الأحد، 16 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 19- الطريق إلى بدر-7


رد فعل الرسول (صلي الله عليه وسلم)
من القتال في الشهر الحرام




قال(صلي الله عليه وسلم) : (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، ولم يكتف بذلك، بل أوقف التصرف بالقافلة، وأوقف التصرف في الأسيرين إلى أن يأتي وحي يرشد المسلمين إلى القرار الأحكم في هذه القضية.


هذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الصحابة الذين قاموا بالسرية فقد رأوا أنهم أخطئوا في الاجتهاد، وبقية الصحابة جاءوا إليهم يعنفونهم ويلومونهم، ويلقون على أكتافهم تبعات الحدث الخطير: ماذا فعلتم قاتلتم في الشهر الحرام؟ فكان الموقف متأزماً حقاً.


بينما الجو العام في الجزيرة العربية يسير نحو تحميل هذه الفرقة الإسلامية الخطأ الذي فعلوه، وكانت تتفق على ذلك آراء أهل مكة والمدينة على حد سواء، مع اختلاف طرق التفكير واختلاف التصورات، فنزل الوحي بما فاجأ الجميع، نزل يوضح للناس كافة مؤمنهم ومشركهم الحقائق كما ينبغي أن تكون.


نزل يبين للناس ما اختلفوا فيه، نزل ليخرج المسلمين من المثالية غير الواقعية إلى فقه الواقع والموازنات وفقه الأولويات. نزل ليفضح مكر الماكرين وكيد الكافرين، ونزل لينصر ويؤازر الطائفة المؤمنة الصادقة التي أرادت أن ترفع عن كاهلها وكاهل المسلمين بعض ما وقع عليهم من ظلم.


نزلت آيات كريمات من سورة البقرة. قال الله عز وجل فيها: (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ )) [البقرة:217]. نعم.
القتال في الشهر الحرام كبير، لكن انظر: (( وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ )) [البقرة:217].


قال الله عز وجل للمسلمين: أنه لا معنى أبداً لتلك الضجة المفتعلة التي فعلتها قريش، ولا معنى أبداً لهذه التمثيلية الهزلية التي قام بها كفار قريش. فعلى الرغم من أن القتال في الشهر الحرام كان ممنوعاً في ذلك الوقت ولا ينبغي أن يسعى إليه المسلمون، وما زال ممنوعاً كما ذكرنا في رأي بعض الفقهاء، إلا أن ما فعلته قريش أكبر وأعظم من ذلك.


فالكفر بالله عز وجل وعبادة الأصنام من دون الله أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومنع المسلمين من الطواف بالكعبة وأداء المناسك أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب والتشريد والقتل أكبر من القتل في الشهر الحرام.


كل هذا قريش فعلته، ولم تفعله مرة واحدة بصورة عابرة، إنما فعلته مراراً وتكراراً، حتى أصبح عرفاً سائداً وقانوناً معمولاً به، فكل هذه جرائم أكبر بكثير مما فعله المسلمون وهاجت له قريش. فسبحان الله! تصبح تمثيلية مضحكة جداً عندما ينادي فرعون كما ذكر ربنا في كتابه الكريم بقتل موسى عليه السلام؛ لأنه كما يدعي فرعون يظهر في الأرض الفساد، قال تعالى (( وقَال فِرْعَون ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ )) [غافر:26].


من الذي يتكلم؟ فرعون الذي كان يقتل الأبناء ويستحيي النساء. وهكذا علم القرآن الكريم المسلمين وغيرهم فقه الواقع، فليس من الممكن أبداً في واقع الحياة أن تسير كل الأمور بفقه المثاليات، فقد يحدث أحياناً مخالفات نتيجة اضطرار في بعض الأمور. من أجل هذا نشأت القاعدة الفقهية المعروفة: دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين، فقد يقبل المرء بضرر ما في سبيل دفع ضرر أكبر منه، مع أن فقه المثاليات يقتضي دفع كل الأضرار وليس بعض الأضرار، لكن هذا غير ممكن وغير واقعي بل هو مستحيل؛ لأنه لا بد أن تحدث أضرار، فالحكمة تأتي في المقارنة بين الأضرار واختيار الأقل.


فالمسلمون وقع عليهم ضرر كبير جداً، وهو الفتنة عن الدين بالتعذيب والقتل والمنع من دخول المسجد الحرام، وليس من الخطأ أن أقبل بضرر القتال في الشهر الحرام وهو أقل؛ لأدفع به ضرراً أكبر وهو الفتنة في الدين والصد عن سبيل الله.


ومع ذلك المسلمون لم يحرصوا على الإتيان بالضرر الأصغر هذا، بالعكس كانوا يتمنون أن لو كان القتال في شعبان وليس في رجب، وقعدوا يتشاورون في هذا الأمر، وكان الموضوع شاغلاً فكرهم، لكن القافلة كانت ستفلت منهم، وسيستمر ضرر قريش الأكبر تجاه المسلمين، ومن المحتمل ألا تكون هناك فرصة ثانية مثل هذه؛ لذلك فإن الله عز وجل من رحمته بالمسلمين الذين خاضوا هذه السرية لم يكتف فقط برفع الإثم عنهم، بل أعطاهم ثواب المجاهدين في سبيل الله أيضاً. فقد أنزل الله عز وجل قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) [البقرة:218].





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق