الأحد، 23 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 25- يوم أحد-6


تمثيل المشركين 
بجثث قتلى المسلمين آخر المعركة


قام المشركون بعد صعود النبي صلى الله عليه وسلم بعمل شنيع، التفتوا إلى جثث المسلمين الملقاة على أرض الموقعة -سبعون شهيداً في أرض أحد- وبدءوا يمثلون بالجثث، فقامت النساء بتقطيع آذان الرجال المسلمين وأنوفهم، ويصنعن منها خلاخيل وقلائد ويلبسنها، فكن في منتهى الإجرام، وذهبت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وكانت من أشد الكفار ضراوة على المسلمين إلى حمزة رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وشقت بطنه وأخرجت قطعة من كبده رضي الله عنه وأرضاه وحاولت أن تأكلها، ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها، يعني: أخرجتها من فمها.

وهذا يعبر عن مدى الغل والحقد الذي كان في قلوب المشركين، فإن هند بنت عتبة كانت موتورة؛ فقد قتل أبوها عتبة بن ربيعة في غزوة بدر، وعمها شيبة بن ربيعة أيضاً في غزوة بدر، وأخوها الوليد بن عتبة في غزوة بدر، وابنها حنظلة بن أبي سفيان في غزوة بدر، فهؤلاء أربعة قتلوا في غزوة بدر من أقاربها، وهذا بالنسبة لها كانت كارثة، وكان حمزة رضي الله عنه ممن اشترك في قتل أقاربها، فقد شارك في قتل الوليد بن عتبة وقتل شيبة بن ربيعة.

كان هذا الموقف في أرض القتال بعد صعوده صلى الله عليه وسلم إلى الجبل، صعد الرسول صلى الله عليه وسلم الجبل وما زالت الدماء تنزل من رأسه، وحاول الصحابة من حوله أن يوقفوا الدماء، فكانوا يصبون الماء فوق رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الماء كان يزيد الجرح نزيفاً، وكانت فاطمة رضي الله عنها مع الجيش الإسلامي في ذلك الوقت، فلما رأت هذا الموقف أتت بحصير وأحرقته، وبدأت تدفع الحصير في داخل الجرح في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توقف النزيف.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف يقاتل من أول الصباح إلى الظهيرة، فجاء وقت صلاة الظهر وجمع المسلمين لأدائها، لكنه لم يستطع أن يقف صلى الله عليه وسلم من شدة الإصابات التي أصابته، فصلى قاعداً وصلى المسلمون قعوداً بقعوده صلى الله عليه وسلم.




موقف المشركين من إشاعة
قتل النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلهم بالشهداء


ما زال المشركون يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعض المسلمين مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض المسلمين شهداء في أرض الموقعة، وبعض المسلمين فر إلى أماكن مختلفة من الجبل، وبعض المسلمين فر إلى المدينة المنورة.
فالوضع كما ترون كان مأساوياً حقيقياً.


وجاء أبو سفيان ليشمت بالمسلمين، فعرف أن هناك مجموعة من المسلمين قد فرت إلى الجبل، فجاء هو ومن معه من المشركين؛ ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حياً، أو ليتأكد على أنه قتل، فنادى أبو سفيان: أفيكم محمد؟ فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: لا تجيبوه.

أشار إشارة فهم منها الصحابة ألا يجيبوا أبا سفيان؛ حتى لا يكشفوا المكان الذي هم فيه، فلم يجب الصحابة، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجيبوه فلم يجبه أحد، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ وأخذ يرتب في سؤاله عن الأشخاص، فمن أهم شخصية إلى الوزير الأول ثم الوزير الثاني فلم يجيبوه.

ففرح أبو سفيان وقال: أما هؤلاء الثلاثة فقد كفيتموهم، أي: قد قتلوا، فلم يتمالك عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه.

قال: أي عدو الله! إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله ما يسوءك، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال له: لا تتكلم، لكنه لم يستطع أن يمسك نفسه، فأحب أبو سفيان أن يرد الغيظ إلى المسلمين مرة أخرى، فقال كلمة شنيعة، قال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.

فانظر إلى الشر الذي كان في داخلهم في تلك الساعة، فإن من طبيعة العرب ألا يمثلوا بالجثث، لكن خرجوا عن منهجهم تماماً في هذه الموقعة، وأراد بذلك أن يغيظ عمر بن الخطاب ومن معه من المسلمين، ثم قال: أعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال الصحابة: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال.

فأجاب عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) وفي رواية: أن الذي قال هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عند ذلك قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر! فقد كان أبو سفيان يسمع صوت سيدنا عمر رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ائته فانظر ما شأنه -أي: انظر ماذا يريد- فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر! أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن، فقال أبو سفيان -وانظر إلى احترام المشركين للمسلمين- أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر).

إن احترام المسلمين موجود عند كل المشركين، وعند كل أعداء الأمة، فهم يحاربونك ويقاتلونك ويضيقون عليك الخناق، وفي داخلهم يكنون الاحترام الكامل لشخصيتك ولدفاعك عن مبادئك، ولتضحيتك في سبيل دينك وفكرتك، هذا هو الواقع؛ لذلك صدّق أبو سفيان عمر وهو عدو له، ولم يصدق ابن قمئة أحد جنود الجيش المشرك معه.

وانسحب أبو سفيان، ولم يفكر أن يصعد الجبل مرة ثانية واكتفى بما فعل، وعاد مع المشركين في اتجاه مكة، وانتهت موقعة أحد بذلك.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق