدنيا بعد هذا الحدث ولم تقعد، وتباينت آراء الناس تماماً في هذا الحدث، فقريش على كفرهم وظلمهم وتكبرهم وإجرامهم في حق المسلمين لبسوا لباس الشرف والدين والأخلاق وقالوا: إن المسلمين انتهكوا الحرمات، وخالفوا الأعراف، وتعدوا على القوانين.


سبحان الله! قريش تتحدث عن الحرمات والأعراف والقوانين؟! ألم تكن مكة بلداً حراماً حرم فيه قتل الحيوان وقطع النبات فضلاً عن إيذاء الإنسان؟ ألم تكن هناك مخالفة لأعراف مكة والجزيرة عندما تخلى الأهل والأحباب والأصحاب عن أشرف الرجال محمد صلى الله عليه وسلم، والذي كانوا يلقبونه بالصادق الأمين؟ ألم يغروا به سفهاءهم، وأهانوه هو وصحبه، حتى اضطر إلى ترك الديار والأهل العشيرة؟ أليس من قوانين مكة والجزيرة ألا يظلموا وألا يقبلوا بظلم؟ أليست أجساد المسلمين حرمات؟ ألم تشهد مكة البلد الحرام جلداً وإغراقاً وإحراقاً وتقتيلاً لرجال ونساء، ليست لهم جريمة إلا أنهم أمنوا بالله عز وجل؟ ألم تكن هذه الدماء حراماً، أين احترام القوانين؟ أين حفظ الحرمات؟ أين الالتزام بالأعراف؟ لماذا أرادت قريش أن يطبق القانون على المسلمين في مرة واحدة خالفوا فيها، بينما هي لم تطبق على نفسها القانون في مرات ومرات تمت فيها المخالفة بشكل علني وصريح؟


هذا هو الكيل بمكيالين، وهو سلوك كل الظالمين، لا يلجئون إلى القانون إلا إذا كان يحكم لهم، فإن حكم لغيرهم كانوا أول المخالفين، أهذا منطق يعتد به؟! وإلى الآن -سبحان الله- كثير من الدول الظالمة تعيش بهذا المبدأ الفاسد، كل يوم تنتهك الأعراف العالمية، وتدمر القوانين الدولية، وليس هناك من يتكلم أو يعترض على هذا، فإذا خالف المسلمون مرة قامت الدنيا ولم تقعد.


كثير جداً من دول العالم تمتلك السلاح النووي، ولو فكرت دولة إسلامية في امتلاك السلاح النووي قامت الدنيا ولم تقعد، فما هو الفرق؟ أليس هذا كيل بمكيالين؟ أحرام على المسلمين وحلال لغيرهم؟ هذا لا يمكن أبداً أن يكون منطق الحق والعدل، هذا منطق القوة الغاشمة الظالمة، وهذا كان منطق قريش في ذلك الوقت، فلم تكن ثورة قريش الإعلامية لإيمانها الحقيقي بعدم جواز خرق القانون، إنما كانت الثورة لكونها هي المتضررة، ولو كان غيرها هو الذي وقع عليها الضر ما تكلمت، بل لعلها كانت ستؤيد وتبارك، قال تعالى: (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ )) [المطففين:1-3].


كان هذا موقف قريش، فما هو موقف الرسول عليه السلام؟ في الحقيقة إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع في حرج شديد، فالرسول عليه السلام لم يكن عنده وحي تماماً بهذه المسألة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر بصفة عامة خرق القوانين والحرمات، فلم يأمر بقتال في الشهر الحرام، ولم يرده، حتى إنه لم يسعد بما حدث عندما سمع به، بالرغم أن المسلمين عانوا قبل ذلك آلاماً كثيرة جداً، وبرغم أن هذا أول قتيل في الإسلام وأول أسيرين في الإسلام، وأول قافلة في الإسلام، لم يفرح بهذا الموقف كله، وتوقف صلى الله عليه وسلم، فالمسألة عنده مسألة مبدأ صلى الله عليه وسلم، وأنكر على الصحابة ما فعلوه.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق