الجمعة، 28 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 28- الأحزاب-7


إصابة سعد بن معاذ رضي الله عنه


خرج المسلمون للجهاد من جديد، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يختبر الصدق في كلام سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحدث أمر شق على المسلمين كثيراً، لكنه كان حلماً لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقد أُصيب البطل الإسلامي الشاب سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه بسهم في ذراعه أو كتفه، وكانت الإصابة شديدة الخطورة، وكانت أزمة فوق كل الأزمات التي مضت، فهو زعيم الأوس وحكيم من حكماء المسلمين وفارس من فرسانهم، وهو المطاع في قومه، والحبيب ليس فقط لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لله رب العالمين.

فيا ترى! ما هو رد سعد بن معاذ وهو شاب يُصاب إصابة قاتلة وعمره (37) سنة؟ قال سعد وهو يدعو الله عز وجل: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أُجاهده فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أُجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر إصابتي واجعلها تزيد- واجعل موتتي فيها.

وهو شاب عمره (37) سنة يرجو من الله سبحانه وتعالى ألا يلتئم الجرح لكي يموت! وعندما يصبح الموت أمنية فهي موتة شهيد، وهو لا يضمن إن عاش بعد ذلك أنه سوف يموت شهيداً، فهذه فرصة، فيدعو الله ألا تضيع هذه الفرصة، ثم قال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية، والموقف قد تأزم جداً، وهو أشد مراحل الزلزال، ولا يوجد في الصف أي منافق، فكلهم خرجوا ولم يبق إلا المسلمون الصادقون، والمسلمون قد عملوا ما بوسعهم، حفروا الخندق في وقت قياسي، وتحملوا الجوع والبرد، وحموا الخندق بأرواحهم، وقاتلوا بضراوة، وسهروا وتعبوا وكافحوا، وعملوا المفاوضات وعملوا مجالس الشورى، وعملوا كل شيء من الممكن أن يُعمل في مثل هذه الظروف، وقبل هذا وأثناء هذا وبعد هذا اجتهدوا في الدعاء، فهم يعرفون أن النصر ليس من عندهم أبداً، بل هو من عند الله سبحانه وتعالى، فالمسلمون كانوا يدعون الله تعالى أيام الأحزاب، ويقولون: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو والمسلمون يؤمنون يقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).




دور جنود الرحمن في تحقيق
نصره سبحانه للمسلمين يوم الأحزاب


عندها انتهى الامتحان لم يبق إلا أن يأتي نصر الله سبحانه وتعالى، لكن كيف يأتي؟ يأتي كما تعودنا بطريقة لا يتوقعها المسلمون، وبطريقة لا يستطيعون أن يضعوها أبداً في حساباتهم؛ ليعلم الجميع أن الناصر هو الله عز وجل.
كيف حصل النصر؟ من هم جنود الرحمن في الأحزاب؟ كل الذي سبق وأن قلناه في بدر يمكن أن نقوله في الأحزاب، لكن سأختار لكم ثلاثة جنود فقط من جنود الرحمن.



نعيم بن مسعود رضي الله عنه

الجندي الأول: نعيم بن مسعود.
نعيم بن مسعود رجل من المشركين لا يتوقع إسلامه أبداً في هذا التوقيت، بل يكاد يكون مستحيلاً، لماذا أقول: إنه من الصعب جداً أن يسلم في هذه الظروف؟ نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الغطفاني من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، كيف لرجل من هذا الجيش القوي المحاصر للمسلمين، وبعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمون في أي لحظة، خاصة بعد خيانة اليهود، كيف له أن يترك جيشه القوي؛ لينضم إلى الجيش الضعيف المهدد بالموت في أي لحظة، ولعل بعض المسلمين كانوا يريدون أن يسلم نعيم بن مسعود قبل سنة أو سنتين أو أكثر، ولو أسلم قبل الأحزاب لما كان له دور في رفع الحصار على المسلمين، لكن كل شيء محسوب: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! إني قد أسلمت، وإن قومي غطفان لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد -أي: أن انضمامك إلينا لن يكون فيه فارق كبير- فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة) لكن الله سبحانه وتعالى هداه لفكرة عجيبة جداً! لو فكر فيها عشرين سنة لما وصل إليها، ولم تخطر هذه الفكرة على بال الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على بال أحد من حكماء الصحابة، لكن إذا أراد الله سبحانه وتعالى للنصر أن ينزل على المسلمين فسينزل ولا معجز له سبحانه وتعالى، ونعيم بن مسعود شخصية معتبرة قيادية معروفة عند اليهود وعند قريش، ذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وهم يظنونه مشركاً، ويعلمون أنه من قادة غطفان، وله معرفة ببواطن الأمور وما يجري خلف الأبواب.

قال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، فقالوا: وما العمل يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يُعطوكم رهائن، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم ذهب نعيم إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونُصحي لكم، قالوا: نعم، قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم ما قاله لقريش.

وهكذا شعرت قريش بالقلق، وكذلك غطفان، فأرسلوا رسالةً سريعة لليهود، وكانت الرسالة يوم السبت وبتدبير رب العالمين، وأنتم تعرفون أن السبت هي إجازة رسمية عند اليهود، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك القراع والخف -أي: الدواب والماشية التي معهم- فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فبعث اليهود إليهم وقالوا: هذا اليوم هو يوم السبت ولا نستطيع، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فقالت قريش لغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود وقالوا: إنا لا نُرسل إليكم أحداً فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقال اليهود: صدقكم والله نعيم، فدبت الفرقة بين الفريقين وتفكك الأحزاب.

لماذا يأتي إسلام نعيم بن مسعود في هذا الوقت بالذات؟ ومن أين أتته الفكرة؟ وكيف تم تطبيقها؟ وكيف وقع فيها اليهود؟ وكيف وقع فيها حكماء قريش وغطفان؟ ولماذا لم يحصل تحقيق ومحاولات لكشف الحقيقة؟ ليست هناك سوى إجابة واحدة فقط: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].

هذا أحد جنود الرحمن في الأحزاب وهو نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق