الأربعاء، 26 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 26- الخروج من مصيبة أحد-1


الدرس السادس والعشرون الخروج من مصيبة أحد



إن المصائب التي تنزل على المؤمنين ما هي إلا تمحيص من الله لعباده وتربية لهم على طاعة الله ورسوله، فمع أن غزوة أحد كانت مصيبة عليهم إلا أنه كان في باطنها الخير الكثير، وتعلم الصحابة فيها درساً في وجوب الطاعة ولزوم الأمر، وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكسر الهزيمة النفسية التي في قلوبهم، وأن يرفع معنوياتهم بخروجهم إلى حمراء الأسد لملاحقة المشركين مع كل الآلام والجراح.




ملخص مصائب يوم أحد على المسلمين


أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.


في الدرس السابق تحدثنا عن مصيبة أحد، والمصيبة كما ذكرت في الدرس السابق هي وصف رباني لما حدث يوم أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]، وكما ذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن المصيبة لم تكن في مجرد استشهاد سبعين من الصحابة، بل على العكس هؤلاء من أعظم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، لكن المصيبة كانت تكمن في أمور أخرى خطيرة حدثت في يوم أحد، منها: معصية الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وضوح الأمر، وكما ذكرنا أن الأمر لم يكن اجتهاداً من الصحابة، ولكن كان بسبب حب الدنيا، والله عز وجل ذكر ذلك تصريحاً في كتابه، قال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152].

المصيبة الثانية: هي استشهاد سبعين من الصحابة؛ بسبب خطأ من الرماة في هذه الموقعة، فاستشهاد هؤلاء السبعين ليست مشكلة، بل هي فضل من الله عليهم، لكن أن يستشهدوا بسبب خطأ فهذا أمر غير مقبول.

المصيبة الثالثة في ذلك اليوم: الإحباط الذي أصاب المسلمين والقعود في أرض القتال واليأس من عدم النصر، وعدم الحركة في سبيل الله عز وجل.

المصيبة الرابعة: الفرار من الزحف.

وذكرنا أن هذا الفرار تم بعد سماع نداء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: (هلموا إلي يا عباد الله! هلموا إلي يا عباد الله! أنا رسول الله) ومع ذلك واصلوا الفرار، فمنهم من صعد إلى الجبل، ومنهم من فر إلى المدينة المنورة، ولم يكن هذا كله تحيزاً إلى فئة أو تحرفاً إلى قتال، ولكن كانت مخالفة شرعية واضحة.

إذاً: بسبب هذه المصائب الأربع التي تمت في يوم أحد سمى الله عز وجل هذه الغزوة بالمصيبة.



الحكم والآثار الإيجابية من غزوة أحد


ذكرنا في الدرس السابق أيضاً أن أحُداً لم تكن شراً محضاً، بل كان في داخل هذه المصيبة خير كثير .


التنقية والتصفية والابتلاء

أول حكمة نراها في هذه المصيبة هي: الحكمة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى تعليقاً على غزوة أحد في آيات سورة آل عمران، ونحن بحاجة ماسة إلى أن ندرس هذه الآيات بدقة وتفصيل، خاصة عندما تمر أزمات أو مصائب كبرى على الأمة الإسلامية: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] لماذا؟ {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166 - 167]، أي: التنقية والتصفية والابتلاء.

فلو كانت حياة المؤمنين انتصارات بلا هزائم لدخل في الدين الإسلامي الصادق والكاذب، ولاختلط الحابل بالنابل، لكن عندما تحصل المصائب ينكشف الذي في قلبه مرض، ويبدأ بالمجاهرة بالعداء للإسلام؛ لأن الإسلام نسبياً أصبح ضعيفاً، والدولة الإسلامية بعد أحد أصيبت إصابة كبيرة، فمن كان يخفي في قلبه الكفر ويظهر الإسلام أظهر ما كان يخفي، وفعلاً بعد أحد جاهر كثير من المنافقين بنفاقهم، وقد رأينا أن (300) انسحبوا قبل بدء معركة أحد، فما بالك بعد المصيبة التي حصلت؟ يقول الرواة: نجم النفاق في المدينة المنورة بعد أحد، فالمسلمون عرفوا أناساً كثيرين بنفاقهم، كانوا في الظاهر يصلون ويصومون ويتكلمون بالخير، لكن الشر يكمن في داخلهم، هذا الشر خرج وظهر للناس بعد أحد.

من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف هؤلاء بالوحي، فقد أسر بأسمائهم إلى حذيفة بن اليمان، فمن الممكن أن نكشف أمرهم بالوحي ويكفي، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم أن الوحي سينقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يعرف المسلمون المنافقين إلى يوم القيامة، فما هي الطريقة لمعرفتهم؟ الطريقة: هي حدوث المصائب على الأمة الإسلامية سواء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة، فكلما تحصل مصيبة وتضعف الدولة الإسلامية وتمر بأزمة يظهر النفاق.

فهذه طريقة تعرفنا وتفصل لنا نوعية المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، وعندها تستطيع أن تختار الناس الذين تعتمد عليهم في إقامة صرح الأمة الإسلامية، فلن تختار منافقاً ولن تسر بأمر خطير إلى أحد المنافقين، وهذا إن شاء الله سنتكلم عنه بالتفصيل عند الحديث عن الأحزاب وتبوك، فهي غزوات يتضح فيها أمر المنافقين وضوحاً بيناً، لكن أذكركم بالآية الكريمة التي نزلت تعليقاً على غزوة تبوك، وسنفسرها إن شاء الله عندما نتكلم عن غزوة تبوك، قال الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].

إن عبد الله بن أبي انسحب من جيش النبي صلى الله عليه وسلم بـ (300) مقاتل، وقد يتخيل أن في انسحابهم أزمة، وهذا فهم خاطئ، فإن وجود هؤلاء الثلاثمائة داخل المعركة قد يزيد من خذلان المسلمين الذين ثبتوا، فيغيروا رأيهم، والله عز وجل يقول: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: فيكم أيها المؤمنون الصادقون من يستمع إلى كلام المنافقين.

إذاً: في باطن المصيبة رحمة وخير، فالمسلمون سيعرفون الأشخاص الذين يتكلمون بالسوء على الإسلام معرفة واضحة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق