الثلاثاء، 11 يونيو 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-5


بداية العهد المدني
بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه



نحن وقفنا في محاضرات مكة المكرمة على أمر الهجرة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام هاجر هو وكل المسلمين الذين يستطيعون الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

وعند دخولنا المدينة المنورة لفت الأنظار مباشرة رد فعل الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم لدخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، كان فرحاً شاملاً في كل المدينة المنورة، فقد استقبلوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالأناشيد والأهازيج كما تعلمون جميعاً: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع إلى آخر الكلمات التي كان يقولها الأنصار بحب حقيقي وفرح فطري في داخلهم، وهذا الفرح بتحمل المسئولية أمر غريب يحتاج منا إلى وقفة، فشتان بين من يبحث عن الدعوة ومن تبحث الدعوة عنه، وشتان بين من يبحث عن الجهاد ومن يبحث الجهاد عنه، وشتان بين من يبحث عن التضحية ومن تبحث التضحية عنه، فالأنصار كانوا يبحثون عن الدعوة وخدمة الإسلام.


ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المدينة المنورة، ودخوله هذا معناه خطير جداً، معناه: حرب الأحمر والأسود من الناس.
معناه: مفارقة العرب قاطبة.
معناه: العداء المستمر مع اليهود الذين يسكنون في داخل المدينة المنورة، ولهم علاقات قديمة جداً مع الأنصار.
معناه: تضحية وبذل وإنفاق وموت في سبيل الله عز وجل.
كان الأنصار يعرفون جيدًا هذه المعاني قبل أن يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة؛ لأنهم عاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية على النفقة في العسر واليسر، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وعلى أن ينصروه إذا قدم إليهم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، كل هذا في مقابل الجنة.

ومستحيل أن يدفع أحد هذه الأشياء جميعها من غير أن يكون عنده إيمان يقيني جازم أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن الجنة حق، وأنه سيدخلها بهذه الأعمال التي قدمها من أجل الله عز وجل.


إذاً: ففرح الأنصار هذا يعبر عن طبيعة الأنصار التي سوف نراها بعد هذا في كل مراحل المدينة المنورة، في كل الفترات سواء في داخل المدينة أو في خارج المدينة، فكل الأحداث عطاء مستمر متواصل يعجب له الإنسان، ولا يفقهه إلا من يعلم أن الأنصار مؤمنون إيماناً يقينياً بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في حق الأنصار كلمات جميلة تُكتب بماء الذهب وبما هو أغلى من الذهب، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار).


فإذا كنت تحب الأنصار فأنت مؤمن، وإن كنت تبغضهم فأنت منافق، فانظر كيف أصبح إيمان العبد بقدر وشرف الأنصار علامة من علامات صدق إيمانه، والذي لا يحب الأنصار يجب عليه أن يراجع نفسه، فهؤلاء الأنصار خرجوا فرحين جداً بتلقي كم هائل من المشاكل التي سوف تحدث في المدينة المنورة بعد دخول الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فرحين لأن هذا هو طريق الدعوة الذي سيوصلهم إلى الجنة، وأنتم تعرفون هذا من قبل، الطريق صعب لكن نهايته الجنة، وفرحهم هذا كان فرحاً إيجابياًّ وليس مجرد فرح قلبي.
من أول يوم خرجوا إليه بالسلاح، والخروج بالسلاح فيه معنى التشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زماننا هذا الوقت عندما نستقبل رئيساً أو شخصية كبيرة نستقبلها بالسلاح أو بما يسمى تشريفة السلاح هذا.


فهذا فيه تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا فهو تطمين لقلبه صلى الله عليه وسلم أنهم ما زالوا على عهد البيعة التي عقدوها معه قبل ذلك في مكة المكرمة بيعة العقبة الثانية، وهناك أعداء كثر في داخل المدينة المنورة وفي خارجها يتمنون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير من المشركين موجودون في داخل المدينة المنورة، معظم أهل المدينة كانوا لا يزالون غير مؤمنين، وعندك أيضاً مشركو مكة الذين استمروا في تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، ولم يفلت منهم صلى الله عليه وسلم إلا عند دخوله إلى قباء أول مواضع المدينة المنورة، وقلنا قبل هذا إن قبيلة أسلم اعترضت الرسول عليه الصلاة والسلام قبل دخوله إلى المدينة المنورة بقليل؛ بغية القبض عليه لتسليمه إلى قريش؛ لنيل الجائزة الكبرى التي أعطتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مائة من النوق، وهو رقم ضخم في ذلك الزمان.


الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه مخاطر كثيرة داخل المدينة وخارجها، فالأنصار من أول لحظة يقولون: نحن معك بالسلاح، ونحن مستعدون أن نفديك بكل ما نمتلك من أموال وأرواح وكل شيء.


إذاً: كان هذا وضع الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، واستقبالهم الحافل برسول الله صلى الله عليه وسلم استقبال مشرف حقيقة، ينبئ ويخبر عن طيب وحسن طبيعة الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-4


شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم
والعمل بمقتضاها


الثاني: الإيمان الكامل والجازم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى برسالة منه إلى البشر عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ما حرمت مثل الذي حرم الله) تماماً بتمام؛ لأن السنة وحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، والقرآن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.


فلو كان الناس لا يفهمون معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وظنوا أنه مجرد رجل حكيم أو عبقري أو سياسي قدير أو كذا من الأمور، لأخذوا من كلامه وردوا حسب ما أرادوا، لكن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يزرعه في فترة مكة المكرمة أن ما يقوله هو وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، سواء كان كلام رب العالمين القرآن، أو كان وحياً وعبّر عنه صلى الله عليه وسلم بالمعنى، سواء الحديث القدسي أو الحديث النبوي كما نعلم جميعاً.



الإيمان الجازم باليوم الآخر


الثالث: الإيمان الجازم بأن هناك بعثاً يوم القيامة، وأن هناك حساباً من إله قدير عليم حكيم، يثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار.
هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا يدعو المشركين جميعاً إلى الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى.
قال: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعلمون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً).


الآثار المترتبة على الإيمان بالشهادتين واليوم الآخر


هناك أمور أخرى كثيرة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم منها: تقوية الأواصر بين المسلمين، زرع الأخلاق الحميدة، وتنمية روح التسامي والتضحية عند المسلمين، والبذل والعطاء، لكن لن تتحقق هذه الأمور كلها إلا إذا آمنت أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة إيماناً يقينياً جازماً.
قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].


هل نستطيع أن نفهم تطبيق شرع الله في حياتنا من غير أن نفهم هذه الأصول أو الأسس الثلاثة؟ في فترة المدينة المنورة جاءت تشريعات وقوانين كثيرة جداً، ولن يطبق هذه القوانين إلا من رُبِّي تربية صادقة صحيحة في فترة مكة المكرمة، أو تربى في المدينة المنورة على هذه الأصول الثلاثة المهمة.


فإن كان الإيمان ضعيفاً كان الانسياق للقانون الذي أتى من عند رب العالمين عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أيضاً، ومن ثم كان بناء الأمة الإسلامية ضعيفاً، والدستور الإسلامي هو أحكم قانون عرفته الأرض؛ لأنه من عند رب العالمين سبحانه وتعالى الذي يعلم ما يصلح العباد وما ينفعهم؛ لهذا كان اختياره لنا دائماً أفضل من اختيارنا لأنفسنا، والمسألة مسألة إيمان ويقين كما ذكرنا، إلا أن فلسفة الحكم في الإسلام لا تعتمد فقط على دقة القوانين وإحكامها، ولا تعتمد على مهارة الحاكم وحسن إدارته، بل تعتمد أيضاً على الشعور الدائم من المسلم بأنه مراقب من رب العالمين سبحانه وتعالى، وليست فقط رقابة ظاهرية، بل رقابة للباطن أيضاً: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29].
ويصف ربنا سبحانه وتعالى نفسه بقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].


ونتيجة هذه المراقبة سيكون الحساب يوم القيامة ثم الجنة أو النار، ومن ثم الأمة التي تؤمن بالله لا تخالف الدستور أو القانون الإلهي حتى في غياب عين الحاكم، أو حتى في غياب المدير أو الشرطي، وما ذلك إلا لأنها تعلم أن الله عز وجل يراقبها.
هذه هي فلسفة الحكم في الإسلام، لو أحسن المسلمون فقه هذه الفلسفة لكانت أمة الإسلام هي أكثر الأمم انضباطاً في تنفيذ قوانينها.


ولو أضفت إلى هذا حقيقة أن القانون الإسلامي هو أفضل قانون في الأرض بلا منازع؛ فإن هذا يفرز أفضل أمة بكل المقاييس؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فأنتم خير أمة وقانونكم هو خير القوانين، واتباعكم للقانون خير الاتباع، هذا إذا كان الناس يفهمون حقيقة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة.

فإذا رأيت في فترة من الفترات أو في مكان من الأمكنة أن أمة الإسلام ليست خير الأمم في الأرض، فاعلم أن هذا نتج من مخالفة المسلمين، إما بترك أجزاء من القانون، وإما بسوء التربية الذي يفرّغ القانون من روحه ومعناه، فيتحايل عليه المسلم ناسياً أن الله يراقبه؛ وما ذلك إلا لضعف إيمان، لو حصل هذا ستجد الفساد في أمة الإسلام، وستجد الرشوة والتزوير لإرادة الشعوب، وستجد التدليس على الناس، والكذب والبهتان والفواحش والمنكر، ستجد انهياراً كاملاً لكل فضيلة وخلق ومعروف؛ وذلك لأن القانون تفرّغ من روحه، فالناس لا يعرفون أن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل يراقبهم في كل صغيرة وكبيرة.



خلاصة لما سبق لن تكون للمسلمين أمة ودولة بغير تربية مكة، تربية الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان باليوم الآخر، تربية الصبر والثبات والتضحية والتجرد والإخلاص الكامل لله رب العالمين سبحانه وتعالى.