السبت، 26 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 34- فتح خيبر-1



الدرس الرابع والثلاثون فتح خيبر

من آثار صلح الحديبية العظيمة فتح خيبر، فقد سارع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة من صلح الحديبية إلى خيبر، لتأديب اليهود ومعاقبتهم على دسائسهم ومؤامراتهم، واصطفى للقتال من بايع بيعة الرضوان، فأجرى الله تعالى على أيديهم فتح خيبر وغنم المسلمون أموالها، وكان ذلك فتحاً مبيناً.


أسباب فتح خيبر

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

تحدثنا قبل ذلك عن صلح الحديبية، وذكرنا أن صلح الحديبية يعتبر نقطة تحول حقيقي ويعتبر نقلة نوعية في تاريخ الأمة الإسلامية بكل المقاييس، ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح الهام يرتب أوراقه من جديد، فقد قام بخطوتين كان من الصعب جداً أن يقوم بهما قبل هذا الصلح:

الخطوة الأولى: خطوة مراسلة زعماء وملوك العالم، وهي خطوة ما كان يستطيع أن يقوم بها أبداً قبل صلح الحديبية؛ لأن دولة الإسلام في ذلك الوقت كانت دولة غير مستقرة، غير معترف بها حتى في محيط الجزيرة العربية، فكيف يعترف بها على مستوى العالم، أما بعد صلح الحديبية فقد استقرت الأوضاع إلى حد كبير جداً في المدينة المنورة، وأمن الناس من احتمال الحرب، واعترفت قريش بالدولة الإسلامية، وكذلك اعترفت القبائل العربية الكبرى بهذه الدولة الجديدة، بدليل دخول بعض القبائل -كخزاعة- في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في نشر الإسلام عالمياً عن طريق مراسلات عديدة إلى زعماء وملوك العالم كما فصلنا.

إذاً: هذه كانت هي الخطوة الأولى بعد صلح الحديبية، وتقريباً بدأت في أول محرم سنة سبع أو في أواخر سنة ست في آخر ذي الحجة.

الخطوة الثانية: فتح خيبر، وقد قام به صلى الله عليه وسلم بمجرد أن انتهى من صلح الحديبية.

وخيبر كما نعلم جميعاً من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود بصفة عامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسود شديد السواد، وهذا السواد شمل كل فترات المعاملات، سواء في السلم أو في الحرب، أو في وقت المعاهدة التي عقدها مع يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، كان الأصل عند اليهود في التعامل هو الخيانة المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام، ثم تطور الأمر إلى معارك حقيقية بين المسلمين وبين يهود القبائل الثلاث، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبق من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر وما حولها من تجمعات أصغر مثل تجمع تيماء، وتجمع فدك، وتجمع وادي القرى، لكن التجمع الرئيس كان تجمع خيبر، وهذا التجمع الكبير من أقوى التجمعات اليهودية مطلقاً، وقد ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر،

وإذا كنا رأينا قبل ذلك أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن علاقة يهود خيبر بالرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث التي ذكرناها قبل ذلك، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم للكيد للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وأخطر محاولات ومؤامرات خيبر كانت مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، فيهود خيبر بعثوا وفداً كبيراً جداً مكوناً من عشرين زعيماً من زعماء خيبر، بالاشتراك مع بعض زعماء قبيلة بني النضير، وبدءوا يجوبون القبائل العربية الكبرى مثل: قريش، وغطفان وغيرهما؛ لتحفيز هذه القبائل على الاجتماع لحرب المسلمين،

ولم يكتف يهود خيبر بالدور التنسيقي للأحزاب، بل بذلوا المال وثمار خيبر لقبائل غطفان؛ لكي يدفعوها دفعاً لاستئصال المسلمين، وقبائل غطفان مرتزقة يحاربون بالأجر، فخيبر ضحت بنصف ثمارها؛ لكي تدفع غطفان لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل كان لهم دور كبير جداً في إقناع بني قريظة بخيانة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل كان سيؤدي إلى كارثة حقيقية بالمدينة المنورة، لولا أن الله عز وجل لطف بعباده المؤمنين، كما فصلنا وشرحنا في غزوة الأحزاب.

رغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا أبداً عن محاولتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتجسس مع المنافقين في المدينة المنورة؛ لكي يدبروا مؤامرات كيدية للمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا التاريخ الطويل من الكيد والدس والمؤامرات يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل والمناسب أن تكون هذه الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، لكن لم يكن ذلك ممكناً ومتيسراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، وما غزوة الأحزاب عنه ببعيد، لأنه قد يجتمع الناس من جديد لمحاصرة المدينة واقتحامها، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يترك المدينة المنورة بدون جند، وخاصة أن حصون خيبر كانت شديدة التحصين والقوة، وأعداد اليهود كبيرة جداً، وتوقع الرسول عليه الصلاة والسلام أن حرب خيبر تحتاج إلى وقت طويل، فلذلك لم يستطع أن يترك المدينة، فانتظر حتى تأتي الفرصة المناسبة، وهو لم ينس أهل خيبر ولم يقلل من شأنهم، وإنما أجل أهل خيبر إلى الوقت المناسب، وهذا الوقت الذي انتظره الرسول عليه الصلاة والسلام لم يضيعه، بل قام بحملات تأديبية لقبائل غطفان وغيرها من القبائل التي تحزبت ضد المسلمين، وكان ما يميز كل هذه الحملات أنها كانت سريعة وخاطفة، وليست بالقوة العسكرية الإسلامية الكاملة، كل هذا خوفاً من هجوم قرشي مباغت على المدينة المنورة،

وكانت هذه الاستراتيجية سارية وبنجاح حتى صلح الحديبية، لكن بعد صلح الحديبية تغيرت الأوضاع، فقد أمن الرسول صلى الله عليه وسلم من حرب قريش، ووضعت الحرب بين الدولتين لمدة عشر سنوات كاملة؛ لذلك أول ما أتم الرسول عليه الصلاة والسلام صلح الحديبية استغل الهدنة التي عقدها مع قريش في تأديب هؤلاء اليهود الغادرين.



الثلاثاء، 22 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-10


نظرة تحليلية حول رسل 
رسول الله صلى الله عليه وسلم 
إلى زعماء ورؤساء وملوك العالم



بقي لنا في موضوع هذه المراسلات العظيمة أن ننظر نظرة تحليلية في السفراء الكرام الذين اختارهم الرسول عليه الصلاة والسلام لإيصال الرسائل إلى زعماء وأمراء العالم.

سنلاحظ عدة ملاحظات جميلة جداً:

أولاً: هؤلاء الرسل جميعاً عندما تنظر إلى أسمائهم تجد أنهم من قبائل مختلفة، فـ عمرو بن أمية من بني ضمرة، وهو الذي أرسل إلى النجاشي.
والعلاء بن الحضرمي من حضرموت اليمن، وأرسل إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين.
وعبد الله بن حذافة من بني سهم، وأرسل إلى كسرى فارس.
ودحية بن خليفة من بني كلب، وأرسل إلى قيصر الروم.
وحاطب بن أبي بلتعة من بني لخم، وأرسل إلى المقوقس في مصر.
وسليط بن عمرو من بني عامر، وأرسل إلى هوذة بن علي باليمامة.
وشجاع بن وهب من بني أسد، وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق.


وهذا الاختلاف في القبائل لا شك أنه إشارة واضحة جداً من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كل المسلمين سواء في المدينة أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبلية أبداً، بل هي دعوة تضم بين طياتها أفراداً من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمثابة الصورة الجديدة المرجوة لهذه الأمة، ووحدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط هو رباط العقيدة الإسلامية.
إذاً: هذه كانت ملحوظة في منتهى الأهمية.


الملحوظة الثانية: أن قريشاً لم يمثلها في هذه السفارات إلا صحابي واحد فقط، وهو عبد الله بن حذافة السهمي القرشي رضي الله عنه، وبقية السفراء جميعاً ليسوا من قريش.

وهذه إشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأصلح هو الذي يعطى العمل ويكلف بالمهمة، بغض النظر عن النسب والمكانة العائلية والقبلية وما إلى ذلك، مع أن الجميع يعرف أن قريشاً هي أعلى العرب نسباً، وقد يقول البعض: لعله من الأصلح والأفضل أن نجعل كل السفراء من قريش؛ لأجل رفع قيمتهم عند زعماء العالم، لكن مثل هذا سيترك رسالة عكسية سلبية وهي أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحاً، الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة.


الملحوظة الثالثة: أن التمثيل القرشي لم يكن فقط يسيراً في هؤلاء السفراء، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدماً تماماً، وهذه إشارة واضحة جداً من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجب أبداً أن تعطى المناصب الهامة إلا للأكفاء بغض النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد، فالقائد المتجرد حقاً هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة.
إذاً: هذه كانت الملحوظة الثالثة.


الملحوظة الرابعة في هؤلاء السفراء الكرام: أنهم جميعاً من المهاجرين لا يوجد فيهم أنصاري واحد، وهذه الملحوظة ليست خاصة بهؤلاء السفراء، لا، سنجدها تقريباً في كل مواطن السيرة، قلما تقلد أنصاري منصباً هاماً أو قيادياً في الدولة الإسلامية؛ ولعل ذلك ليبقى الأنصاري رمزاً في المسلمين يعطي ولا يأخذ، وأنتم تعرفون أهم سمة تميز الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: أنها صفة الإيثار، كما وصفهم الله تعالى وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9]، لابد أن يبقى مثلاً يؤثر على نفسه وهو راض مطمئن.

والأنصار رضي الله عنهم أجمعين ما نالوا من الدنيا شيئاً يذكر، لا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كانوا مثلاً رائعاً للعطاء بلا حدود؛ للإيثار دون تردد، فمن الأفضل أن يظلوا بهذه الصفة دائماً؛ من أجل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم السفارة ولا القيادة، جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه وأرضاه عن أسيد بن حضير أخبره: (أن رجلاً من الأنصار جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ستلقون -يخاطب الأنصار عامة- بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).

يعني: أمر الأنصار ألا يبحثوا أبداً على الإمارة؛ حتى يبقى دائماً مثل الإيثار واضحاً نقياً عندهم رضي الله عنهم.
وليس معنى هذا أن المهاجرين كانوا يتشوفون للإمارة أو يرغبون في السفارة أبداً، بل على العكس المهاجرون باعوا الدنيا تماماً، وهذه السفارات على شرفها خطيرة جداً، وقد يكون ثمنها حياة السفير، وسنرى هذا الكلام فعلاً بعد ذلك مع الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه عندما يقتل على يد شرحبيل بن عمرو الغساني، وسيكون قتله سبباً في غزوة مؤتة، وسنرى هذا في الدروس القادمة.

إذاً: نخلص من ذلك الأمر: أن الأنصار لا يرهبون السفارة ولا المهاجرون يرغبون فيها، لكن كل يؤدي ما يناسبه، وكل ميسر لما خلق له. وكذلك هناك أمر مهم جداً: وهو أن الأنصار يقلون مع مرور الوقت، والناس حولهم تكثر من مهاجرين وغير مهاجرين، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام).

فليس من الحكمة أن يظن الناس أن قيادة الأنصار لازمة؛ من أجل أنهم أهل المدينة التي أقيمت الدولة الإسلامية على أكتافهم، ثم بعد ذلك يفتقد الناس الأنصار لقلتهم، لا، بل الأفضل أن يستمر في الإمارة والسفارة المهاجرون الذين تتزايد أعدادهم تدريجياً، ولهم مكانة كبيرة جداً في قلوب العرب قاطبة، والأنصار سيكونون مساعدين للمهاجرين في حكمهم وقيادتهم، كما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يوم السقيفة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مخاطباً المهاجرين: أنتم الأمراء ونحن الوزراء، وقد فصلنا هذا الكلام كثيراً عندما عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في يوم السقيفة.

الملحوظة الخامسة على موضوع السفراء والأخيرة في هذه المحاضرة: هي أن هؤلاء السفراء جميعاً كانوا يتصفون باللباقة والكياسة والذكاء والدهاء وحسن الحوار، ورأينا هذا الكلام كله من خلال حوارهم مع زعماء العالم، كانوا جميعاً على قدر المسئولية. إن من أجل النعم على الأمة أن يوسد فيها الأمر إلى أهله، وكانت هذه السفارات العديدة نقلة نوعية في خط سير الدولة الإسلامية، فقد انتقلت فيها الأمة الإسلامية من المدينة إلى كل أقطار الأرض، ومن المحلية إلى العالمية، ومن انتظار الفرصة المناسبة للدعوة إلى المبادرة بإرسال دعوات الإسلام إلى كل بقعة من بقاع العالم، إنها نقلة نوعية بكل المقاييس.

نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))  [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-9


موقف هوذة بن علي صاحب اليمامة
من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له


أما هوذة بن علي صاحب اليمامة، فإنه عندما وصلت إليه الرسالة لم يفكر في الإسلام؛ لأنه أعجب بالإسلام، لكنه فكر فيه لأنه شعر بقوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنبأ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم بمستقبل كبير، من أجل ذلك قرر أنه يفاوض الرسول عليه الصلاة والسلام وأرسل له رسالة، قال فيها: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، هذه مساومة.

والرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هوذة بن علي وعده أن يعطيه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، لكن هوذة بن علي رغب في مساومة الرسول عليه والصلاة والسلام حتى يأخذ ملكاً أكبر، وعلق إسلامه على هذا الشرط، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفض أن يطلب أحد الإمارة، ويرفض أن يعطي الإمارة لمن يطلبها، كما جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)،

لماذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الإمارة لمن يطلبها؟ لأنه يعلم أن من سيتولى الإمارة وهو حريص عليها فلن يعود ضرره عليه فقط، ولكن سيعود الضرر على كل من يقود؛ لأنه مفتون بالإمارة، وسيضحي من أجلها لا من أجل الإسلام، ولأنه لو تعارض الإسلام مع استمراره في الإمارة سيترك الإسلام ويتمسك بالإمارة، وهنا قد يتبعه قومه، وستكون كارثة ومشكلة كبيرة؛ من أجل ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الإمارة لأحد طلبها، ومن أجل ذلك علق الرسول عليه الصلاة والسلام على موقف هوذة بن علي وقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت)، ثم تنبأ له بالهلكة، قال: (باد وباد ما في يديه)، وتحقق تنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أقل من سنتين، حيث مات هوذة بن علي وفقد ملكه ولم يسلم.



موقف الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق
من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له


من الزعماء الذين أرسل إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام الرسائل الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وكان هذا الرجل نصرانياً تابعاً لـ هرقل قيصر الروم، وكان رده تقريباً نفس رد كسرى زعيم فارس، ألقى الخطاب وقال: من ينزع ملكي مني؟ وأنا سائر إليه، وبدأ في تجهيز الجيوش من أجل أن يغزو المدينة المنورة، لكن قبل أن يفعل هذا أحب أن يستأذن هرقل وبعث له برسالة، فتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فـ هرقل قال له: لا، انتظر، لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث؟ فأمره ألا يرسل الجيوش، فانصاع الحارث إلى كلام هرقل ولم يرسل الجيوش، وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم رد فعل الحارث قال: (باد ملكه)، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ما لبث أن مات وباد ملكه تماماً، بل دخل ملكه بعد ذلك في ملك المسلمين.

إذاًَ: هذه كانت ردود الأفعال المختلفة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للعالمين، وكما رأينا اختلف رد الفعل من إيمان سريع، إلى تفكير ثم إسلام، إلى حياد مؤدب، إلى رفض للإسلام، إلى حرب الإسلام، ردود مختلفة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ونخلص من كل هذه الرسائل إلى أنه ليس من واجب الداعية أن يفتح قلوب الناس إلى الإسلام أبداً، لكن من واجب الداعية أن يصل إليهم بدعوته بيضاء نقية، ثم بعد ذلك فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح قلوب من يشاء إلى الهدى والإيمان، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] والرسول عليه الصلاة والسلام عمل هذا البلاغ على أتم ما يكون.


سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-8


موقف كسرى ملك فارس
من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له


أما كسرى فارس وكان اسمه إبرويز بن هرمز، وقد ظهر عداؤه للإسلام من أول لحظة قرأ فيها الخطاب، وكان ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى هو نفس خطاب هرقل إلى حد كبير، بدأ فيه بالبسملة، ثم بعد ذلك قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس)، ثم بعد ذلك دعا صلى الله عليه وسلم كسرى إلى الدخول في الإسلام، لكن مع تغيير يسير في بعض الألفاظ لتناسب كسرى فارس والديانة التي هم عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، واشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]، فأسلم تسلم، فإن أبيت، فإن إثم المجوس عليك) خطاب في منتهى القوة.

فغضب كسرى غضباً شديداً عندما سمع هذا الخطاب، وتعامل معه بسطحية بالغة، لم يلتفت إلى المعاني التي فيه، ولا إلى الرسالة التي يشير إليها الخطاب، لكن كل الذي نظر إليه الشكليات التي في الخطاب، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما وصلت هذه الكلمات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)؛ لأنه مزق الكتاب.

وبالفعل ففي غضون سنوات قليلة جداً من هذه الأحداث مزق الله عز وجل ملك كسرى تماماً، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية تماماً، وكانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض.

هذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسية الكافرة، لكن كسرى فارس إبرويز لم يكتف بهذه الكلمات وبتقطيع الخطاب، لا، بل إنه حاول أن يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعاقبه بنفسه، فأرسل رسالة إلى عامله الفارسي على بلاد اليمن، وكانت اليمن مستعمرة فارسية، وهي قريبة من المدينة المنورة، فأرسل رسالة إلى عامل اليمن واسمه باذان وكان فارسياً، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة فارس.

انظروا يبعث اثنين فقط من الرجال ليأتيا بزعيم المدينة المنورة، وانظروا كيف كانت نظرة كسرى فارس للعرب، بعث اثنين من الرجال ولم يبعث جيشاً ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة الدولة الفارسية، وقال لهما: أخبراه إن هو رفض فسيقتل، وسيهلك كسرى قومه ويخرب بلاده، فذهب الرسولان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالا له هذا الكلام، فطلب الرسول عليه الصلاة والسلام طلب منهما في أدب جم أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسيرد عليهما، وجلسا في المدينة تلك الليلة، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا كسرى أتى الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بنبأ عجيب،

أخبره أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس إبرويز قتل في نفس الليلة، ومن الذي قتله؟ قتله ابنه شيرويه بن إبرويز، وكانت هذه الوقعة في ليلة الثلاثاء (10) جمادى الآخرة سنة (7) هـ، وفي اليوم التالي أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرسولين وجلس معهما وقال لهما: (إن ربي سبحانه وتعالى قتل ربكما الليلة، ففزع الرسولان وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من ذلك، أنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذان الذي هو ملك فارس في اليمن؟ فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الثقة: نعم أخبراه ذاك عني)،

ليس هذا فحسب، بل قال لهما في يقين: (وقولا له أيضاً: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت -يخاطب باذان - أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك)، والرسول عليه الصلاة والسلام عاملهما معاملة الملك الكريم وحملهما بالهدايا، وأعادهما إلى باذان مرة أخرى، ووصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وقالا له ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان باذان رجلاً عاقلاً؛ فإنه عندما سمع هذه الكلمات، قال: (والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، وليكونن ما قال، فلئن كان هذا حقاً فهو نبي مرسل)، يعني: كيف عرف أن هناك شيئاً حصل في المدائن، وهي على بعد مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن؟ ثم قال: (وإن لم يكن الذي قاله فسنرى فيه رأينا).

وذهبت الأيام وجاء خطاب من الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن إبرويز جاء خطاب إلى باذان عامل اليمن يقول له فيه: إنه قد قتل أباه إبرويز؛ بسبب أنه قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد أن يودي بفارس إلى الهلاك.

سوعندما وصل هذا الخطاب إلى باذان ، حدد باذان الليلة التي قتل فيها إبرويز ، فوجد أنها نفس الليلة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأيقن أن هذا رسول من عند الله عز وجل، وأن الذي أخبره بذلك وحي من عند الله عز وجل؛ لأن المسافات بين المدينة والمدائن هائلة، ومستحيل على أهل ذلك الزمن بأي صورة من الصور أن يعلموا الأحداث التي تحدث في كل بلد، وأنه لا يتم هذا إلا بمعجزة خارقة، فعند ذلك علم باذان أن هذا رسول، وأخذ القرار الذي لم يستطع آلاف وآلاف غيره أخذه، أخذ قرار الإسلام،

وسبحان الله الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فأسلم باذان وحسن إسلامه وأسلم أبناؤه، وأسلم كل الفرس تقريباً في اليمن، وأسلم الرسولان اللذان بعثهما باذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم بعد ذلك كثير من أهل اليمن. فهذه الأحداث تفسر لنا قول الله عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما أرسل رسالة إلى كسرى فارس يريد إسلام شعب فارس الذي هو في الشمال الشرقي من المدينة المنورة، ويريد الله عز وجل أن يسلم بهذه الرسالة شعب اليمن الذي هو في الجنوب، وهو بعيد جداً عن منطقة فارس،

وهذا يلفت نظرنا لشيء مهم جداً ألا وهو أن جهد الداعية لا يضيع، بل يبقى جهد الداعية وينتشر، ولكن ليس بالضرورة أن ينتشر في الاتجاه الذي يريده الداعية، فالله عز وجل يسير الكون بنظام بديع، وتنسيق محكم، وحكمة بالغة، والقلوب بين أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء، فأنت أيها الداعية عليك الدعوة، والله سبحانه وتعالى يفتح القلوب. وبالفعل كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند وعده، فقد أعطى ولاية اليمن لـ باذان رضي الله عنه، وكان إسلام اليمن إضافة كبيرة جداً لقوة المسلمين.

أما كسرى فارس الجديد شيرويه بن إبرويز مع أنه توقف عن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوقف عن التفكير في عقاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يريد أبوه، إلا أنه لم يفكر في الإسلام أصلاً، وبذلك تجمدت تقريباً العلاقات بين الدولة الإسلامية والدولة الفارسية، التي تحركت بعد ذلك بسنوات في عهد الصديق رضي الله عنه، عندما بدأت الفتوحات الإسلامية. إذاً: هذا كان موقف الدولة الفارسية من خطاب ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-7


موقف هرقل بعد قراءة
رسالة النبي صلى الله عليه وسلم 
ودعوته فيها للإسلام


لقد كان هرقل على استعداد لاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة جداً في داخل البلاط الملكي ترفض تماماً فكرة الإسلام، وأدرك هرقل أنه إذا أعلن رغبته في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عليه أن يغامر بملكه، وعليه أن يخاطر بسيادته على شعبه، وقد ينزعه الأمراء نزعاً من رئاسة البلد، حتى إنه في رواية قال لـ دحية بن خليفة الكلبي الذي هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظر، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته.

وفي رواية أخرى ذكرها ابن كثير رحمه الله: أن هرقل اتبع الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب، قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى، الذي كنا ننتظره.

قال هرقل: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.

الأسقف الأكبر آمن.

فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل.

يعني: أنا أعرف أنه نبي، لكن لا أستطيع أن أتبعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.

وفي رواية أخرى: أن هذا الأسقف كان اسمه صغاطر وأنه خرج إلى الرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن الشهادة أمام الجميع: أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

فماذا عمل الناس؟ قام الناس كلهم إليه فضربوه حتى قتلوه.

وهذا الأسقف كان أعظم شخصية في الدولة الرومانية، وهو أعلم من هرقل عند الناس، وعلم هرقل بقتل هذا الرجل الأسقف الكبير فلم يستطع أن يفعل أي شيء مع من قتله، وهذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسي الذي يجلس عليه.

إذاً: هرقل عقد مقارنة سريعة جداً بين الملك والإيمان، وبين الحياة ممكناً وبين الموت شهيداً، فأخذ القرار بمنتهى السهولة، واختار الملك والحياة، ورفض الإيمان والشهادة، لم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان.

فأمر الإيمان واضح جداً، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في نفس الإنسان يضحي، والناس كلها تضحي، ولا أحد يستطيع أن يجمع كل شيء، والواحد قد يضحي بالإيمان من أجل أن يأخذ الملك، وآخر قد يضحي بالملك من أجل أن يأخذ الإيمان، فـ هرقل وأمثاله ينطبق عليه قول الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].

ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108].

وهرقل لا يمكن أن يعذر في عدم إسلامه مهما كانت فتنته، ومهما كان راغباً في الملك راهباً من الموت؛ لأن الإيمان لا يوزن إلى جواره شيء.

ويعلق الإمام النووي رحمه الله على موقف هرقل فيقول: ولا عذر له في هذا؛ لا عذر له في ترك الإيمان مهما كان سيضيع منه أو سيقتل، لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح بالملك وطلب الرئاسة.

ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله أيضاً تعليقاً على هذا الحديث: ولو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة وأسلم، لسلم له كل الدنيا وكل الآخرة، لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله عز وجل.

وهرقل بعد كل هذا اليقين اكتفى بأنه يُحمِّل دحية الكلبي بعض الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه كان يعلم أنه في يوم من الأيام سيئول كل ملكه الذي يحكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوقن بذلك؛ لأن ذلك موجود في التوراة والإنجيل، وقد قال قبل ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان: (إنه سيملك موضع قدمي هاتين) وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال وقد أشرف على الشام حين طلع فوق ربوة عالية وأطل على الشام بكاملها، ثم قال: السلام عليك يا أرض سوريا.

يسلم عليها تسليم الوداع، وأنه لن يرجع إليها مرة أخرى.

أدرك أن هذه البلاد لن تبقى بعد هذا الظهور لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تحت سيطرته، وبعد كل هذه القناعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حد عدم الإيمان، ولم يقبل بالحياد، ولكن سير الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين، مع إحساسه الداخلي أنه سيهزم، وأنه ليس من الممكن أبداً أن ينتصر على نبي ولا على أتباع نبي، لكن هذا لإحساس لم يمنعه من اتباع الشياطين، ومحاولة مقاومة هذا الدين الجديد: دين الإسلام، بداية من مؤتة ومروراً بتبوك، وبعد ذلك معارك متتالية كثيرة في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وتركيا..

وغيرها، ومع فشله في كل هذه المعارك، ومع تناقص الأرض من حوله، ومع ظهور صدق الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً بعد يوم إلا أن هرقل لم يؤمن، ويبدو أن فتنة الكرسي لا تعدلها فتنة. هذا هو موقف الدولة الرومانية، اعتذار مهذب، ثم بعد ذلك حرب ضروس، وهذا الموقف نراه كثيراً جداً في التاريخ والواقع، نراه كثيراً من زعماء وأمراء وعلماء ورجال دين العالم، يعرفون صدق الإسلام، ويعرفون نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنهم يرفضون هذه النبوة حفاظاً على كراسيهم، وشحاً بملكهم، هم قد يحاولون في بعض الأحايين إقامة العلاقات الدبلوماسية اللطيفة، من تبادل الهدايا مع المسلمين، مثل ما عمل هرقل ، لكن حتماً سيأتي يوم تقف فيه الهدايا ويبدأ فيه الصراع، وبدلاً من كلمات التحية سيكون التهديد والإنذار، وبدلاً من الرسائل والسفراء ستكون القذائف والجيوش. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا )) [البقرة:217].

إذاً: إذا كنا وقفنا هذه الوقفة مع رد فعل هرقل والإمبراطورية الرومانية من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نقف وقفة مماثلة مع رد فعل كسرى فارس والإمبراطورية الفارسية، وهي الدولة الثانية التي تقتسم العالم مع الدولة الرومانية. لقد رأينا من هرقل ميلاً في البداية إلى الإسلام، ثم حرباً ومقاومة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-6


وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في دلك الوقت وبين أبي سفيان زعيم قريش أنا أحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ، وهو عجيب من أكثر من وجه، ومن العجيب فيه اهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب، وكذلك من حيث دقة الأسئلة، أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك آنذاك والذي كان يكره سيدنا محمداً كراهية كبيرة جداً، أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه، أو من حيث رد فعل هرقل بعدما سمع كلمات أبي سفيان ، فهو حوار عجيب بكل المقاييس.


بدأ الحوار بسؤال: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان : هو فينا ذو نسب. قال هرقل : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال أبو سفيان : لا. فقال هرقل : فهل كان من آبائه من ملك؟ قال أبو سفيان : لا. قال هرقل : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم. قال هرقل : أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان : بل يزيدون. قال هرقل : فهل يرتد أحداً منهم سخطة لدينه بعدما يدخل فيه؟ قال أبو سفيان : لا، لا يرتد منهم أحد. قال هرقل : فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان : لا. قال هرقل : فهل يغدر؟ قال أبو سفيان : لا، ثم قال: ونحن معه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.


يعني: هل سيغدر أم لا في صلح الحديبية؟ و أبو سفيان أراد أن يقول أي شيء سلبي عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن كل الإجابات ترفع من قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول أبو سفيان تعليقاً على هذه الكلمة: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.

يعني: حاولت على قدر ما أستطيع أن أطعن في رسول الله عليه الصلاة والسلام بأي شيء فلم أستطع إلا هذه الكلمة، و هرقل لم يعبأ بها، وكأنه لم يسمعها. قال هرقل : فهل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان : نعم. قال هرقل : فكيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان : الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

هو يقصد بدراً ثم أحداً. قال هرقل : ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان : يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. انتهى الاستجواب الطويل من هرقل ، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها، وكل معلومة حصل عليها. قال هرقل : سألتك: عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.

وسيبدأ هرقل يأخذ كل كلمة وكل نقطة يثبت بها لـأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله. ثم قال: وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا؛ فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.

وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. هذه هي تحليلات هرقل ، فما هي النتيجة لهذا التحليل؟ لقد كانت النتيجة خطرة فعلاً، يقول بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم.


مستبعد أن يكون من العرب، ثم قال: فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. هذه كلمات خطيرة وعجيبة جداً من زعيم الإمبراطورية الرومانية، أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقاً، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام، وأنه وجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل والرضوخ لقوله تماماً، والتواضع الشديد إلى درجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا المجلس عندما انتهى هذا الحوار دعا هرقل بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة التي جاءت مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان ومن معه، ونحن لا نعرف هل هذه أول مرة يقرأ هرقل فيها الكتاب، أو كان قد قرأه قبل ذلك وأعاد القراءة مرة أخرى؟ المهم أنه قرأ كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام أمام أبي سفيان ومن معه من العرب، وأمام الرومان الموجودين، وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة التي ذكرناها قبل ذلك من الرسول عليه السلام إليهم، وفيها دعوة صريحة إلى دخول الإسلام.

فما أن انتهى من القراءة حتى سمع أصواتاً عالية جداً وكثر اللغط وارتفعت الأصوات في كل مكان، وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي، فزعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين كل هؤلاء رفضوا تماماً هذه الدعوة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما حصل هذا الكلام أمر هرقل بـأبي سفيان ومن معه من التجار أن يخرجوا من القاعة. وتصور معي موقف أبي سفيان وهو يرى رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموقفه عندما رأى قناعة هرقل الذي سمع عن الرسول عليه الصلاة والسلام مرة واحدة، و أبو سفيان له سنين وسنين مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن برسالته بعد، وتصور موقفه وهو يسمع رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم القوية التي وجهت إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت، فهذا الكلام ترك أثراً نفسياً هائلاً عند أبي سفيان حتى إنه ضرب يداً بالأخرى متعجباً وقال: لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة.

يعني: عظم أمر ابن أبي كبشة، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إنه ليخافه ملك بني الأصفر.

يعني: هذا هرقل زعيم الرومان يخشى الرسول عليه الصلاة والسلام. لا شك أن هذا الحدث سيحفر تماماً في ذهن أبي سفيان ، سيكون له بعد ذلك أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان ، وسنرى مواقف عجيبة جداً من أبي سفيان إلى أن يسلم بعد ذلك في فتح مكة.


سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-5


موقف هرقل ملك الروم 
من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له


أما هرقل زعيم الدولة الرومانية التي كانت تسيطر تقريباً على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت، فإن موقفه من الرسالة يحتاج إلى وقفة ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ، سواء في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الأيام التي تلت الرسول عليه الصلاة والسلام، وحتى إنها تفسر لنا أحداثاً كثيرة جداً من الواقع الذي نعيشه؛ لأنكم تعرفون أن التاريخ يتكرر.


فعندما استلم هرقل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، ويستلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع بها أحد إلى الآن، وهذه الدولة الجديدة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونية، يرونهم دائماً أقل من أن يهتموا بشأنهم، لم يدرسوا أحوالهم أو عاشوا ظروفهم؛ لأن هؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء، بعيدون كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، متفرقون مشتتون متنازعون، أحلامهم بسيطة جداً، طموحاتهم قليلة جداً، عددهم محدود، أسلحتهم بدائية، والفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة كالفارق بين السماء والأرض.


وكلنا نعرف كيف كان الصراع يدور بين دولة فارس والروم وكل ما عمله العرب هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، وأنهم يتراهنون من الذي سيكسب من الدولتين العظيمتين فارس والروم، ولم يكن أحد فيهم عنده طموح في مشاركة القوى العالمية لا من قريب ولا من بعيد في الأحداث الجارية في العالم، ومع كل هذا فـ هرقل زعيم الروم عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إليه رسالة أخذ الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك الرجل نبياً حقاً، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط، ويريد دليلاً، ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيماً نصرانياً متديناً ملتزماً إلى حد كبير بتعاليم دينه، وكان يقدر كثيراً أن الله عز وجل يساعده في معاركه، وكلنا نعرف أنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه من حمص إلى القدس شكراً لله على نصره للرومان على الفرس، فمثله يتأكد أنه قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولاً سيأتي، وأن هذا الرسول بشر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان ينتظر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الرجل الذي أرسل له رسالة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر له في هذه الرسالة أنه نبي آخر الزمان، وقبل هرقل الفكرة، بل لعله مشتاق إلى رؤية ذلك النبي، وقبل هذا هرقل كان قد سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الله عز وجل يسر له لقاء غريباً عجيباً؛ فقبل استلام الرسالة هيئ هرقل نفسياً تماماً لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة، وذلك أنه سمع أن نبياً ظهر في بلاد العرب، فقال لجنوده: ائتوني ببعض العرب أسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم، فأتى الجنود ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة في فلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وذهبوا بهم إلى هرقل من أجل أن يتأكد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم،

وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش، وحصلت هذه القصة بعد صلح الحديبية مباشرة، يعني: بعدما تم صلح الحديبية سافر أبو سفيان إلى غزة وأخذه الجنود إلى هرقل في بيت المقدس، وكان التوقيت توقيتاً عجيباً جداً من كل النواحي، وكأن الله سبحانه وتعالى بعث أبا سفيان الكافر في ذلك الوقت ليقيم الحجة على هرقل، وهذا اللقاء ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعه من أبي سفيان رضي الله عنه بعد إسلامه.

فلما مثل التجار عند هرقل سألهم: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً إليه، فقال هرقل: أدنوه مني وقربوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا - يعني: أبا سفيان - عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.

يعني: يريد هرقل أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فهو سيسأل أقرب الناس إليه نسباً؛ لكونه أعرف الناس به، وفي نفس الوقت سيجعل وراء أبي سفيان التجار الآخرين كحكام على صدقه.

فالتجار تحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه كل واحد منهم يخاف أن يكذب، وكذلك أبو سفيان يخاف أن يكذب.

لكن العرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب، وتعتبرها نوعاً من الضعف غير المقبول، من أجل ذلك كان أبو سفيان يقول تعليقاً على كلمة هرقل هذه: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عليه.

فهو في تلك اللحظة مع أنه يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة، فإنه كان بعد صلح الحديبية وقبل إسلامه، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد صلى الله عليه وسلم، لا يستطيع تشويه صورته عن طريق الكذب، فهو يستحي من الكذب إلى درجة أنه كان يقول: ولكني كنت امرأً أتكرم على الكذب.

يعني: لا أستطيع أن أكذب. وبدأ استجواب هرقل لـأبي سفيان أمام الجميع، أمام العرب والرومان، وفي حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء الرومان. وفي هذا الاستجواب سنرى أن هرقل سيسأل أسئلة يحاول بها أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب: أهي نبوة حقيقية أم يدعيها أحد الكذابين؟ وستكون الأسئلة عبارة عن استنباطات عقلية، أو أسئلة بناء على معلومات عن الأنبياء بصفة عامة، أو عن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، كما جاءت في التوراة والإنجيل.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-4


موقف النجاشي ملك الحبشة
والمنذر بن ساوى ملك البحرين
من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم


لقد جاءت أفضل الردود من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوى ملك البحرين، وهؤلاء الاثنان أسلما دون تردد.

واحد أسلم وأخفى إسلامه وهو النجاشي ملك الحبشة؛ لأن وضع الدولة النصراني كان صعباً جداً، فهو لا يستطيع أن يعلن إسلامه، ولأنه لو أسلم فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعًا من كرسيه، وقد حصل قبل ذلك عندما ساند المسلمين أن الشعب أقام عليه ثورة وكاد أن يقتلع النجاشي من كرسيه، من أجل ذلك أخفى إسلامه، وآثر أن يساعد الدولة الإسلامية الناشئة الجديدة هناك في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام.

أما المنذر بن ساوى رحمه الله فقد أعلن إسلامه وأسلم شعبه، وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، لكن يبدو أن المنذر بن ساوى رحمه الله كان قوياً ممكناً في قبيلته ومحبوباً بين شعبه، وكان الناس تبعاً لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت، فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه.

وهذا الوضع غير الوضع في بلاد الحبشة حيث كان بلدًا نظامياً كبيراً له تاريخ طويل، ومن الصعب على النجاشي أن يغير أفكار الناس كلها في لحظة واحدة.
إذاً: هذا هو الوضع بالنسبة لملك الحبشة وبالنسبة لملك البحرين وهذه أفضل ردود.




موقف المقوقس ملك مصر
من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له


أما المقوقس فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي وأكرمه بالهدايا، إلا أنه لم يسلم، وإني لأتعجب جداً من عدم إسلامه؛ لأن المقوقس ذكر في رده لـ حاطب بن أبي بلتعة الذي كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر في رده له أنه كان يعلم أن نبياً سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، فهو كانت عنده تهيئة نفسية لظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلاً في التأكد من كونه نبياً أم لا، مع أنه كان يعرف أنه نبي فعلاً، وإلا لما أكرم سفارته وحملها بالهدايا كما نعلم جميعاً؛

لأنه ليس من الممكن أن يفعل هذا الأمر مع كذاب يدعي النبوة، وخاصة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس فيحتاج إلى مهادنته، بالعكس فإن قوة مصر المادية كانت أضعاف أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، لكن على كل حال إكرام المقوقس لوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أثراً إيجابياً للدولة الإسلامية في كل مكان، أكد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

إذاً: هذا كان رد المقوقس رد بأدب وحمل الهدايا لكن لم يسلم.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-3


نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم
لهرقل والدروس المستفادة منها


وتعالوا نأخذ رسالة كمثال من أجل أن نرى هذا الوضوح، ولكي نفهم ماذا تعني رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك أو زعيم من زعماء العالم.

؟ لندرس رسالة هرقل قيصر الروم، والرسالة جاءت في البخاري، وذكرت رواية البخاري لها؛ حتى لا يستغرب السامع مضمون هذه الرسالة، واعلم أن هذه الرسالة رسالة من رئيس دولة صغيرة جديدة هي دولة المدينة المنورة، وجيشها على أكبر تقدير (3000) جندي، وعمرها لا يتجاوز (6) سنوات، وأسلحتها بسيطة، وعلاقاتها في العالم محدودة جداً، ومع ذلك كله أعلم أن هذه الرسالة ترسل إلى هرقل قيصر الروم، الزعيم الأعظم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الرومانية تسيطر تقريباً على نصف أوروبا الشرقية، غير تركيا والشام بكامله، وغير مصر وليبيا، وجيوشها تقدر بالملايين بلا أي مبالغة، وأسلحتهم متطورة جداً، وتاريخها في الأرض له أكثر من (1000) سنة، ضع كل هذه الأمور في ذهنك وأنت تقرأ أو تسمع كتاب وخطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قيصر الروم.

يقول صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم.

من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) (الأريسيين) يعني: الفلاحين، يعني: الشعب، ثم كتب آية من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى، قال: ({قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]).

رسالة فيها الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب، وهذا الخطاب يحتاج إلى محاضرات لكي نحلله وندرسه ونستخرج منه الدروس التي في باطنه، لكن نحن هنا سنشير إلى بعض الدروس الهامة إشارة سريعة.

من هذه الدروس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب.

فهو أولاً: بدأ باسمه قبل اسم هرقل، وهذا الكلام خطير جداً في زمانهم، قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)، ثم دعاه مباشرة إلى الدخول في الإسلام، فقال: (أسلم تسلم)، حتى لم يعرض الطلب بصيغة فيها تردد أو صيغة فيها عرض يقبل أو لا يقبل وإنما قال: (أسلم تسلم).

وأيضاً من الدروس: أنه مع إظهار هذه العزة والقوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر، بل بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له المكانة، حيث قال: (إلى هرقل عظيم الروم).

وأيضاً من الدروس: أنه جمع في مهارة عجيبة بين الترغيب والترهيب، بقوله له: (أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) يعني: فيها نوع من الترغيب، ثم يقول له وهو يهدد بوضوح: (فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) والكلام كله عبارة عن عدة أسطر قليلة جداً.

وأيضاً من الدروس: حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، أتى بآية تقرب كل أهل الكتاب، وتوضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، من أجل ذلك يمكن أن يفتح عقله للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جداً بين الطائفتين المسلمة والنصرانية.

هكذا كان الخطاب لـ هرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب لكل زعماء العالم، فالخطابات تقريباً مشابهة لهذا مع اختلافات قليلة جداً في الألفاظ حسب البلد المرسل إليها والدين الذي يدينون به، ومع وحدة الخطاب تقريباً لكل مكان من السبعة الأماكن التي تكلمنا عليها إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة جداً، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الرد، بينما بلغت بعضها أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبين هذا وذاك كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-2


وكل دول العالم لن تتعامل مع هذا الكيان الجديد -الدولة الإسلامية- إلا بعد اعتراف قريش به، أما قبل ذلك فالمسلمون في نظر العالم عبارة عن جماعة غير شرعية خرجت عن منهج الدولة الأم قريش، وبالتالي لا يمكن التعاون معها إلا من قبل المعادين لقريش، ولم يكن أحد يعادي قريشاً لا في الجزيرة ولا في العالم في ذلك الوقت، من أجل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في بداية الأمر شغل نفسه بدعوة من حوله من العرب في الجزيرة في فترات الدعوة الأولى؛ لأنه يعلم عدم جدوى مراسلة الآخرين قبل اعتراف قريش.


أما الآن وبعد اعتراف قريش بالدولة الإسلامية فزعماء العالم سيتقبلون فكرة المراسلة بينهم وبين زعيم الدولة الجديدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيسقط حاجز الشكليات والرسميات والبرتوكولات لتبقى مناقشة مضمون الرسالة: هل هذا الدين الجديد دين يستحق الاتباع، أم أن صاحبه يكذب علينا؟ فيناقشون الموضوع بموضوعية إلى حد ما، وستكون مناقشة هذه الرسالة أفضل لا شك إذا كان المرسل قوياً ممكناً؛ لأن الله عز وجل يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن، وكل هذا تحقق إلى حد كبير بعد صلح الحديبية.


من أجل ذلك ما إن وجد الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة سانحة أرسل الرسائل مباشرة إلى كل زعماء العالم آنذاك، فهو لم يضيع الوقت، بل أرسل الرسائل مباشرة، والرسائل كانت في منتهى الوضوح، حيث دعاهم إلى الدخول في الإسلام، وحملهم مسئوليتهم ومسئولية شعوبهم أيضاً، وبدأت هذه الرسائل تخرج من المدينة المنورة.


وقد خرجت أولى هذه الرسائل في نفس الشهر الذي رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية شهر ذي الحجة سنة (6) هـ، والبعض أخرها إلى غرة محرم سنة (7) هـ، يعني: بعد صلح الحديبية بأيام، انظر إلى مدى استعجال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأنه أحس أن فترة طويلة جداً مرت به، وهو يريد أن يوصل الإسلام إلى كل مكان، لكن الظروف لم تسمح، عندما سمحت الظروف مباشرة أرسل الرسل، خرجت هذه الرسائل في معظمها في وقت متزامن لا يفصل بينها إلا أيام، ولم تتأخر إلا بعض الرسائل، وإن شاء الله سنتعرض لها في الدروس القادمة.


والرسائل التي أرسلت في شهر ذي الحجة سنة (6) هـ وأوائل محرم سنة (7) هـ كانت سبع رسائل كالآتي: رسالة إلى النجاشي أصحمة رحمه الله ملك الحبشة، وحملها عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه. ورسالة إلى المقوقس زعيم مصر، وحملها حاطب بن أبي بلتعة اللخمي رضي الله عنه. ورسالة إلى كسرى ملك فارس، وحملها عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه. ورسالة إلى قيصر ملك الروم، وحملها دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه. ورسالة إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وحملها العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه. ورسالة إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وحملها سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه. ورسالة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك دمشق، وحملها شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه.


إن في قصة إرسال الرسائل والحوار الذي دار بين السفراء وبين ملوك العالم دروساً لا تحصى، لكن لضيق الوقت لا نستطيع أن نحلل كل هذه السفارات، لكن إن شاء الله سنحلل هذه الرسائل إجمالاً، ونأخذ مثالاً أو مثالين على هذه الرسائل إن شاء الله، وبتحليل هذه الرسائل نجد أن مضمون الخطاب في كل المراسلات واحد تقريباً؛ لأن الرسائل ليست دعوة إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو إلى تبادل السفراء أو إلى مجرد التعارف، ولا إلى طلب استمداد شرعية ما باعتراف الدول الأخرى به، إنما الهدف واضح تمام الوضوح، الهدف الدعوة الصريحة للإسلام، الدعوة إلى ترك أي دين كان، والدخول في الدين الجديد الإسلام.


وهذا يعني اتباع الدين الجديد، وهو يقضي الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام ليس سهلاً؛ لأن الملك سيتحول من ملك مطاع لا ترد له كلمة إلى تابع مطيع يرد الأمر كله لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هناك من سيقبل هذه الدعوة ويكون مؤمناً، ولا شك أن هناك من يرفض هذه الدعوة ومن قد يغضب ويثور ويعترض وقد يرسل الجيوش ويهدد بالقتل كل هذا متوقع، وكل هذا مع أنه صعب إلا أنه لا يمنع من تبليغ دعوة رب العالمين إلى العالمين.


وهذه الخطابات والرسائل تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائداً قوياً، وكان مجاهداً عزيزاً لا يخشى في الله لومة لائم، وكان متجرداً تماماً لله عز وجل طائعاً لكل أوامره؛ لأن أي واحد من ملوك الدنيا لو كان في وضعه، فإنه لن يفكر أبداً في مراسلات من هذا النوع؛ حتى لا تنقلب عليه الأوضاع ويثور عليه أهل الدنيا، ولكن لكونه رسولاً صلى الله عليه وسلم فهو يعلم أن مهمته تقتضي البلاغ للعالمين مهما كان الثمن، وبعد ذلك هو رأى بعينه ورأى المسلمون معه أن الله عز وجل ينصر الدين حتماً، ويخرج المسلمين من الأزمات مهما اشتدت هذه الأزمات، وقد أخرجهم سبحانه قبل ذلك من أزمات في مكة وبدر وأحد والأحزاب وبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وغير هذا كثير.


لم يكن هذا التاريخ من الانتصارات لضعف أعداء الأمة أبداً، كل أعداء الأمة كانوا أقوياء جداً، لكن هذا الانتصار كان بقوة الله عز وجل وإرادة رب العالمين سبحانه وتعالى ونصره للذين آمنوا به. إذاً: هذه المعاني كانت واضحة جداً في ذهن النبي عليه الصلاة والسلام، من أجل ذلك جاءت رسائله في منتهى الوضوح لا تميع فيها ولا مداهنة، وبغير هذه النظرة التي ذكرناها لا يمكن أبداً أن تفهم رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-1


الدرس الثالث والثلاثون عالمية الإسلام

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم للرسل والسفراء إلى زعماء العالم بعد نقلة نوعية في حياة الدولة الإسلامية الناشئة؛ إشارة واضحة إلى عالمية الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وفيه نجاة العالم أجمع في الدنيا والآخرة لو تمسكوا به وطبقوه في حياتهم.



وضع المسلمين بعد صلح الحديبية

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني، فترة الفتح والتمكين.

في هذا الدرس نتحدث عن وضع المسلمين بعد صلح الحديبية.

على الرغم من القوة المتنامية للدولة الإسلامية والتي ظهرت بجلاء بعد غزوة الأحزاب، إلا أن الاستقرار الحقيقي للدولة الإسلامية لم يأت إلا بعد صلح الحديبية، وكما ذكرنا قبل ذلك: اعتراف قريش أكبر قبائل العرب وزعيمة الجزيرة سياسياً ودينياً واقتصادياً وتاريخياً بالمسلمين، كل هذا أعطى المسلمين شهادة ميلاد حقيقية، وأعلن للجميع سواء من العرب أو من العجم أن هناك دولة جديدة ولدت في المدينة المنورة، وهذه هي الدولة الإسلامية وزعيمها هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.


إرسال الرسل إلى زعماء العالم بعد صلح الحديبية

أول شيء فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما عاد إلى المدينة بعد صلح الحديبية هو إعلام العالم أجمع بهذا الدين الجديد الإسلام؛ ليثبت لنا وللجميع أن هذا الدين دين عالمي نزل لأهل الأرض كلهم، يقول الله سبحانه وتعالى في الكتاب: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي -وذكر منها-: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة).

ونحن لابد أن نفهم هذا الموضوع جيداً، ونفهم أن علينا دور توصيل الإسلام إلى كل بقعة في العالم، وليس هذا تفضلاً منا، بل واجباً علينا.

كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أول أيام الدعوة يدرك عالمية الدعوة، ويدرك أهمية وصول هذه الدعوة إلى كل بقاع الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في مكة قبل سنوات من الهجرة، يبشرهم أن لهم دوراً تجاه العالم، وكان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم).

كانت القضية في ذهنه واضحة جداً، لكنه لم يشرع فيها بخطة وبنظام إلا بعد صلح الحديبية، وقد يقول شخص: لماذا لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل إلى عموم ملوك وأمراء الأرض من أول أيام الدعوة في مكة، أو من أول أيام المدينة المنورة، وقد كانت هناك بعض التعاملات مع بعض الممالك والدول الأخرى، ومع ذلك في هذه التعاملات لم يخطط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم في ذلك الوقت؟

تفسير ذلك في كلمة واحدة هي الواقعية، يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعية المنهج، فإرسال رسالة يدعو فيها الناس إلى تبديل دينهم والدخول في دين جديد لم يسمع به أحد ولو أن أحدهم سمع به، فماذا سيسمع؟ سيسمع عن التشريد والاضطهاد والتعذيب لأبناء هذا الدين الجديد، إرسال مثل هذه الرسالة قد لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، فمن هذا الذي سيقدم على مثل هذه الخطوة الجبارة ويبدل عقيدة لأجل مجموعة من الضعفاء في قرية صغيرة من قرى العالم؟! ولقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما هاجروا إلى الحبشة لم يكن من مهمتهم دعوة النجاشي رحمه الله للإسلام، بل إنهم لم يعرفوا النجاشي بدينهم، ولولا الموقف الذي قام به عمرو بن العاص ومحاولته إثارة النجاشي على المسلمين لما شرح جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي الإسلام، وحتى بعد هذا الشرح لم يدع جعفر بن أبي طالب النجاشي إلى الدخول في هذا الدين الجديد، مع أنه كان يشعر أن هناك ميلاً في كلام النجاشي للإسلام، ومع ذلك لم يدعه صراحة إلى الإسلام، لماذا؟

لنفس الكلمة التي قلناها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا واقعيين إلى أقصى حد، لا يصح ولا يجدي لقائد جماعة صغيرة ضعيفة أن تراسل كبار زعماء العالم لتدعوهم بتغيير معتقداتهم وتبديل أديانهم وإظهار التبعية لفكر جديد أو قانون جديد، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذه الدعوة المبكرة قد يكون لها من الآثار السلبية أكثر من الآثار الإيجابية، والدليل الشرعي على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعله، ولو كان خيراً لفعله صلى الله عليه وسلم، وما كان يعجزه صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولاً إلى كل دولة من دول العالم من أول أيام الإسلام، لكن لم يفعل؛ لأنه لا فائدة من هذا الإرسال.

أما الدليل العقلي على ذلك فإنه قد يلفت الأنظار بدعوته هذه إلى جماعته الصغيرة الناشئة فتستأصل في مهدها.

أما افتراض أنه من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوب الزعماء ويضحون بملكهم وسلطانهم من أجل هذا الرجل البسيط الذي ظهر في قرية صغيرة في صحراء الجزيرة، فهذا افتراض بعيد جداً لا يرقى أبداً إلى درجة الواقعية، كل هذا الكلام كان قبل صلح الحديبية، لكن بعد صلح الحديبية تغير الوضع جداً، كان جميع العالم يسمع عن قريش، فقريش القبيلة العربية الكبيرة العزيزة، وإن لم تكن بقوة فارس والروم، ولم تكن تحلم بهذا الشيء، لكنها كانت معروفة لكل الناس حتى خارج الجزيرة العربية، بل إنه كانت لها علاقات اقتصادية وسياسية مع معظم القوى الموجودة في العالم آنذاك، من أجل ذلك اعتراف قريش بدولة الإسلام كدولة لها سيادة يعتبر أهم نقطة لإعطاء شرعية لهذه الدولة الجديدة؛ الدولة الإسلامية.



الخميس، 10 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-8


إعذار القيادة لجنودها وأفرادها


النقطة الثالثة والأخيرة في التعليق على هذا الحدث: أنه إذا كنا قد طلبنا من الجنود أن يعذروا القيادة في قراراتها، وأن تتصف ردود أفعال الجنود بالثقة في اختيار القائد، فإننا في نفس الوقت نطلب من القيادة أن تعذر جنودها عند ظهور بعض علامات الغضب، أو عدم الرضا من بعض القرارات غير المفهومة لعموم الناس، وأن يتسع صدر القيادة لتستوعب الجنود وهم في حالة نفسية سيئة، وأن تقبل منهم بعض الأخطاء، وأحياناً تكون هذه الأخطاء كبيرة جداً، ليس هناك مانع، لكن ننظر إلى ملابسات هذا الخطأ وفي أي ظرف حصل وممن حصل،

وخير مثال على هذا الأمر في صلح الحديبية: ما رأيناه من رسولنا صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصحابة، وخاصة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أصر على المجادلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة، ومع ذلك لم يعنته رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة اعتراضاته، ما قال له: هذا الكلام وهذا الحوار بهذه الطريقة لا يصلح أن يكون معي وأنا رسول صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم عذره؛ لأنه يقدر موقفه ويعلم تاريخه ويعلم واقعه، وهذا الخطأ الذي حدث منه -وإن كان عظيماً- فقد قاسه على سيرته الجميلة رضي الله عنه وأرضاه، فسيرة عمر كلها تضحيات وكلها طاعة وجهاد في سبيل الله، وكلها بذل وعطاء،

حتى إننا وجدناه صلى الله عليه وسلم يرسل لـ عمر خاصة بعد نزول سورة الفتح ليطمئن قلبه، فقرأ عليه سورة الفتح بكاملها من أجل أن يقول له: إن قرار الصلح هو القرار الأصوب، ولما سأله سيدنا عمر بن الخطاب: (أفتح هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم)، اكتفى بذلك ولم يذكره بخطئه السابق، وما قال له: ما كان ينبغي أن تقول كذا وكذا، وحتى بعدما ظهرت خيرات صلح الحديبية بعد ذلك لم نسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام استدعى عمر بن الخطاب وقال له: ألم أقل لك إن ذلك خير؟ أرأيت كذا وكذا؟ ما قال له هذه الكلمات، بل إنه عليه الصلاة والسلام قبل منه الخطأ بسعة صدر؛ لأنه يقدر الظروف التي حدث فيها ذلك الخطأ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بـ عمر وبسائر أصحابه صلى الله عليه وسلم تمام الرحمة، وكان مقدراً حبهم للإسلام تمام التقدير، هذه هي القيادة الرشيدة.

خلاصة الأمر: أن الأمة الناجحة حقاً هي الأمة التي يشعر فيها الجندي أنه قريب جداً من القائد، يحبه ويقدره ويطيعه ويثق به تماماً، ويشعر القائد كذلك أنه قريب جداً من جنوده، يحبهم ويقدرهم ويثق بهم، وهذه الثقة والتسامح والمحبة المتبادلة بين القائد وجنوده من أقوى الأسباب التي تقوم عليها الأمم.

نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-7


الثقة في القيادة وإعذارها


الوقفة الثانية المهمة جداً: الثقة في القيادة، فأحياناً تتخذ القيادة قرارات لا يدرك الجنود كامل أبعادها، فكثيراً ما تكون الرؤية عند القيادة أشمل وأكبر، ويكون تحليل الأمور بصورة أعمق؛ لأن القيادة تطلع على أمور لا يراها الجنود، وتفكر في مصالح لا ينظر إليها الجندي، وتحاول تجنب مفاسد لا يدركها الجندي.

والقيادة الحكيمة هي التي تجمع بين الأحلام المطلوبة والواقعية في الأداء، وتقارن بين وسائل تغيير المنطق، وتعرف معنى التدرج في التغيير، وتقدر حجم المكاسب والخسائر، كل هذه أبعاد قد لا يراها الجندي المتحمس أو المسلم المتلهف لأن يرى الإسلام ممكناً له في الأرض ما بين يوم وليلة، فالقيادة هي التي تدرك كل هذه الأمور وقد تأخذ قرارات يراها الجنود أحياناً مخيبة للآمال أو يرونها محبطة للنفسيات أو خاطئة سياسياً، وأحياناً قد يرى الجندي أن هذه مخالفة شرعية، مع أن كل هذا قد يكون وهماً لا حقيقة له.

فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل برد المسلم الذي يأتيه من مكة إلى المدينة مع خطورة ذلك عليه، نعم هذه خطورة حقيقية، لكن لماذا قبل بذلك؟ لأنه ينظر إلى المصالح مجتمعة، وينظر إلى المفاسد مجتمعة، فوجد أن المصالح أعلى بكثير من المفاسد، مع الإقرار التام أن أمر إعادة المسلم إلى مكة أمر فيه مفسدة، لكن المصالح أعلى، وهو لا يستطيع أن يمنع المفسدة الآن، فقبل بها، وعليه أن يختار المصالح الكثيرة التي معها بعض المفاسد، ولا يختار دفع بعض المفاسد ويضيع المصالح الكثيرة، وهذا الأمر يحتاج إلى حكمة وإلى ورع وإلى علم، والموفق من وفقه الله عز وجل.

وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قَبِلَ قَبْلَ ذلك بأمور لا يحبها، بل يمقتها كل المقت، ولكن الواقع فرضها عليه، ولم يقبلها قبل ذلك المتحمسون من الشباب، ثم تبين أن الخير كان في قراره صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بعدم الرد على من آذى المسلمين وعذبهم -بل وقتلهم- في العهد المكي، وهذا كان حكماً شرعياً قبل به الرسول عليه الصلاة والسلام وعموم الصحابة في ذلك الوقت، لكن بعض المتحمسين من الصحابة لم يقبلوا بهذا الأمر، وقالوا: لم نعطي الدنية في ديننا؟ ولم لا نرد على المشركين؟ ولم كذا وكذا؟ ثم ظهر لهم بعد ذلك الخير في قرار الشرع.

فهذا ما نسميه: بفقه المرحلة، أو فقه الموازنات.

كذلك تطاول اليهود على المسلمين في أوائل عهد المسلمين بالمدينة، وقاموا بأمور كان من الممكن أن تفسر على أنها نقض للمعاهدة، ومع ذلك التزم الرسول عليه الصلاة والسلام بسياسة ضبط النفس قدر المستطاع، ليس هذا لضعف ولا لتفريط، ولكن فقه المرحلة وفقه الموازنات يقتضي ذلك.

وهكذا كان الوضع في صلح الحديبية، وهكذا كان الوضع أيضاً في مواضع كثيرة جداً في السيرة النبوية، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه يكاد يكون مستحيلاً أن تجد قراراً يخلو من أي سلبية، وإنما القضية قضية موازنات، حتى إننا في الأمثال الشعبية نقول: (ما هناك حلاوة من غير نار)، دائماً توجد مشكلة، ومع ذلك الموازنة بين المصالح والمفاسد هي التي تختار قراراً دون قرار.

وهذه كلمة جميلة جداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو مشهور بالحكمة، قال: ليست الحكمة أن تدرك الفرق بين الخير والشر، أو الفرق بين الحلال والحرام، ولكن الحكمة أن تدرك أي المنفعتين أعلى وأي الضررين أكبر.

هذه هي الحكمة.

المهم في هذا المقام أن تدرك أنه لكي تقوم وتسود وتمكن لا بد من أخذ قرارات تبدو في ظاهرها مؤلمة للمسلمين، وقد يبدو فيها للناظر مخالفات شرعية، لكن المدقق والمحلل والعالم ببواطن الأمور سيجد أنها أخف الضررين، وليس معنى هذا أنها ليست ضرراً، لا، بل هي ضرر، ولكن في هذا الموطن هي أخف الضررين، فتقبل شرعاً ولا تعد مخالفة.

ولا بد لكل جندي أن يدرك كل هذه الأبعاد، ومن ثم يعذر القيادة، ويقدم لها النصح والإرشاد بأدب، ويقبل منها الأمر والتوجيه، وكل ذلك لا يمكن أبداً أن يكون إلا بثقة تامة في القيادة، وإدراك كامل للعبء الثقيل الملقى على أكتاف القادة، وبغير هذه العلاقة الوثيقة بين القيادة وجنودها لا يمكن لجماعة أو لأمة أن تقوم.

إذاً: هذه النقطة الثانية مهمة جداً، أنه يجب أن تتوافر الثقة في القيادة، وأن يدرك الجنود أن القائد قد يختار من الأمور ما قد يحزن الجنود، ولماذا اختار هذا؟ لأنه أخف الضررين، ولم يختر هذا الأمر لأنه يرغب في الضرر ذاته أو لأنه متنازل أو مفرط، أبداً، إذاً: لابد أن نفهم هذه القاعدة جيداً.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-6


وقفات هامة مع صلح الحديبية

صلح الحديبية يحتاج منا وقفات كثيرة جداً، لكن سأقف هنا ثلاث وقفات هامة:


ضرورة الرضى بشرع الله عز وجل 
واعتقاد الخيرية فيه

الوقفة الأولى: هل كان الصحابة يرون كل هذا الخير من الآثار التي ذكرناها، وقد توجد غيرها وغيرها؟

الجواب

لا، فالصحابة ما كانوا يرون هذا الخير كله، بدليل ما رأيناه منهم ومن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بالذات، لكن ما حدث في صلح الحديبية هو وحي، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنه ربي ولن يضيعني أبداً)، فهذا وحي، ومع ذلك لم ير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الخير في هذه النقطة الشرعية في ذلك الوقت، وهذا أمر غريب، وإذا كنا نلوم الصحابة أنهم وقعوا في هذا الأمر مرة في حياتهم فلا بد أن نعترف أننا نقع فيه مراراً.

فما أكثر ما سمعنا عن حكم الشرع في قضاياً كثيرة جداً، ويكون أحياناً الحكم مباشراً جداً وواضحاً جداً، لكننا نقدم رأينا، أحياناً نرى الأم والأب يتركان البنت بلا حجاب بغية الزواج، والعلة في أذهانهما أنهما يريدان أن تتزوج البنت، ولو حجبت في اعتقادهما فهذا سيؤخر زواجها فيتركانها من غير حجاب، وهذه مخالفة صريحة للشرع، فهما يريان الخير في غيره فيقدمان رأيهما ويلغيان من حياتهما حكم الشرع في هذه الجزئية.

ونرى استثمارياً كبيراً جداً يقترض بالربا؛ لكي يقيم مشروعاً كبيراً وعنده مليون علة في ذهنه لهذا الأمر، فهو يعلم حكم الشرع تماماً ثم يخالف بغية البحث عن خير، فهو يرى أن الخير في مخالفة الشرع في هذه الجزئية.

ونرى دولة تبيع خمراً؛ لكي تنشط السياحة لديها.

ونرى حاكماً يوالي دولة قوية وإن كانت معادية للإسلام؛ لأنه يرى أن هذا أصلح لحياة الناس، ولا يرى الخير في حكم الشرع، وهذه القضايا نراها كثيراً جداً في حياتنا، لكن الخطير جداً في حياتنا أننا نفعل ذلك طلباً للدنيا، وليس طلباً للآخرة، أما خطأ الصحابة في قضية صلح الحديبية فلم يكن طلباً للدنيا أبداً، إنما فعلوه طلباً للآخرة، ليس لدى الصحابة مصالح دنيوية يرجونها يوم الحديبية رضي الله عنهم أجمعين، وإنما كانوا يريدون أن يدخلوا مكة لأداء عبادة العمرة، لم يأتوا لتجارة ولا لحرب ولا لأي مصلحة دنيوية، بل جاءوا لأداء عبادة العمرة ثم يعودون بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وإن منعوا قاتلوا، والقتال كان خطيراً جداً؛ لأنهم لا يملكون سلاح المقاتل، وكانوا معرضين للقتل، ومع ذلك يقبلون بذلك، أي: أنهم عندما عرضوا رأياً مخالفاً لحكم الشرع، ما عرضوا ذلك إلا طلباً للآخرة، وليس طلباً للدنيا، ولو كانوا طلاب دنيا لآثروا الرجوع حفاظاً على حياتهم.

إذاً: نستفيد من صلح الحديبية بعد رؤية الخير العميم الذي نتج عنه: أن نرضى بشرع الله عز وجل، ولا أقول: نقبل بشرع الله عز وجل، ولكن نرضى بشرع الله عز وجل بحب واقتناع؛ لأنه وإن كانت عيوننا لا ترى الخير فإننا على يقين أن الخير موجود، سنراه اليوم أو غداً أو بعد سنة أو سنتين أو أكثر، أو ربما نموت قبل أن نراه، لكن من المؤكد أن فيه خيراً، قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقال سبحانه وتعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

نحن نريد أن نصل إلى درجة التسليم الكامل لرب العالمين سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في كتابه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ودرجة التسليم معناها: الرضا الكامل بحكم الله عز وجل، وأن نوقن يقيناً جازماً أن الخير فيما اختاره لنا الله عز وجل، والصحابة رضوان الله عليهم تعلموا من درس الحديبية حين رأوا الخير الذي حصل بعد صلح الحديبية، مع أنهم في وقت الصلح لم يكونوا يرون هذا الخير، وخاصة وقت موقف أبي جندل ما كانوا يشاهدون إلا الشر، من أجل هذا عرف عمر بن الخطاب أنه كان مخطئاً وحاول قدر المستطاع بعد ذلك أن يكفر عن الخطأ الذي حدث منه في يوم الحديبية، يقول: (فعملت لذلك أعمالاً).

يعني: عمل أعمال خير كثيرة جداً؛ للتكفير عن هذا الأمر، ويقول: (فما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً).

فما عرف أنه مخطئ فقط، بل استفاد من الدرس بعد ذلك في كل حياته، فكان يقول معلماً للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه: (أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين) يعني: قد يكون لك رأي في قضية من القضايا وتشعر أنه أفضل من الحكم الشرعي في هذه القضية، وهذا يأتي على أذهان الكثير، فاتهم رأيك مهما كان في تصورك مقنعاً وقدم حكم الشرع، يقول: (اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي، فوالله ما آلو على الحق)، يعني: أنا كنت فعلاً أبحث عن الحق، ومع ذلك كان الخطأ في رأيي والصواب في حكم الشرع، (وذلك يوم أبي جندل).

ويقول نفس الكلام سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان حاضراً ذلك الموقف، يقول للمسلمين: (اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته)، يعني: أنا لو كنت أستطيع أن أمنع الرسول عليه الصلاة والسلام من فعل هذا الصلح لفعلت، لكن لم أستطع، ومع ذلك هو ينصح المسلمين بعدم فعل ذلك بعد أن رأى الخير في صلح الحديبية. إذاً: هذا درس في غاية الأهمية، ولعله أعظم دروس الحديبية مطلقاً، وهو أن نوقن تماماً أن شرع الله عز وجل هو الخير لنا في دنيانا وفي آخرتنا.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-5


الآثار الإيجابية المترتبة على 
معاهدة صلح الحديبية


تعالوا ننظر إلى معاهدة صلح الحديبية بعد أيام من حدوثها، تعالوا لننظر الخير الذي جاء من ورائها، فأصدق تصوير لها وأفضل تعبير لها هو ما اختاره لها رب العالمين سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فهذا الفتح المبين له دلالات كثيرة جداً أعددت منها عشرة:

أولاً: وضوح إيمان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ويكفي أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآناً، قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] سبحان الله! فالله عز وجل شهد لهم بالإيمان وزيادة الإيمان بعد هذا الحدث العظيم: صلح الحديبية.

الأمر الثاني: من أعظم ثمرات صلح الحديبية: هو اعتراف قريش بالمسلمين كقوة ودولة، وهذا الاعتراف جاء من قريش وهي أعظم قبيلة عربية، فالميلاد الرسمي للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية هو صلح الحديبية؛ لأنه بعد هذا الاعتراف من قريش بدأت معظم القبائل الموجودة في المنطقة تعترف بالمسلمين، بل بدأت الدول في العالم تعترف بالمسلمين كدولة.

إذاً: هذا من أعظم ثمرات صلح الحديبية فعلاً، وكل الآثار التي ستأتي بعد هذا مترتبة على كون المسلمين أصبحوا دولة حقيقية معترفاً بها في المنطقة.

الأمر الثالث: هو الفتح المبين في انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، فالذين أسلموا في هاتين السنتين بعد صلح الحديبية وإلى فتح مكة من سنة (ست) أو أواخر سنة (ست) إلى أواخر سنة (ثمان) من الهجرة أكثر من الذين أسلموا خلال (تسع عشرة) سنة كاملة من الدعوة، فالدعوة الإسلامية أخذت (ثلاث عشرة) سنة في مكة المكرمة و (ست) سنوات بعد ذلك في المدينة المنورة إلى أن أتى صلح الحديبية، فالذين أسلموا في تسع عشرة سنة لا يتجاوزون (ثلاثة آلاف) شخص، بينما الذين أسلموا بعد هذا من أواخر سنة (ست) من الهجرة إلى فتح مكة خلال سنتين فقط قرابة (سبعة آلاف) شخص؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل مكة المكرمة عام الفتح بجيش قوامه (عشرة آلاف) مقاتل، غير النساء والصبيان الذين كانوا معهم، وكان المسلمون في صلح الحديبية (ألفاً وأربعمائة) شخص، وسائر الـ (ثلاثة آلاف) كانوا بالمدينة.

إذاً: تصور مدى الفتح المبين في سنتين فقط، تضاعف العدد ووصل إلى (عشرة آلاف) مقاتل، فهذا فعلاً فتح مبين.

الأمر الرابع: بعد صلح الحديبية مباشرة اطمأن الرسول عليه الصلاة والسلام إلى استقرار الأوضاع في المدينة المنورة، فأرسل إلى المسلمين الموجودين في الحبشة؛ لأن بعض المسلمين كانوا قد هاجروا إلى الحبشة في العام السادس من البعثة النبوية، وقعدوا في الحبشة (سبع) سنوات كاملة حتى الهجرة و (ست) سنوات كاملة من أيام المدينة المنورة، يعني: (ثلاث عشرة) سنة كاملة في داخل الحبشة لم يرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بعد صلح الحديبية مباشرة وجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن الفرصة أصبحت مواتية ليستفيد من جهود وطاقات المسلمين الموجودين في الحبشة، فأرسل إليهم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه ليستقدم هؤلاء، وبالفعل جاءوا مباشرة ووصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فتح خيبر كما سنذكر ذلك إن شاء الله في الدروس القادمة.

إذاً: الأمر الرابع: أضيفت إلى قوة المسلمين في المدينة المنورة قوة المسلمين الذين كانوا في الحبشة بعد غياب ثلاث عشرة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الخامس: قدوم المسلمين من القبائل المختلفة الأخرى، فمسلمو اليمن بدءوا يقدمون إلى المدينة المنورة، مسلمو بني حنيفة، ومسلمو بني كلب، ومسلمو بني كذا كذا وكذا، كل مسلمي قبائل العرب بدءوا يتحركون منها إلى المدينة المنورة، وقبل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يمكثوا في قبائلهم ولا يقدموا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم كانوا يقومون بالدعوة في قبائلهم، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى أن الوضع في داخل المدينة المنورة لم يكن مستقراً قبل ذلك، أما الآن بعد صلح الحديبية فقد فتحت الأرض للمسلمين فزادت قوتهم بعد هذا الصلح.

الأمر السادس: تعاهدت قبائل كثيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية، وما كانت هذه القبائل تجرؤ على هذا الأمر قبل هذا الصلح، وأول هذه القبائل قبيلة خزاعة، وبعدها بدأت القبائل تتوافد على المدينة المنورة.

الأمر السابع: هو أمر خطير جداً وغريب جداً، وسنفرد له إن شاء الله درساً كاملاً، وسيكون موضوع الدرس الذي سيأتي إن شاء الله، وهذا الأمر هو بداية المراسلات النبوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عموم زعماء وقادة العالم في كل مكان، فقد راسل كسرى فارس، وراسل قيصر الروم، وراسل زعماء العرب في كل مكان يدعوهم إلى الدخول في هذا الدين الجديد وهو الإسلام. وقبل صلح الحديبية ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة واحدة إلى زعماء العالم، فهذا يدل على التغير الهائل في مسار الدعوة، والانطلاقة العظيمة للإسلام بعد صلح الحديبية، أي فتح هذا؟! إنه فتح مبين فعلاً.

الأمر الثامن أيضاً في غاية الأهمية: بدأ صناديد مكة وزعماؤها يفكرون جدياً في الإسلام، ومن أوائل من أسلم بعد صلح الحديبية ثلاثة من أعظم قواد مكة، وأصبحوا بعد ذلك من أعظم قواد المسلمين: خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و عثمان بن طلحة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وخالد بن الوليد كان إضافة هائلة لقوة الإسلام والمسلمين، وقد ظل خالد بن الوليد عشرين سنة تقريباً في الكفر يحارب الإسلام والمسلمين، والآن بعد صلح الحديبية بدأ خالد بن الوليد يفكر جدياً في أمر الإسلام، وسنتعرض إن شاء لتفصيل قصة إسلامه في الدروس القادمة.

إذاً: أسلم خالد بن الوليد وضم جهده إلى المسلمين، ومعلوم ما وقع على يده بعد ذلك من الفتوحات بعد إسلامه، فتصور مدى الإضافة التي أضافها رضي الله عنه وأرضاه إلى المسلمين بعد إسلامه. وكذلك عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، ففلسطين بكاملها ومصر بكاملها فتحت على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين. إذاً: أبطال قريش بدءوا يتوجهون من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ ليعلنوا إسلامهم، فهذا فتح مبين فعلاً.

الأمر التاسع: تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود، فقضية خيبر كانت تشغل ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن مستطيعاً أن يتوجه إليهم بقوته وجيشه مع وجود الحرب والخلافات المستمرة بينه وبين قريش؛ لكن بعد صلح الحديبية أمن صلى الله عليه وسلم جانب قريش، ومن ثم انطلق إلى خيبر كما سنذكر في الدروس القادمة.

الأمر العاشر والأخير في هذا التحليل -وهو مهم جداً-: وقوع هزيمة نفسية قاسية لقريش هيأتها نفسياً بعد ذلك للتسليم التام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بدايات تفكير القرشيين في التسليم للرسول عليه الصلاة والسلام، وفتح أبواب مكة في صلح الحديبية، هذا هو الأمر العاشر والأخير، فتلك عشرة كاملة. إذاً: هذه هي الآثار الحميدة التي رأيناها في صلح الحديبية.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-4


موقف النبي صلى الله عليه وسلم
من هجرة أبي بصير إلى المدينة 
بعد صلح الحديبية


جاء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مهاجراً إلى الله ورسوله رجل اسمه أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه، وأبو بصير من ثقيف، لكنه كان يعيش في داخل مكة المكرمة حليفاً لقريش، وأبو بصير أسلم بعد صلح الحديبية أو قبيل صلح الحديبية، وهرب من مكة المكرمة ووصل إلى المدينة المنورة، وطلب اللجوء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمجرد أن خرج من مكة علمت قريش بخروجه فأرسلوا رجلين وراءه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا: هذا داخل في بند المعاهدة، المعاهدة تقول: إنه من أتى إليكم من أهل مكة مسلماً فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إلى المشركين، وهذا يجب أن ترده،

هذا موقف صعب جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الموقف بنفس العقل الذي تعامل به مع موقف أبي جندل قبل ذلك، فأعاد أبا بصير إلى الرجلين، وقبل صلى الله عليه وسلم أن يعود مرة ثانية إلى مكة مع مدى المأساة التي كان يشعر بها، لكن هذه معاهدة، ورجع أبو بصير مع الرجلين، وعند ذي الحليفة جلس الثلاثة ليستريحوا قليلاً في طريق السفر، فقام أبو بصير وأخذ سيف أحد المشركين وقتل به أحدهما، وهرب المشرك الثاني جهة المدينة المنورة؛ لأنه سيجد العدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام من بعيد قال: (لقد رأى هذا ذعراً) يعني: هذا الرجل خاف من شيء خطير جداً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتل والله صاحبي، وإني لمقتول) يعني: أبو بصير قتل صاحبي وسيلحقني بعد قليل،

فجاء أبو بصير يجري خلف هذا المشرك، ووصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم)، يعني: أنت عملت الذي عليك، وفيت بالعهد وأرجعتني إلى المشركين، لكن أنا هربت من المشركين، فالآن أنا لست داخلاً في دولتك، أنا لست فرداً من أفراد المدينة المنورة، أنا لا ينطبق علي الآن العهد، قد أوفى الله ذمتك، فلما سمع منه هذه الكلمات؛ قال عليه الصلاة والسلام كلمة عجيبة، قال: (ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد)، فقوله: (ويل أمه) هذه كلمة تقال عند المدح، يعني: هذا الرجل فعل أمراً عظيماً، ما كان يتصور أحد أن يأتي هذا الفعل منه، (ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد)، يعني: هذا سيؤجج الحرب في المنطقة، لو كان معه أحد يشاركه في ذلك.

وفي هذا إشارة واضحة لـ أبي بصير أن: استعن بمن معك من المستضعفين المسلمين، فأنت وحدك لن تعمل شيئاً، لكن اجعل قوتك مع المسلمين لتقدروا على فعل شيء، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير مرة ثانية.

فخرج أبو بصير هارباً بنفسه خارج المدينة المنورة، وقعد على طريق القوافل المتجهة من مكة المكرمة إلى الشام، وكلما مرت عليه قافلة اعترض طريقها يقتل منها من استطاع قتله ويأخذ من غنائمها ما استطاع، وعلم المسلمون المستضعفون في داخل مكة المكرمة وفي غيرها بمكان أبي بصير، فهربوا إلى أبي بصير، وبدأ أبو بصير رضي الله عنه يكون عصابة من الرجال، حتى صارت مجموعة كبيرة من الرجال تعترض طريق القوافل المكية،

وهذا الفعل أحدث أزمة كبيرة جداً في مكة، مما جعلهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناشدونه الرحم ويطلبون منه أن يضم أبا بصير وأصحابه إلى المدينة المنورة، وأن يلغي هذا البند من صلح الحديبية: أن يرد من جاء مسلماً إلى مكة، بل يقبل المسلمين من مكة ولا يعيدهم إليها مرة أخرى، وهذا هو البند الذي كان مشكلة عند الصحابة، ففي أيام قليلة بعد صلح الحديبية يلغى هذا البند من المعاهدة، وأصبحت المعاهدة خالصة لصالح المسلمين، وأصبحت فتحاً مبيناً حقيقياً للمسلمين.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-3


موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه 
من صلح الحديبية


لقد ظل الحزن مسيطراً على عامة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد وصل الحزن ببعضهم إلى أمر لا نتخيله حقيقة، وصل إلى حوار عجيب دار بينهم وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار دار بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار يعبر عن مدى الأسى والحزن الذي كان في قلب عمر والصحابة رضي الله عنهم؛ من جراء هذا الصلح الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحوار العجيب جاء في صحيحي البخاري ومسلم.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فقلت: ألست نبي الله؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام بسعة صدر عجيبة، قال: (بلى، قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا كلام غريب جداً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل أن يعطي الدنية أبداً في دينه، لكن هكذا صرح عمر بن الخطاب بهذه الكلمات التي كانت في قلوب كثير من الصحابة، ولكن لم يجرءوا على التصريح بها، فقال صلى الله عليه وسلم كلمات واضحة جداً، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) وفي رواية: (ولن يضيعني أبداً) يعني: هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أمرني ولن أعصيه في هذا الأمر، وهذا الأمر الذي تكرهونه سترون من ورائه خيراً إن شاء الله.

ومع كل هذه التوضيحات والتوجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عمر رضي الله عنه قال: (أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟) يعني: أنت قلت لنا: سنأتي البيت الحرام ونطوف به.

وأنا لا أعرف كيف قال سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لكن هذا يعبر عن مدى المأساة التي كان يعيشها عمر رضي الله عنه وأرضاه والصحابة أجمعون، ومع ذلك وسع الرسول عليه الصلاة والسلام صدره وصبر على كلمات عمر بن الخطاب، وقال له: (بلى) يعني: أنا أخبرتك بهذا الأمر فعلاً، لكن انتبه إلى ما قال بعد، قال: (أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال عمر: لا) يعني: أنا أخبرتكم أننا سندخل مكة المكرمة معتمرين إن شاء الله، لكن ما ذكرت لكم أن هذا يكون في هذا العام، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنك آتيه ومتطوف به).

قال هذا الكلام وهو في منتهى الثقة؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب في ظننا بعد هذه الكلمات الواضحة جداً سيترك الموضوع ويسلم الأمر لله عز وجل، وينطلق إلى المدينة المنورة، لكن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟)، فما زال يتكلم في الموضوع وبهذه الصيغة، (قال أبو بكر: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟)

فـ أبو بكر الرجل الهادئ اللطيف لما سمع هذه الكلمات انتفض وقال: (يا عمر! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره) فكلمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم توافقت مع نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم مناقب الصديق كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح صحيح البخاري، ثم إن الصديق يعطيه نصيحة هامة جداً وهي له ولعموم الأمة الإسلامية، قال: (فاستمسك بغرزه) يعني: أي خطوة يخطوها صلى الله عليه وسلم استمسك بها، تمسك بسنته، قال: (فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق) كل هذا الكلام وما زال عمر رضي الله عنه يعترض، فقال: (أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟)، رد عليه الصديق: (قال: بلى، ثم قال: أفأخبرك أنه يأتيه العام؟) سبحان الله! نفس الكلمات: (أفأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوف به).

هذا يدل على أن الصديق رضي الله عنه أعظم البشر بعد الأنبياء، وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان لديه يقين مرتفع جداً، وإيمان كامل بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك في مواطن كثيرة جداً من حياته، وهذه من أعظم مواطنه رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد أن انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الموقف ركب الطريق إلى المدينة المنورة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة نزلت عليه سورة الفتح، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا )) [الفتح:1]) وأول ما أنزلت عليه هذه السورة دعا عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان متأثراً جداً من هذا الحدث، دعاه صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه -كما يقول عمر بن الخطاب- السورة كاملة من أول آية إلى آخر آية، وبعد أن انتهى قال عمر : (يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) هذا الصلح في حد ذاته فتح من الله عز وجل، وفي آخر الدرس إن شاء الله سنقول: لماذا سمي هذا الصلح العظيم بالفتح المبين، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم.



مواقف بعد صلح الحديبية

موقف النبي صلى الله عليه وسلم
من هجرة النساء من مكة بعد صلح الحديبية


لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بدأ يعيد ترتيب الأوراق حسب الوضع الجديد الذي تمخضت عنه هذه المعاهدة، وبمجرد وصوله صلى الله عليه وسلم وصلت بعض المؤمنات من مكة المكرمة مهاجرات إلى المدينة المنورة، وهذا أول قدوم للمسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد الصلح، ولكن هؤلاء القادمون لم يكونوا رجالاً إنما كانوا نساءً، ومع ذلك أسرعت قريش وطلبت إعادة المؤمنات المهاجرات إلى مكة المكرمة كما تقول المعاهدة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف لهم وقال: إن نص المعاهدة ينص على الرجال فقط، ونص حديث البخاري يقول: (وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته علينا) 

يعني: لم يدخل النساء في القضية، والحمد لله أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ذلك الأمر عند كتابة المعاهدة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يطمئن إلى إسلام هؤلاء المؤمنات اللاتي قدمن من مكة إلى المدينة، فنزلت سورة الممتحنة وفيها تفصيل لهذا الأمر، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] يعني: تأكدوا من إيمانهن، هل جئن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هرباً من أزواجهن أو طلباً لرجال المدينة المنورة أم جئن إلى المدينة المنورة مهاجرات إلى الله عز وجل وإلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟

{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] أي: بعد هذا الاختبار والامتحان تأكدتم أنهن من المؤمنات الصادقات: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، يعني: لا ينبغي أن يعدن إلى الكفار وإن كن أزواج كفار من مكة، ما ينبغي لامرأة مؤمنة أن تتزوج من رجل كافر، {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، لكن انظر لما سيأتي بعد ذلك في الآيات، فهذا بعد حضاري راق جداً في الإسلام وعدل مطلق، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10]، يعني: الكفار الذين هربت أزواجهم من مكة إلى المدينة المنورة دفعوا قبل ذلك مهوراً لأزواجهم من المؤمنات، والآن هربت الزوجة إلى بلاد المسلمين وما عادت تصلح أن تكون زوجة لهذا الرجل الكافر، فلا يجب أن يضيع عليه هذا المهر الذي دفعه لها، يقول الله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10]، يعني: أعيدوا إلى الكفار القدر الذي أنفقوه من المهر إليهن؛ حتى يستطيعوا به أن يتزوجوا مرة ثانية من امرأة تحل لهم.

هذا حكم عام نزل لكل المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وظل بعد ذلك حكماً إلى يوم القيامة، لا يجوز أبداً لامرأة مسلمة أن تتزوج من رجل كافر.

كذلك نزل في نفس الآيات أنه لا يجوز أيضاً لرجل مسلم أن يتزوج من امرأة كافرة، قال الله عز وجل في نفس الآيات: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، هذه الآية موجهة إلى رجال المسلمين، يعني: لو كان عندك امرأة مشركة تزوجت بها قبل أن ينزل هذا الحكم فلا بد أن تطلقها وتعيدها مرة ثانية إلى أهلها المشركين في مكة المكرمة أو غيرها، وعند نزول هذا الحكم طلق المسلمون المؤمنون نساءهم الكافرات وأعادوهن إلى أهلهن، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه طلق زوجتين من الكفار كانتا عنده وأعادهما إلى مكة المكرمة.

وبما أننا في هذا الوقت نبني مجتمعاً مسلماً خالصاً فمحال على أم كافرة أن تربي أولادها على معاني الإسلام والعقيدة الصحيحة، وكذلك محال على أب كافر أن يربي أبناءه على معاني الإسلام والعقيدة السليمة الصحيحة.

إذاً: استقر الوضع في داخل المدينة المنورة وقبل المشركون بقضية المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة.