السبت، 22 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-8


إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان
لمفاوضة قريش في الصلح
ج2

وعثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية عزيزة شريفة لها تاريخ ولها جنود ولها رجال، والجميع يعمل لها ألف حساب، ثم يقول: (وإنه -أي: عثمان بن عفان - مبلغ ما أردت) يعني: الذي تريده سيتحقق على يد عثمان ما هو علي يدي أنا، وواضح من كلام عمر بن الخطاب ومن سيرته قبل هذا الأمر وبعد هذا الأمر أنه لا يخشى الموت، ولم يقل هذا الكلام خوفاً من قريش أو من غيرها، بل كان على استعداد دائم أن يبذل روحه في سبيل الله عز وجل، لكنه يريد أن تتم المهمة،

وهذه المهمة مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه سيؤديها؛ لأن عمر ليست له منعة في داخل مكة المكرمة وهو يريد أن تتم هذه المهمة؛ لذلك ذكر اسم عثمان بن عفان، ولماذا عثمان بن عفان من بين (1400) صحابي؟ هذا اختيار في منتهى الحكمة فعلاً؛ لأنه الرجل المناسب في المكان المناسب، فـ عثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية تقدر على حماية عثمان بن عفان، وإجارة بني أمية تمضي على كل قريش، كذلك أبو بكر الصديق نفسه لو ذهب فإنه لا يؤدي مثل ما يؤدي عثمان بن عفان؛ لأن قبيلة أبي بكر الصديق قبيلة ضعيفة، التي هي قبيلة بني تيم.

إذاً: كان اختيار عمر موفقاً لـ عثمان جداً هذا أولاً.

ثانياً: عثمان بن عفان مشهور بالحلم والحكمة، فعنده القدرة على أن يتفاوض ويؤدي المهمة كما ينبغي أن تؤدى.

ثالثاً: عثمان بن عفان رجل محبوب جداً في داخل مكة المكرمة سواء في أيام جاهليته أو في أيام إسلامه؛ لأنه كان كريماً واسع الكرم، يعطي عطاء بلا حدود، وكل أهل مكة قبل ذلك استفادوا منه، فهو عند أهل مكة محبوب، والناس كلها لن تؤذيه قدر المستطاع،

وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، كان متزوجاً في البداية من السيدة رقية، فلما ماتت تزوج أم كلثوم ، وهو الآن هو زوج ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام أم كلثوم ، ولن يضحي الرسول عليه الصلاة والسلام بزوج ابنته هكذا إذا أرسله، فمن الواضح أنه يريد الصلح والهدنة مع قريش. 


هذه أمور كثيرة جداً تجعل موقف عثمان بن عفان مترجحاً في هذه السفارة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما سمع ذكر اسم عثمان بن عفان وجد أنه الرجل المناسب، وقبل تشريح عمر بن الخطاب لإرسال عثمان بن عفان إلى قريش، وبالفعل كان هو رسول المسلمين إلى قريش، وهذا يرينا مدى سعة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه قبل بتغيير رأيه دون أن يثور على عمر بن الخطاب أو يتهمه بعدم القبول لرأيه وبالتقصير في حق المسلمين؛ لأنه ليس هناك وحي في هذه القضية.


إذاً: كان هذا موقفاً من أعظم المواقف في تاريخ المسلمين، كيف أن عند الحاكم استيعاباً لكل القدرات الموجودة في الجيش، وهذا الموقف لا يجب أن يمر دون أن نذكر أنه من أعظم مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، حيث أوكلت إليه هذه المهمة العظيمة الخطيرة جداً، والتي تعبر عن مدى ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه في اختياره للتحاور والتفاوض مع المشركين. وفي هذا الموقف نفي كل الشبهات التي قيلت في حقه بعد ذلك من المغرضين ومن أعداء المسلمين.

وخرج عثمان بن عفان من عند الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قريش بمهمة شديدة الوضوح، فقد أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أمور واضحة:

الأمر الأول: عليه أن يخبر قريشاً أن المسلمين لم يأتوا إلا معتمرين، وأنهم ما أرادوا القتال في هذه الرحلة إلى مكة المكرمة، وأنهم سيقبلون أي خطة تعظم فيها قريش حرمات الله عز وجل، هذا أول أمر وأهم أمر.

الأمر الثاني: أن يدعو قريشاً إلى الإسلام. حتى في هذا الموقف نرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بهداية قريش إلى الله سبحانه وتعالى.

الأمر الثالث: أن يأتي المستضعفين من المسلمين في مكة، والمستضعفون في مكة هم الذين لم يستطيعوا لضعفهم أن يهاجروا إلى المدينة المنورة، فهو صلى الله عليه وسلم أمر عثمان بن عفان أن يذهب إلى هؤلاء المستضعفين سراً ويتحدث إليهم بتبشيرهم أن الله عز وجل سيعز المسلمين يوماً، وأنه لن يستخفي أحد بعد ذلك بالإسلام في مكة، وهذه بشارة نبوية، ومكانها في هذا التوقيت في غاية الأهمية؛ لأن المستضعفين في مكة المكرمة يرون قريشاً تحاصر المسلمين في الأحزاب وتقاتل المسلمين مرة بعد مرة، والآن يمنعون المسلمين من دخول مكة، فهذا الوضع قد يؤثر سلباً على نفسيتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يهتم جداً بنفسيات هؤلاء المستضعفين، مع أنهم ليسوا معه في دولته في هذه اللحظة، لكنه يهتم بكل رعايا الدولة الإسلامية كل بحسب ظروفه ومكانه.

إذاً: هذه كانت مهمة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وبالفعل ذهب عثمان بن عفان إلى مكة المكرمة ليؤدي المهمة العظيمة، ومع أنه رسول والرسل عادة في عرف هذه البلاد وغيرها لا تقتل، إلا أنه لم يعتمد على هذا الأمر فقد أخذ بكامل الأسباب؛ لكي لا يحدث له أي أذى، ولكي تتم المهمة على الوجه الأكمل.

أول ما دخل طلب إجارة أبان بن سعيد بن العاص الأموي رضي الله عنه وكان وقتها ما زال مشركاً، فدخل في إجارة أبان ، و أبان رجل قوي وفيه لين ورحمة ولطف، وعلاقته قوية بـعثمان بن عفان ، وسيدافع عنه لصلة الرحم والقرابة والمعرفة، وبصفة اللين التي يتميز بها أبان بن سعيد وفوق هذا كله توفيق رب العالمين سبحانه وتعالى هو الذي جعل سيدنا عثمان بن عفان يطلب إجارة أبان بن سعيد بالذات، و أبان بن سعيد قبل قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية كان في رحلة تجارية إلى الشام، وهناك في الشام التقى مع راهب من النصارى، وهذا الراهب ذكر له أن هذا الوقت سيظهر فيه رسول في بلادهم.

فـأبان بن سعيد مهيأ نفسياً، فهذا الذي يقف خارج مكة هو رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن عثمان بن عفان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الإحساس جعله يدافع عن عثمان بن عفان بكل طاقته، فاستطاع عثمان أن يؤدي المهمة على الوجه الأكمل، فدخل عثمان بن عفان مكة في عزة، دخل سفيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقف مع (1400) صحابي خارج مكة المكرمة يطلب دخولاً للعمرة، وعرض عثمان عروضه بمنتهى القوة أمام قريش، وقريش في الحقيقة استقبلته أحسن استقبال، استقبلته استقبال السفراء، وسمعت منه ما قاله، بل وعرضت عليه أن يطوف حول البيت الحرام،

وتصور مدى اشتياق عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه للطواف حول البيت الحرام، له ست سنوات كاملة في المدينة المنورة ولم يطف في هذه السنوات الست ولا مرة بالبيت الحرام، لكن مع هذا الاشتياق الذي كان عند عثمان بن عفان ومع هذا الأجر العظيم في الطواف حول البيت الحرام، إلا أن عثمان بن عفان قال قولاً صارماً واضحاً لقريش، يعبر عن مدى ولاء المسلمين لقائدهم صلى الله عليه وسلم، قال: (لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم).

هذا موقف من أعظم مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ومن أدقها فهماً وفقهاً، فهو قال لهم: إنني لا أستطيع أن أتحرك قيد أنملة إلا بأمر من قائدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الموقف من عثمان بن عفان أحدث هزيمة نفسية لقريش، وعرفت أن الصف المسلم قوي صلب لا يمكن أن يخترق، فمع أن عثمان بن عفان جاء على بعد ( 400 ) كيلو أو ( 500 ) كيلو طلباً لهذه العبادة، ومع ذلك لا يستطيع أن يؤديها إلا بأمر من الحبيب صلى الله عليه وسلم.

إذاً: هذا موقف عظيم فعلاً هز قريشاً، وقريش بعد هذا الموقف بدأت تفكر تفكيراً عملياً سريعاً في الصلح مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يبق فقط إلا أن يحددوا بنود هذا الصلح، فالصلح أصبح أمراً واضحاً عند قريش بعد هذا الموقف، ومن قبله مواقف المسلمين العزيزة في المفاوضات التي تمت عند الحديبية.

ما الذي حصل مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في مكة المكرمة بعد أن أدى مهمته؟ وما رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لما حصل لـعثمان بن عفان ؟ وكيف ستكون بنود الصلح بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين المشركين؟ وكيف سيكون تطبيق هذه البنود على حياتنا وعلى واقعنا، وعلى ما نشاهده اليوم من معاهدات؟

هذا ما سنعرفه إن شاء الله في الدرس القادم وغيره. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-7


محاولة بعض شباب قريش منع الصلح مع المسلمين


لقد هزمت قريش هزيمة نفسية قاتلة، وبدأت تفكر تفكيراً جدياً في الصلح، لكن ما هي بنود الصلح؟ ما هي ظروف الصلح التي يفكرون فيها؟ كانوا قبل ذلك يرفضون الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم على طاولة المفاوضات؛ لأنهم لا يعترفون به أصلاً، وهاهم الآن حين رأوا هذه العزة العظيمة للمسلمين يتفاوضون معهم، وبدءوا يفكرون في الصلح، لكن هناك مجموعة من شباب قريش المتحمسين المتهورين أرادوا أن يقطعوا كل طريق للصلح، فقامت هذه المجموعة وهم حوالي (50) شخصاً من المشركين وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل وكان وقتها مشركاً، قامت هذه المجموعة بالتسلل إلى معسكر المسلمين ليلاً ليقتلوا بعض المسلمين، وهم غرضهم أن يبدأ القتال ثم بعد ذلك ستكون الحرب الكبيرة بين المسلمين وبين قريش.


فما الذي حصل مع هؤلاء؟ لقد كانت هناك مجموعة من الحرس يحمون المسلمين، وعلى رأس الحرس محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه، فاعتقل محمد بن مسلمة هؤلاء الخمسين المشرك، فماذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع هؤلاء الخمسين؟ لقد أطلقهم صلى الله عليه وسلم جميعاً مناً بلا فداء؛ لإبداء حسن النوايا ولإبداء الرغبة في الصلح، كأنه يقول لقريش: هذه رغبة حقيقية عندنا فنحن لم نجئ للقتال إنما جئنا معتمرين، ويريد صلى الله عليه وسلم أيضاً الصلح والهدنة؛ لينتشر الإسلام في الجزيرة العربية بأسلوب سلمي، قال الله سبحانه وتعالى يصف هذا الموقف في كتابه الكريم: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، فقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] يعني: بعد أن أخذتم هؤلاء الخمسين أسارى.




إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان
لمفاوضة قريش في الصلح

لقد أرسلت قريش ثلاثة رسل حتى الآن: أرسلت في البداية بديل بن ورقاء الخزاعي من خزاعة، وأرسلت بعد ذلك الحليس بن علقمة من بني الحارث بن كنانة، وأرسلت بعد ذلك عروة بن مسعود الثقفي من ثقيف، وهؤلاء الثلاثة من خارج قريش، أرسلتهم محاولة للتوسط بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في كل مرة يبلغهم بشيء، لكي يوصلوه إلى مكة المكرمة، لكن إلى الآن لم تستمع قريش مباشرة إلى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هؤلاء الرسل لم يبلغوا الأمر بصورة مرضية؛ إما لشيء في صدورهم، أو سوء فهم لقضية من القضايا؛ فلذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل رسولاً من المسلمين، يستطيع بواسطته أن يصل بالمعاني التي يقتنع بها المسلمون ويطالبون بها، يوصلها بوضوح إلى زعماء قريش؛ ليتجنب فتنة ليس لها أصل،

فالرسول صلى الله عليه وسلم فكر في إرسال سفير ورسول، فمن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يرسله؟ أول من أراد أن يرسله إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وعمر بن الخطاب كما تعلمون رجل قوي مفاوض له حكمة وقوة ورأي سديد جداً، فهو في كثير من المرات ينزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه رضي الله عنه وأرضاه، فيما عرف بموافقات عمر رضي الله عنه، ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يختار عمر بن الخطاب أنه كان في جاهليته سفيراً لقريش.

وكانت الزعامة في قريش موزعة على عشر قبائل، كل قبيلة عليها دور من الأدوار في قيادة مكة، والدور الموكل إلى بني عدي -التي هي قبيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- كان دور السفارة في قريش، والذي كان يقوم بهذا الدور من قبيلة بني عدي هو عمر بن الخطاب نفسه، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يبعث رسولاً قديماً من رسل قريش تعترف به كسفير، فهذا في غاية الأهمية وله عمق إستراتيجي واضح، فهذه كانت وجهة نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه،

لكن على غير المعتاد اعتذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أن الأمر ليس وحياً، وإنما هو رأي من الرسول عليه الصلاة والسلام له أن يراجع فيه ويعرض رأيه، فعرض عمر بن الخطاب رأيه في منتهى الوضوح ومنتهى الصراحة وقال: (يا رسول الله! ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت) يعني: أنا من قبيلة ضعيفة، قبيلة بني عدي بطن ضعيف من بطون قريش، لو حصل وقتل عمر بن الخطاب فلن يتحرك له أحد، ثم قال: (فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها).



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-6


ثالث رسل قريش لمفاوضة 
النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد تأزم الموقف جداً عند قريش، فأرسلت الرسول الثالث وأيضاً ليس من قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي من قبيلة ثقيف، فقريش أرسلت واحداً تعتقد اعتقاداً جازماً أن المسلمين سيحترمون رأيه ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظماً جداً في كل الجزيرة العربية، وهذا الرجل هو عروة بن مسعود الثقفي، وكما تعلمون عندما نزل القرآن الكريم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة وبلغ به الناس، وقف القرشيون وقالوا قولتهم التي حكاها الله عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم يريدون سحب العظمة من الرسول عليه الصلاة والسلام وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتان هما: مكة والطائف، والرجل الذي يقصدونه من مكة: هو الوليد بن المغيرة، والذي يقصدونه من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي هذا.

إذاً: جميع أهل مكة والجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل أعظم رجلين في داخل الجزيرة العربية بكاملها، لذلك أرسلوه للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعروة بن مسعود لكونه عزيزاً وسيداً جاء بكلمات تهذيبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت إن هدد ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه لن يكون ذلك مؤثراً على قريش؛ لأنه من ثقيف، فذهب عروة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أرأيت لو استأصلت قومك)، انتبه لكلمات عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق، كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يقتل الناس وليس العكس، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء وأعلن أكثر من مرة: (إنا لم نأت لقتال أحد ولكن أتينا معتمرين)، فهو يريد حقاً تعطيه قريش لكل الناس، ولكنهم يخالفون ويرفضون إعطاء ذلك الحق، فهنا قلب للحقائق وتصوير المظلوم أنه الظالم وتصوير الظالم أنه المعتدى عليه، وهذا أمر متكرر كثيراً في التاريخ، من ذلك: كلام فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].

فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال: (أرأيت لو استأصلت قومك وقتلت كل من في مكة، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك)، انظر إلى القلب الواضح للحقائق، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إنه يريد أن يستأصل قومه، بل بالعكس هو طلب منهم أن يسمحوا له بالعمرة ويرجع إلى المدينة المنورة، ولم يسأل عن حقوقه داخل مكة المكرمة، ولم يسأل عن دياره، ولم يسأل عن أمواله، ولم يسأل عن كذا وكذا من حقوق الصحابة، فقد سلب هو أصحابه من أهل مكة كل هذه الحقوق، ومع ذلك تجد الكلمات معكوسة تماماً من عروة بن مسعود الثقفي هذه عاداتهم، ثم يقول عروة بن مسعود: (وإن الأخرى) يعني: إن هي غلبت قريش المسلمين، قال: (فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، هذا كلام في منتهى سوء الأدب، يعني: أن هؤلاء الذين معك كلهم إذا بدأت الحرب سيفرون ويتركونك، إنما هم أوباش من الناس، فهو يسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ويذكر أنهم جميعاً سيفرون عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعونه لقريش.

فهذا الرجل يهدد ويتوعد وليس كالذي سبقه الحليس بن علقمة، فمثل هذا ما ينفع معه الكلام الهادئ وما ينفع معه العظة كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الحليس بن علقمة، هناك رد ثان مناسب له، والذي تولى الرد عليه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع علمنا بـ الصديق في رفقه ولينه ورقته ورحمته رضي الله عنه، لكن كل ذلك في موضعه، أما إذا كان في موضع العزة والقوة فهو أقوى الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان في كل حياته، وراجعوا ما قلناه في محاضرات الصديق رضي الله عنه وأرضاه عن قوة الصديق وبأسه رضي الله عنه.

فهنا وقف الصديق وتكلم بغلظة وشدة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك، قال رضي الله عنه وأرضاه بعد أن سب عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة، قال وهو مستنكر: (أنحن نفر عنه؟) يعني: هل الصحابة تفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعروة بن مسعود لما سمع السباب الذي قاله أبو بكر الصديق ومعلوم أن عروة بن مسعود زعيم وعظيم من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، لكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم، قال: (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) يعني: أنت كنت قد عملت معي معروفاً قبل كذا، ولأجل هذا المعروف لن أجيبك على هذا السباب الذي وجهته إلي، وحفظ للصديق معروفه القديم،

والحمد لله أنه كان هناك معروف من الصديق ؛ لأننا لا نريد الحرب أن تقوم، والرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى لحرب مطلقاً في هذه الرحلة بفضل الله. فلما هدأ الموقف وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم من جديد، وفي أثناء هذا الكلام كان عروة بن مسعود الثقفي يتحدث مع الرسول عليه الصلاة والسلام وكان يمد يده يتناول لحية الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبه، فكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه واقفاً بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان كلما رآه يمد يده ويمسك لحية الرسول عليه الصلاة والسلام أهوى بنعل السيف على يد عروة بن مسعود الثقفي ليمنعها من الوصول إلى لحية الرسول عليه الصلاة والسلام،

وهذا الموقف مهم جداً؛ لأن اسم المغيرة الكامل هو المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه وأرضاه فهو ابن أخي عروة بن مسعود ، فهذا فيه إبراز معنى الولاء عند المسلمين لله ولرسوله وللمؤمنين، حتى وإن كان الذي يتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام الآن هو عم المغيرة بن شعبة مباشرة، فعم المغيرة بن شعبة أبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، و المغيرة بن شعبة يسمع ويطيع للرسول الهاشمي صلى الله عليه وسلم ولا يسمع ولا يطيع لعمه الثقفي، فهذا منتهى الولاء والتجرد للإسلام والمسلمين.

فهذه الرسالة وصلت إلى عروة بن مسعود الثقفي ونقلها حرفياً إلى قريش، ولا شك أنها كان لها أبعد الأثر في قلوب القرشيين، وهناك أمور كثيرة حصلت في أثناء زيارة عروة بن مسعود للتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأشياء ليست كلاماً من الصحابة إلى عروة بن مسعود الثقفي ، ولكنها أفعال فعلت للرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأفعال كانت تعظيماً وتوقيراً وإجلالاً للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذه الأفعال ليست متكلفة؛ لأن حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كلها كانت تفانياً في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام،

لكن إظهار هذه الأمور في ذلك الوقت وفي هذه المحادثات كانت مقصودة لاشك، وكان لها أبلغ الأثر عند عروة بن مسعود ، فنترك عروة بن مسعود يصور ذلك الأمر، فهو لما رجع إلى قريش ذكر لهم ما رأى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال للقرشيين: (أي قوم والله، لقد وفدت على الملوك على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً).

فهذا الكلام كان له أبلغ الأثر عند القرشيين وعند عروة بن مسعود نفسه، ثم بدأ يذكر أفعال الصحابة قال: (وإذا أمرهم محمد ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) يعني: عروة بن مسعود مع أنه رسول قريش إلى المسلمين يأمر قريشاً أن يسمعوا لكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، وخطة الرشد هذه هي الخطة التي ليس فيها قتال، وهو لم يأت إلا لعمرة فاتركوه يؤدي العمرة ويرجع إلى المدينة. انظر كيف أثر تفاعل الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام من إظهار قوة الصف عند المسلمين وعزة المسلمين ورفعتهم وهيبتهم، كل هذه الأمور كانت أمام عروة بن مسعود لها أبلغ الأثر على القرشيين وعلى أعداء المسلمين؟!



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-5


ثاني رسل قريش لمفاوضة 
النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد حاولت قريش قدر المستطاع أن يتجنبوا اللقاء والصدام مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان بسلاح المسافر، فأرسلوا الحليس بن علقمة، والحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة زعيم الأحابيش المحالفين لقريش، فقريش للمرة الثانية لم ترسل قريش أحد زعماء قريش؛ لأنه قد يتهور في قرار لا يستطيع القرشيون تحمله، فأرسلوا الحليس بن علقمة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الحليس قال: (هذا من قوم يعظمون البدن)،

يعني: من قبيلة بني الحارث بن عبد مناف وهم قوم متدينون يحترمون قواعد البيت الحرام وأعراف البيت الحرام، ويعظمون البدن، ويحترمون من جاء لأداء العمرة أو الحج في مكة المكرمة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عامله بما هو أهله، فأرسل في وجهه البدن؛ ليشعره أنه ما جاء إلى هنا إلا ليقوم بما يعظمه الحليس بن علقمة وقومه، فعندما أرسل البدن في وجهه واستقبله الصحابة يلبون: لبيك اللهم لبيك، لما رآهم الحليس بن علقمة قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.

فالرسول عليه الصلاة والسلام استطاع أن يكسب قلب الحليس بن علقمة حتى قبل أن يتم بينه وبينه كلام، فقد كان عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقه في منتهى الروعة، فـ الحليس بن علقمة كافر، وبديل بن ورقاء كافر، وأبو سفيان كافر، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل قبل ذلك، وكل هؤلاء كفار، لكن كل واحد له طريقة تعامل، فهناك كافر غادر، وهناك كافر من نبلاء القوم، وهناك كافر لا يعظم أي دين، وهناك كافر يعظم الدين وإن كان ديناً باطلاً هكذا كل واحد له طريقة في التعامل، والرسول عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الرجل على قدر علمه وقدر بيئته وقدر ظروفه، وهذه هي الحكمة في حقيقتها.

إذاً: الرسول الثاني لقريش فشل في أداء ما تتمناه قريش، بل بالعكس فقد رجع إليهم وقال لهم: اسمحوا له بالدخول إلى مكة لأداء العمرة، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، لكن قريشاً ضربت بكلامه عرض الحائط، وقالوا: هذا الكلام لا يستقيم نحن نريد أن نمنعه مهما كانت الأعراف والقوانين.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-4


أول رسل قريش لمفاوضة 
النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد كان المسلمون على بعد عدة كيلو مترات قريبة جداً من مكة المكرمة، وبهذه العزة يقفون ينتظرون رسل قريش، وقريش لا تستطيع أن ترسل زعيماً من زعمائها وإنما تبعث واحداً وسيطاً يتوسط عند المسلمين أن يعودوا، فذهب بديل بن ورقاء الخزاعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليمنعه قدر المستطاع من دخول مكة، فقريش لا تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في ذلك الوقت، ولا تريد أن تحدث معه قتالاً؛ لأنها تشعر أنها أضعف من المسلمين، مع أن المسلمين ليس معهم إلا سلاح المسافر فقط، فوقف بديل بن ورقاء وحاول أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم تهديداً خفيفاً، لكن هذا التهديد لم يكن من قريش؛ لأن بديل بن ورقاء ليس قرشياً، فقال بديل مهدداً: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل.

يعني: ما تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي وهما فرعان من قريش يعيشون في مكة تركتهم نازلين قريباً جداً من الحديبية، (معهم العوذ المطافيل) يعني: معهم الأبناء والأولاد وهم يريدون حربك يا محمد، فالحرب ستكون ضارية بينك وبين قريش، ثم يكمل بديل بن ورقاء ويقول: وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.

فماذا كان رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد رتب الرسول عليه الصلاة والسلام الكلمات ترتيباً سياسياً حكيماً بارعاً، وبين له فيه أنه فهم الموقف تمام الفهم، وأن قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة لم يكن قدوماً متهوراً غير مدروس، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل حسابه لكل نقطة، فماذا قال؟ قال: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين) يعني: نحن لسنا مخالفين لقوانين الجزيرة العربية، وإنما أنتم الذين تخالفون قوانين الجزيرة العربية، وقوانين قريش نفسها تقضي بأن ندخل إلى مكة المكرمة لأداء العمرة إذا أرادنا ذلك، بل على قريش أن تحمينا وتحرسنا بسيوفها، فنحن نسير وفق هذا القانون وأنتم تخالفون هذا القانون.

فهو في منتهى القوة يقول: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين).

الأمر الثاني: أنت تهددني بقريش وأنهم قد جمعوا العوذ المطافيل وجمعوا جيوشاً ليحاربوني، لا، أنا أعلم بوضع قريش، قال: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم) يعني: ليست قادرة على محاربة المسلمين، فقريش أضعف من أن تحارب، فقد عادت من الأحزاب في خزي واضح بعد أن فشلت في غزو المدينة المنورة، وقريش لم تحرك جيشاً واحداً لقتال المسلمين في خلال السنة السادسة من الهجرة، مع اقتراب المسلمين أكثر من مرة من حدود مكة المكرمة.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم القوة التي هو فيها الآن، ويفاوض من هذا الوضع القوي، ولذلك كلماته مسموعة وكلماته مرغوبة عند بديل بن ورقاء وعند القرشيين جميعاً، فقال هذه الكلمات: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا)، فبدأ يعدد عروضاً في منتهى الوضوح، فقد أعطاهم ثلاثة عروض ليختاروا منها ما يشاءون.

العرض الأول: (فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: هذا العرض يقضي أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من قريش أن تضع الحرب بينه وبينهم مدة من الزمان، وهذه المدة سنة سنتان ثلاث عشر، ويتركون ما بيني وبين الناس، أنا أدعو الناس وهم يدعون الناس، وكل واحد يتصرف دون خشية من الطرف الآخر أن يدخل معه في حرب.

فهذا العرض يفسر لنا أن ما حدث في صلح الحديبية من كون القرشيين يطلبون المعاهدة والمدة كان مطلباً إسلامياً في البداية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب هذه المدة؛ لأنه يعلم تمام العلم أن الدعوة في الجو السلمي أكثر إنتاجاً وأعظم تأثيراً وأسرع إلى قلوب الناس منها في جو الحروب، لذلك كان يطلب صلى الله عليه وسلم من قريش أن تضع الحرب بينها وبينه مدة من الزمان؛ ليسمح له فيها بالدعوة في كل مكان دون قتال.

العرض الثاني: (وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا)، يعني: لو أرادوا أن يسلموا ويبقوا مثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا فعلوا ذلك، فنحن نرحب بهم في الإسلام.

إذاً: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الكلمات وهو بسلاح المسافر فهذا يدل على عزة الإسلام فعلاً.

العرض الثالث: (وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)، يعني: قتال إلى النهاية حتى الموت، فنحن لا نخشى القتال، بل نطلبه ونحبه؛ لأنه في سبيل الله عز وجل.

والسالفة أي: الرقبة، فهذا كان وضع الرسول عليه الصلاة والسلام، كلمات في منتهى القوة، وعروض ثلاثة واضحة جداً.

فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، وأخذ العروض الثلاث وانطلق إلى مكة المكرمة، وعندما ذكر بديل هذه الأمور لزعماء مكة، كان المتوقع منهم أن يثوروا ويغضبوا، كيف يقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات، وهو على بعد خطوات قليلة من مكة المكرمة، وهم في عقر دارهم ومعهم الجيوش، لكن هذا لم يحدث، فقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب القرشيين. هكذا يرفع المسلمون رءوسهم عندما يعتزون بدينهم.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-3


وصول النبي صلى الله عليه وسلم 
وأصحابه إلى الحديبية


لقد أكمل صلى الله عليه وسلم الطريق إلى مكة المكرمة إلى أن وصل إلى مكان يعرف بالحديبية، ويوجد هناك بئر، وهذا الموضع قريب جداً من مكة المكرمة، يقع بين التنعيم وبين مكة المكرمة، ويبعد التنعيم حوالي (5) كيلو من مكة المكرمة، فهو عليه الصلاة والسلام دخل في حدود مكة المكرمة نفسها، وأصبح الموقف شديد الحرج، ففي أي لحظة من اللحظات القادمة قد يحدث قتال عند إرادة دخول مكة المكرمة، لكن قبل دخول مكة المكرمة حدث أمر مفاجئ،

حدث أن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم توقفت عن المسير، فالصحابة اجتمعوا ليدفعوا الناقة إلى القيام وإكمال المسيرة إلى مكة المكرمة، وكان الجميع متحمساً جداً لدخول مكة المكرمة، ورفضت الناقة أن تقوم، فقال الصحابة: (خلت القصواء خلت القصواء) أي: امتنعت عن القيام وعن التقدم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلت القصواء وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس من خلق القصواء أن ترفض الأمر الموجه إليها، وما ذاك لها بخلق: (ولكن حبسها حابس الفيل) يعني: أنه سبحانه وتعالى أراد لها ألا تتقدم، فهو أمر من الله عز وجل للناقة.

وقوله: (حبسها حابس الفيل) يعني: الفيل الذي كان يركبه أبرهة عندما أراد دخول مكة المكرمة، لكن الله أمره ألا يدخل، فوقف الفيل ولم يستطع أبرهة أن يدفع الفيل لدخول مكة، فهذا الأمر تكرر تماماً مع الناقة النبوية.

وقد تكرر هذا الموقف مع الناقة قبل ذلك، ومن أشهر المواقف التي حدثت مثل ذلك: عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ترك عليه الصلاة والسلام الناقة تسير إلى أن استقرت في مكان ما، وقال للصحابة من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: (دعوها فإنها مأمورة)، فنفس الموقف يتكرر في الحديبية؛ بسبب هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة مهمة جداً، وستفسر لنا هذه الكلمة أموراً كثيرة آتية بعد ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن أحس وشعر أن هناك وحياً واضحاً في هذه القضية،

قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أنه سيقبل بالصلح مع قريش، فهو عليه الصلاة والسلام كان يشعر أن هناك وحياً في هذه القضية لم يكن مباشراً، لكنه فهمه من خلال وضع الناقة وعلم أنها مأمورة؛ وعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يريد قتالاً يتم بينه وبين قريش في ذلك الوقت، لذلك سيقبل عليه الصلاة والسلام بأي خطة تعظم حرمات الله، فهو يشترط في الخطة أن تعظم حرمات الله، فلن يقبل بظلم على المسلمين، ولن يقبل بمخالفة شرعية صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر في غاية الأهمية.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد مصالحة وخطة ليس فيها قتال، وهذا أيضاً سيفسر لنا قبول الرسول عليه الصلاة والسلام بصلح الحديبية بصورة واضحة؛ لأنه أمر مرضي له صلى الله عليه وسلم.

وبعد بقاء المسلمين في منطقة الحديبية أرسلت قريش أحد الرسل؛ جاء لكي يحل المشكلة بين المسلمين وبين قريش، وهذا الرسول هو بديل بن ورقاء الخزاعي فهو ليس من قريش وإنما من قبيلة خزاعة، ومعروف أن قبيلة خزاعة حليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب خزاعة، وقريش لم ترسل رجلاً منهم، لم ترسل زعيماً من زعمائهم يهدد ويتوعد، لا، لأن قريشاً تريد أن تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام بالسلم، وبنوع من الحسنى، وبتجنب القتال قدر المستطاع،

ونحن قد نستغرب ونقول: كيف قبلت قريش العزيزة المنيعة القوية القبيلة الكبيرة المعظمة عند جميع قبائل العرب بلا استثناء، كيف تقبل هذه القبيلة الكبيرة بالجلوس مع الرسول عليه الصلاة والسلام في طاولة المفاوضات، مع عدم الضغط المباشر على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أقول: إن الذي حصل في السنة السادسة من الهجرة أثر تأثيراً كبيراً على سلوك قريش، الذي حصل من سرايا وغزوات متتالية في العام السادس من الهجرة كان فيه رفع الراية الجهاد وإظهار الهيبة الإسلامية والعزة الإسلامية في كل مكان، فكل هذا كان له تأثير سلبي واضح على نفسيات قريش، وكان له تأثير معنوي إيجابي رائع جداً عند المسلمين، مما جعل الموقف يكون بهذه الصورة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-2


توقف الرسول صلى الله عليه وسلم 
وأصحابه بكراع الغميم

وصل صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى منطقة تسمى كراع الغميم، وهو على بعد (60) كيلو أو (64) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وهناك فوجئ عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً قد جمعت جيشاً وجمعت الأحابيش، والأحابيش: هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، وسميت بذلك؛ لأنهم اجتمعوا عند جبل اسمه حبشي، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عن مكة المكرمة.

فهذه المجموعة من القبائل جمعتها قريش لصد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة في مكة المكرمة، مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يذهب إلى مكة معززاً مكرماً ممنوعاً، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا، لكن كل هذا ضربت به قريش عرض الحائط، وبدأت التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين والعهود التي بينها وبين العرب قاطبة.

فوجد صلى الله عليه وسلم أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، هذا موقف خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا (1400) من المسلمين وبسلاح المسافر، ويقف أمامه عند كراع الغميم جيش، ليس من قريش فقط، ولكن من قريش ومن معها من القبائل المحالفة لها، فوقف صلى الله عليه وسلم وبدأ يأخذ الشورى بينه وبين أصحابه، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى في موقف من المواقف، إلا في حالة ما إذا كان هناك أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، إذا كان أمر حل أو حرمة فهنا لا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأي الصحابة فيه.

فمثلاً: الخروج من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة كان عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لذلك لم يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليأخذ رأيهم: نذهب أو لا نذهب؟ مع خطورة الأمر.

إذاً: ما دام ربنا سبحانه وتعالى أمر بكذا أو نهى عن كذا فلا مناقشة ولا تردد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في قضية عسكرية فأخذ الشورى فيها، فقد جمع أصحابه في هذا الموقف الخطير الذي هم فيه، وشاورهم: هل نحارب هؤلاء الذين تجمعوا لنا أم نعود ولا ندخل إلى مكة؟ هل نغير على قبائل الأحابيش الخالية الآن من الرجال؛ لأن معظم جيش الأحابيش خرج للوقوف عند كراع الغميم؟ وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض فكرة الالتفاف حول هذا الجيش والميل على قبائلهم الفارغة من الجنود وقتلهم وسبيهم، فيكون ذلك عزة وقوة للمسلمين على الكفار، هذه كانت آراء مطروحة من الرسول صلى الله عليه وسلم طرحها على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ليختاروا ما يناسبهم، وعرض بعض الصحابة رضي الله عنهم آراءهم،

فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، يعني: رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه ألا نسعى لقتالهم ولا نذهب إلى قبائل الأحابيش ولا نقاتل هذا الجيش، بل نكمل الطريق في محاولة الوصول إلى البيت، فإن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد إرهاب للمسلمين ولن يقاتل فنحن سنكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال قاتلناهم فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه، هذا ملخص رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قبلوا هذا الرأي واستحسنوه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أكملوا الطريق، لكن قريشاً كانت مصرة على منع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من دخول مكة المكرمة للعمرة؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان وقتها مشركاً، وهذه الفرقة من الفرسان حوالي (200) فارس، ووراءهم جيش مكة، وهذه الفرقة كانت في كراع الغميم، ولما اقترب الرسول عليه الصلاة والسلام وقف أمام هذه الفرقة المسلحة، وعند هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، والمسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن أوقاتها إلا في الظروف الضيقة المحدودة جداً، تكاد في السيرة تعد على أصابع اليد الواحدة، كما حدث في غزوة الأحزاب قبل كذا، لكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلوات في أوقاتها حتى في ميادين القتال، بل إنهم كثيراً ما كانوا يصلون الصلاة على خيولهم إيماءً إذا احتدم القتال، هذا اهتمام كبير جداً بقضية الصلاة،

ووقف صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يصلون صلاة الظهر خلفه مؤتمين به صلى الله عليه وسلم، يركعون ويسجدون جميعاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كما ذكرنا (1400)، فـ خالد بن الوليد قائد فرسان المشركين رأى المسلمين في صلاتهم في حال الركوع والسجود، ورأى الجيش كله لا يرى مَنْ أمامه في وضع السجود، فوجدها فرصة للإغارة على المسلمين فهو فكر بذلك دون أن يظهر ما فكر فيه إلى أحد، لكن خالد بن الوليد لم يأخذ قراراً حاسماً، مع أنه يرى أن هذه فرصة ممكنة للهجوم على المسلمين، فسأل الذين حوله: هل هناك صلاة ثانية للمسلمين مثل هذه الصلاة؟ فقال له من حوله من المشركين الذين يعلمون أحوال المسلمين: نعم هناك صلاة يسمونها صلاة العصر، هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم.

فرأى خالد بن الوليد أن هناك فرصة للهجوم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولم يخبر بذلك أحداً من أصحابه من المشركين، فلما جاء وقت صلاة العصر وقف صلى الله عليه وسلم ليصلي بالمؤمنين فنزل عليه الوحي بصفة صلاة الخوف، وصلاة الخوف صلاة خاصة لا يقوم بها المسلمون إلا في الظروف الضيقة جداً، في حال ما إذا كان المسلمون في ميدان القتال ويخافون من عدوهم أن يغير عليهم فإن لهم أن يصلوا صلاة الخوف.

ومن صفة هذه الصلاة بأن الإمام الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية يصلي ركعتين ويصلي خلفه نصف الجيش، والنصف الآخر يقف للحراسة، وبعدما يصل الإمام إلى الركعة الثانية يقعد للتشهد ولا يقوم، وبقية الناس تسلم وتنتهي من صلاتها ركعتين؛ لأنهم يصلون صلاة قصر المسافر، وينصرف نصف الجيش الذي صلى ليقف في الحراسة ويأتي الذين حرسوا الجيش في صلاته الأولى ويصلون خلف الإمام ركعتين أيضاً، فالإمام يقف بعد التشهد الأوسط ويصلي ركعتين التي بقيت له من الصلاة الرباعية التي هو صلاها فيصلي بنصف الجيش الثاني ركعتين، فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الخوف صلى أربع ركعات، ونصف الجيش صلى الركعتين الأوليين، والنصف الثاني صلى الركعتين الأخريين.

إذاً: هذا الحكم نزل في الحديبية أمام خالد بن الوليد ، فـخالد بن الوليد كان يريد أن يهجم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولكن لم يقدر؛ لأن نصف الجيش وقف للحراسة، فقال كلمة عجيبة قال: إن القوم ممنوعون، يعني: هؤلاء عليهم حماية غير طبيعية، حماية فوق طاقة البشر، كيف صلوا هذه الصلاة للمرة الأولى في حياتهم بهذه الكيفية، من أعلمهم بما فكر فيه خالد ، مع أنه لم يطلع أحداً على ما كان يفكر فيه؟ ولعل هذا الموقف كان له أثر كبير في تفكير خالد بن الوليد في أن يسلم؛ فهو أسلم بعد صلح الحديبية بشهور قليلة.

المهم لم يستطع خالد بن الوليد أن يحارب المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الدخول في قتال مع المشركين، وبعد ما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة أخذ الجيش وانحرف عن جيش خالد بن الوليد متجنباً إياه، وبدأ في التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهو صلى الله عليه وسلم مصر على استكمال الأمر حتى نهايته، و خالد بن الوليد حين رأى ذلك الموقف أصبح متردداً في قضية القتال، وقال: إن القوم ممنوعون، ورجع سريعاً إلى مكة ليخبرهم بهذا الأمر.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-1


الدرس الثلاثون الطريق إلى الحديبية


كانت هناك إرهاصات ومقدمات بين يدي صلح الحديبية، وقد كان دور النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم حكيماً في كسب تأييد رسل قريش للمفاوضات معه، وكذلك إضعاف معنويات القرشيين، الأمر الذي جعل الكفة في صالح النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، فتمخض من تلك المواقف الحكيمة استسلام قريش للصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم.



بين يدي صلح الحديبية
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثاني من دروس السيرة النبوية العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

وفي هذا الدرس إن شاء الله سنتحدث عن حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وأعظم أحداث الأرض بصفة عامة، وهو لحظة فارقة حقيقية في تاريخ الأمة الإسلامية، وله انعكاسات ليس فقط على الجزيرة العربية، ولكن على العالم أجمع كما سيتبين لنا إن شاء الله، وهذا الحدث العظيم هو صلح الحديبية.

ويكفي في وصف عظمة هذا الحدث أن الله عز وجل سماه بالفتح المبين، الفتح الذي جاء في الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] الكثير من المفسرين يفسرون هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية، ويكفي الذين اشتركوا في هذا الخروج إلى صلح الحديبية من الصحابة أنه سبحانه وتعالى قد رضي عنهم تصريحاً في كتابه الكريم قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وكان عددهم (1400) صحابي، فهذا الجمع الهائل من الصحابة صرح ربنا سبحانه وتعالى أنه قد رضي عنهم، وهذا أمر يستوجب منا الوقوف والدراسة والتأني في بحث هذا الموضوع الهام الخطير،

لكن لا نستطيع أن نفهم أبعاد صلح الحديبية إلا بالرجوع إلى ما ذكرناه في الدرس السابق، وقد ذكرنا فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب قال كلمته المشهورة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، ومن ثم كانت السنة السادسة من الهجرة هي السنة التي تلت غزوة الأحزاب، وكان في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك آثار كثيرة لخصناها في آخر الدرس السابق، ومجمل هذه الآثار: أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة لها قوة وهيبة وعظمة في قلوب جميع العرب بما فيهم قريش، وأن قريشاً بدأت تفتقد إلى الأعوان والأحلاف والأصحاب، وميزان القوى بدأ يسير في صف المسلمين على حساب قريش، هذا الأمر سيكون له مردود هام جداً في صلح الحديبية، كما سيتبين لنا الآن.



رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم
دخول البيت الحرام مع أصحابه
في شهر شوال من السنة السادسة من الهجرة، يعني: بعد مرور سنة من غزوة الأحزاب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا: رأى أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين معتمرين، ورؤيا الأنبياء حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيأخذ أصحابه ويذهب في رحلة عمرة جماعية إلى مكة المكرمة إلى عقر دار قريش، وهذا أمر صعب جداً، فهم قبل سنة واحدة فقط جاءت الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل: (4000) من قريش والقبائل التي تحالفها، و (6000) من غطفان، جاءوا يحاصرون المدينة المنورة بغرض استئصال المؤمنين بكاملهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مرور سنة واحدة من غزوة الأحزاب في شجاعة منقطعة النظير يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالتجهز لأداء العمرة، وليس بينه وبين قريش أي نوع من المعاهدات أو الصلح أو الاتفاقيات.

لما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم قبل الجميع من الصحابة ذلك دون تردد، بل اشتاقوا إلى الأمر، مع أن السفر إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت سواء للعمرة أو غيرها يحمل خطورة شديدة جداً عليهم، والمسلمون قد تحملوا الكثير والكثير قبل ذلك من قريش، وقريش لم ترع أي حق للبيت الحرام ولا للبلد الحرام، فقد انتهكت حرمة البلد الحرام قبل ذلك كثيراً، ومع ذلك لم يتردد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قبول الأمر النبوي بالذهاب إلى العمرة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاستفادة قدر المستطاع من قوانين المجتمع المشرك التي يعيش فيها، أي: الأعراف الدولية في ذلك الوقت، أعراف الجزيرة العربية، وأعراف قريش ذاتها تقضي بأن الذي يذهب إلى مكة المكرمة لأداء العمرة آمن مهما كان بينه وبين قريش من خلافات، فهل ستحترم قريش هذه القوانين القديمة أم لا؟! هذا ما سنراه.

فخرج المسلمون سعداء قد شرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، وهذا مهم جداً في بداية أي عمل، لذلك سيدنا موسى عليه السلام كان يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، فالإنسان عندما ينشرح صدره لعمل ما يكون أداؤه فيه أداء متميزاً.

لم يكن هناك أي نوع من الإكراه لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام للذهاب إلى هذا المشوار الصعب، لكن في المقابل من الناحية الأخرى جميع المنافقين تقريباً لم يستطيعوا الخروج إلى هذا المشوار الصعب، وترددوا كثيراً وفكروا كثيراً، وفي النهاية أخذوا القرار الحاسم أنهم لن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة؛ لأن هذا المشوار في نظرهم مشوار مهلك، كيف نذهب إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، ليس معنا أسلحة الحروب؟ لذلك لم يخرج مع المسلمين إلا منافق واحد اسمه الجد بن قيس.


كذلك الأعراب حول المدينة المنورة دعوا إلى الخروج، ولكنهم جميعاً أبوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك هذا الصف الذي خرج من المدينة إلى مكة هو صف خالص نقي طاهر، وعددهم (1400) مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في أوساط المؤمنين، وكما هو معلوم في الغزوات السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريباً بإذن الله عز وجل، فسنرى -إن شاء الله- نتائج عظيمة جداً نتيجة خروج هذا الصف النقي من المدينة المنورة، فقد كانوا (1400) وفي رواية: (1500) صحابي، وأخذ صلى الله عليه وسلم معه في خروجه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وكان هذا الخروج في غرة ذي القعدة سنة (6) هـ بعد سنة من الأحزاب، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، وفي ذي الحليفة التي هي الآن آبار علي وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة،

هناك في ذي الحليفة أحرم صلى الله عليه وسلم وقلد الهدي، وكان قد أخذ معه مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحها في مكة المكرمة، وهذا من النوافل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ولبس لباس العمرة وبدأ بالتلبية؛ كل هذا ليدل على أنه لم يذهب إلى مكة إلا للعمرة فقط، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن هناك عيوناً كثيرة لقريش على الطريق، وهذه العيون لاشك أنها ستنقل الأخبار إلى مكة المكرمة، وهو لا يريد حرباً مع أهل مكة ولم يذهب إلا للعمرة، وما رآه في الرؤيا هو فقط مجرد العمرة؛ ولذلك لم يخرج صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بسلاح المسافر، وفي طريقه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة كان يلبي: لبيك اللهم لبيك إلى آخر الدعاء.


الأربعاء، 19 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-8


آثار الغزوات والسرايا 
التي حدثت في السنة السادسة للهجرة


لقد تميزت هذه السنة المباركة السنة السادسة من الهجرة بأنها كانت سنة جهادية من الدرجة الأولى، حيث انتشرت فيها جيوش المسلمين كما رأينا في كل أنحاء الجزيرة العربية تقريباً، وتمت فيها (20) حملة عسكرية كاملة، يعني: بمعدل حملة عسكرية كل (20) يوماً، كان منها (17) سرية بقيادة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، و (3) غزوات بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ومع أن هذه الغزات والسرايا بصفة عامة لم تكن من المعارك الضخمة إلا أن تأثيرها كان عميقاً جداً على كل أهل الجزيرة، سواء من المسلمين أو المشركين أو اليهود أو المنافقين، فكل الناس تأثرت بهذه الغزوات والسرايا.

فتعالوا بنا نذكر بعض الآثار الحميدة لهذه السرايا والغزوات المتتالية في السنة السادسة من الهجرة هذه عشرة آثار نذكرها كما يلي: الأثر الأول: تحسن الوضع الأمني للمسلمين في الجزيرة العربية، سواء في المدينة أو في القبائل المسلمة في أي مكان، أو حتى للمسلمين العابرين أو المسافرين من مكان إلى مكان؛ لأن هيبة المسلمين أصبحت في قلوب الجميع عظيمة جداً.

الأثر الثاني: تحسن المستوى العسكري والأداء القتالي للمسلمين تحسناً ملحوظاً، فقد كانت هذه الغزوات والسرايا بمثابة دورات عسكرية تدريبية عملية تختلف كثيراً عن التعليم النظري، بل تختلف عن التدريب الاصطناعي غير الواقعي، فيظهر أثر هذه التدريبات المكثفة على مستقبل الجيش الإسلامي، سنرى بعد هذه الغزوات والسرايا المعارك المتلاحقة التي ستأتي بعد ذلك: خيبر، مؤتة، فتح مكة، حنين، الطائف غيرها وغيرها، وسنرى أثر هذه الدورات التدريبية على أداء المقاتل المسلم.

الأثر الثالث: تحسن الوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية، وذلك لعدة أمور منها: الاستقرار الأمني الذي يشجع على التجارة.

ومنها: العلاقات المنتشرة للمسلمين في كل مكان.

ومنها: كثرة الغنائم في السرايا والغزوات.

ومنها: اعتماد المسلمين تجارياً على أنفسهم بعد قطع العلاقات التجارية مع اليهود.

الأثر الرابع: أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع الكثير من موازين القوى في الجزيرة العربية، سواء على مستوى القبائل أو على مستوى الأفراد الزعماء، فعلى سبيل المثال: أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع قبائل بني المصطلق، ومع قبائل بني كلب في دومة الجندل ومع غيرها، وكذلك مع بعض الزعماء الكبار أمثال: ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه.

الأثر الخامس: في مقابل هذه العلاقات حدث تفكك ملحوظ في علاقات قريش مع كثير من القبائل العربية؛ لأن القبائل التي عقدت علاقات مع المسلمين فقدتها قريش، وهناك من القبائل العربية التي لم تنضم إلى هنا أو هناك آثرت أن تبقى على الحياد، لا هي مع قريش ولا هي مع المسلمين، وهذا يعتبر انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين؛ لأن قريشاً مع ما لها من تاريخ وقوة وسيادة لم تعد مقنعة لعموم القبائل العربية كحليف، وهذا لا شك سيكون له بُعْدٌ هام في صلح الحديبية بعد ذلك كما سنرى.

الأثر السادس: شعرت قريش بالقلق الشديد نتيجة نمو الدولة الإسلامية بهذه الصورة، وأحست أن المسلمين قادرون على تهديدها في عقر دارها، فقد رأينا كيف أن سرية إسلامية وصلت إلى حدود مكة كما ذكرنا في غزوة بني لحيان، ورأينا محاولة اغتيال أبي سفيان، ولا شك أن كل هذا له أثر كبير جداً على نفسيات القرشيين، مما جعلهم يحسون أن البساط سينسحب من تحت أرجلهم، وأن الأيام الآتية ليست لهم، بل للمسلمين، وهذا سيكون له أيضاً أثر كبير في صلح الحديبية.

الأثر السابع: نتيجة التقدم الإسلامي الملموس والتأخر القرشي الواضح ارتفعت معنويات المسلمين جداً، وازدادت ثقة المسلمين بأنفسهم، وهذا سيعطيهم القدرة على الانطلاق إلى قرارات جريئة جداً، تكون لها تبعات كبيرة جداً، ولن يقف أمام أحلامهم أحد، بل إننا سنشاهد مواقف لعلها لم تكن تخطر أصلاً في أذهان المسلمين.

الأثر الثامن: نتيجة هذا المستوى الإسلامي المتميز سارع المنافقون بكتم نفاقهم، ومن كان يجاهر بالسوء أيام الأحزاب، فإنه الآن يتملق ويداهن ويتخفى، وليس معنى ذلك أنهم سيكفون عن أذاهم، أبداً، لكن معناه: أنهم سيكيدون كيدهم بحذر أكثر وحرص أعظم، وهذا قد يضاعف من خطورتهم، وما أحداث غزوة بني المصطلق بخافية عن أحد، فقد دبروا كل الفتن التي حدثت في بني المصطلق في خفاء شديد وفي سرية مطلقة.

بل إنهم عندما سئلوا مباشرة عن هذه الأحداث أنكروا وحلفوا بالله ما قالوا، ولا شك أن فتنة المنافقين ستزداد كلما ازدادت قوة الدولة الإسلامية، وستتفاقم هذه الفتنة كما تعلمون بعد ثلاث سنوات من هذه الأحداث في غزوة تبوك، كما سنرى إن شاء الله في الدروس الآتية، وعلى المسلمين أن يكونوا دائماً على حذر تام من هذه الثعابين التي تسعى في الظلام.

إذاً: الأثر الثامن: ازدياد خطورة المنافقين.

الأثر التاسع: ضعف قوة اليهود إلى حد كبير، وهذا كان له أثر بعد ذلك، فقد قتل أكابر مجرميهم بدءاً بـ حيي بن أخطب وسلام بن مشكم أثناء غزوة بني قريظة، ثم بعد ذلك قتل سلام بن أبي الحقيق و اليسير بن رزام كما ذكرنا. ثم إنهم قد هوجموا في وادي القرى وفدك، وهددوا تهديداً خطيراً، وفوق كل هذا فقدوا الكثير والكثير من أحلافهم في الجزيرة؛ لأن الحملات الإسلامية المتكررة هنا وهناك قطعت أوصال اليهود وعلاقاتهم بغيرهم، وكل واحد في الجزيرة همه الأكبر أن يحافظ على نفسه، ولم يضع اليهود في حساباته، فهذا كله سيكون له أثر كبير جداً في علاقات الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود وبالذات بعد صلح الحديبية.

الأثر العاشر والأخير: نتيجة هذه الحملات العسكرية هنا وهناك سمع أهل الأرض جميعاً بهذا الدين الجديد: الإسلام، وهذه الدولة الجديدة: الدولة الإسلامية، وتحولت الدعوة من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى القارات المختلفة، ومن العرب إلى كل الأجناس والعناصر، وهذا سيكون له أثر كبير جداً في الخطة المستقبلية للدولة الإسلامية، وسنرى هذا عندما يبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في مراسلة زعماء العالم أجمع، يدعوهم إلى الإسلام، لم يكن هذا الأمر إلا بعد أن سمع العالم أجمع بالدولة الإسلامية الجديدة التي نشأت في المدينة المنورة.

إذاً: هذا هو الأثر العاشر، وتلك عشرة كاملة. لا شك أن هذه الآثار الكثيرة كانت تشير إلى أن هناك حدثاً كبيراً ستمر به المنطقة، سيكون له أبلغ الأثر في تغيير الأوضاع، ضعف قريش وضعف اليهود وقوة المسلمين وترقب القبائل العربية كلها، كل هذا يشير إلى حدوث حدث قريب مهم جداً، ويشير أيضاً إلى أنه سينتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة تتبدل فيها موازين القوى في الجزيرة، بل في العالم أجمع، وواضح أن هذا الحدث الذي سينتج عن هذه الآثار الكثيرة هو صلح الحديبية، فصلح الحديبية هو اللحظة الحاسمة الفارقة الشديد الأهمية في تاريخ الأمة الإسلامية، هو لا شك يحتاج إلى تحليل طويل ودراسة متأنية، وهو موضوع محاضرتنا في المرة القادمة.

أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ((  فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-7


استمرار السرايا التأديبية
للمناوئين والمعارضين للدولة الإسلامية الناشئة


الذي نريد أن نذكره في هذا المقام: أنه بالرغم من الأزمات والفتن التي حدثت في غزوة بني المصطلق إلا أن أسهم المسلمين كانت في ارتفاع دائم، وكان الجو العام في الجزيرة العربية يشير بوضوح إلى نمو الدولة الإسلامية نمواً سريعاً، وأن هذا النمو يسير بشكل طبيعي ومتدرج ومدروس، وكل هذا سيكون له آثار كبيرة جداً على الأحداث المستقبلية للدولة الإسلامية، وسنفهم الكلام هذا أكثر عندما نأتي لصلح الحديبية.

وغزوة بني المصطلق كانت في شهر شعبان سنة (6) هـ ومع أن الأحداث كانت تغلي بالأحداث الأخيرة وبالذات حادثة الإفك إلا أن حركة الجهاد لم تتوقف.

وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الشهر شهر شعبان سنة (6) هـ سريتين هامتين جداً: الأولى: بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه إلى ديار بني كلب بدومة الجندل على مسافة كبيرة جداً من المدينة المنورة، والأخرى: إلى ديار بني سعد بفدك، والذين كانوا يعدون العدة للتعاون مع يهود خيبر لحرب المسلمين، وكانت هذه السرية الأخيرة بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، كان هذا البعث في شهر شعبان مع وجود حادثة الإفك في المدينة، فحركة الجهاد في سبيل الله لم تتوقف.

وفي شهر رمضان سنة (6) هـ أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام سرية أخرى إلى بني فزارة في منطقة وادي القرى، وكان على رأسها أبو بكر الصديق أو زيد بن حارثة رضي الله عنهما أجمعين، وهذه السرية كانت موجهة لامرأة في هذه المنطقة اسمها أم قرفة، فهذه المرأة أعدت فرقة من ثلاثين فارساً لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الفرقة المجهزة له أخرج لها هذه السرية الإسلامية، فقتلت هذه السرية الإسلامية هؤلاء الفرسان الثلاثين جميعاً، وازداد نشاط المسلمين جداً في شهر شوال سنة (6) هـ، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث سرايا خطيرة:

الأولى: كانت إلى مجموعة من المشركين من قبائل عكل وعرينة كانوا قد أظهروا الإسلام وغدروا بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقتلوا منهم واحداً، وسرقوا كمية كبيرة من الإبل، فبعث لهم الرسول عليه الصلاة والسلام سرية بقيادة كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه واستطاع الإمساك بهم وقتلهم وتمكن من استرداد الإبل.

السرية الثانية: في شوال (6) هـ كذلك وكانت هذه السرية بقيادة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، وكانت مهمتها في منتهى الخطورة، مهمتها اغتيال اليسير بن رزام أمير خيبر من اليهود، فهو من أكابر اليهود ومن الذين أخذوا يجمعون اليهود في خيبر ووادي القرى وفدك لحرب المسلمين، ولم يكتف بذلك، بل قام بجمع غطفان من جديد لحرب المسلمين، من أجل أن يعيد الأحزاب مرة ثانية، كان يريد أن يقوم بنفس الدور الذي قام به قبله حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق،

ولكي لا تتكرر مأساة حصار المسلمين في داخل المدينة المنورة حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على التخلص من هذا الطاغية قبل أن يجمع هؤلاء المشركين، وبذلك يجنب المسلمين ويلات أزمة ضخمة قد تحدث، وكانت هذه السرية المكونة من ثلاثين فارساً، وتمكنت هذه السرية من قتل اليسير بن رزام، وأمن بذلك المسلمون شر خيبر، ولكن بصفة مؤقتة؛ لأن كل اليهود في ذلك الوقت كانوا متجمعين في خيبر، ولا شك أن العلاج النهائي لمشكلة يهود خيبر وتأليبهم المستمر على المسلمين يحتاج إلى وقفه حاسمة، ويحتاج إلى حرب فاصلة مباشرة كالتي فعلت قبل ذلك مع يهود بني قينقاع ويهود بني النضير ويهود بني قريظة،

هذا هو الحل النهائي مع يهود خيبر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن قادراً على ذلك الوقت؛ لأن وضع المدينة المنورة خطير، لا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يغزو خيبر الآن دون أن يؤمن ظهره، فأخطر ما يهدد ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام هو غزو قريش المدينة المنورة، وبالذات أن غزوة الأحزاب لم يمض عليها سوى سنة واحدة، وإذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش الآن إلى حرب خيبر حرباً شاملة فقد يستغرق هذا الخروج إلى فترة طويلة جداً من الزمان قد تصل إلى شهور؛ لشدة بأس المقاتلين من أهل خيبر، ومناعة حصون خيبر، وبعد خيبر عن المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يترك المدينة خالية من الجند فترة طويلة غير محسوبة، لذلك اكتفى صلى الله عليه وسلم باغتيال رأس الفتنة ومحرك الجموع اليسير بن رزام إلى أن يصل إلى وسيلة لتأمين جانب قريش، وبعدها يفكر في قضية خيبر، وهذا عين ما سنراه بعد صلح الحديبية.

إذاً: كل هذا كان في شوال (6) هـ، وكانت هذه هي السرية الثانية في شوال.

السرية الثالثة والأخيرة في هذا الشهر كانت سرية خطيرة جداً، ووجهة هذه السرية كانت غريبة جداً، كانت وجهتها مكة المكرمة، وكثير من الناس لا يعرف أمر هذه السرية، خرجت هذه السرية إلى مكة المكرمة لمهمة في غاية الخطورة إنها مهمة اغتيال أبي سفيان شخصياً، وعلى رأس هذه السرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه، و أبو سفيان كان من أشد المجمعين والمؤلبين لحرب المسلمين في الأحزاب، فهو شخصية خطيرة جداً ومحورية في مكة المكرمة، وحربه معلنة ضد المسلمين،

بل إنه دبر مؤامرة لقتل الرسول عليه الصلاة والسلام قبل هذه السرية بقليل، وفشلت هذه المؤامرة، وذلك حين استأجر أبو سفيان أعرابياً لقتل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الرد على هذه المحاولة من أبي سفيان أن يرسل الرسول عليه الصلاة والسلام سرية لاغتيال أبي سفيان ، فكما فشلت سرية أبي سفيان في اغتيال المصطفى صلى الله عليه وسلم كذلك سرية الرسول عليه الصلاة والسلام لم تستطع اغتيال أبي سفيان ، والحمد لله أنه لم يقتل؛ لأن أبا سفيان أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.

بهذا الموقف علمت قريشاً أنها مهددة في عقر دارها، لا شك أن ذلك أفزع زعماءها جداً؛ لأن الزعماء من أهل الدنيا لا يرون أن هناك شيئاً أغلى من حياتهم وكراسي حكمهم، فهذه أهم شيء عندهم، فإذا هددوا فيها كانت بالنسبة لهم الطامة الكبرى، فهذه السرية كما ذكرنا كانت في شوال سنة (6)هـ فيكون قد مرت سنة كاملة على غزوة الأحزاب؛ لأن غزوة الأحزاب كانت في شوال (5) هـ.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-6


غزوة بني المصطلق

سمع صلى الله عليه وسلم بتجمع قبيلة بني المصطلق لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فباغتهم صلى الله عليه وسلم بخروجه إليهم في (2) شعبان سنة (6) هـ، ووصل إليهم عند منطقة تعرف بماء المريسيع، لذلك هذه الغزوة تعرف في بعض الكتب بغزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق، وفي هذه الغزوة انتصر المسلمون انتصاراً كبيراً على بني المصطلق وغنموا غنائم ضخمة وكبيرة، وسبوا عدداً كبيراً من نساء القبيلة، وكان منهن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها التي أصبحت أم المؤمنين بعد ذلك، وهي ابنة زعيم بني المصطلق الحارث بن ضرار، وكانت ضربة قوية هائلة للقبيلة.


ووقعت جويرية بنت الحارث التي هي بنت زعيم قبيلة بني المصطلق في نصيب ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه من الأنصار، والرسول عليه الصلاة والسلام في قصة طويلة أدى عنها مكاتبتها لـ ثابت بن قيس، وعرض عليها الزواج بعد أن أسلمت وتزوجها صلى الله عليه وسلم، وكان الهدف من الزواج واضحاً جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الزواج أن يتألف قلوب بني المصطلق، حيث أعتق المسلمون سبايا بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق يوم زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من جويرية بنت الحارث أهل مائة بيت من بني المصطلق،

وكان ذلك سبباً في إسلام قبيلة بني المصطلق، وكان نصراً عزيزاً للإسلام والمسلمين، ومع كون غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع ليست من الغزوات الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الصراع فيها طويلاً ولا كبيراً ولا القتلى والشهداء كثيرين، ومع ذلك فهذه الغزوة اكتسبت أهمية خاصة في السيرة النبوية؛ لخطورة الآثار التي ترتبت على وجود المنافقين في داخل هذه الغزوة.




دور المنافقين في إذكاء الفتن
بين المسلمين في غزوة بني المصطلق


لقد حدثت انتصارات سابقة كثيرة بعد غزوة الأحزاب، ورأى المنافقون هذه الانتصارات المكثفة فخرجوا في غزوة بني المصطلق ابتغاء الحصول على غنيمة، وفي غزوة بني المصطلق تسبب المنافقون في أكثر من أزمة، كادت كل واحدة منها أن تطيح بكيان الدولة الإسلامية، وصدق الله عز وجل إذ يقول في حق المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] (خبالاً) يعني: اضطراباً وضعفاً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].

فهذا عين ما حدث في غزوة بني المصطلق، فقد تسبب المنافقون في فتن متتالية، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] يعني: وقع المؤمنون الصادقون في أمور كثيرة بسبب المنافقين، حيث التبس الأمر على أكثر المؤمنين في هذه الغزوة.

وهذه الأزمات التي أثارها المنافقون في هذه الغزوة من الضخامة بمكان، فهي بحاجة إلى تحليل طويل وتدبر عميق، مما قد لا يتسع له المقام في هذه المحاضرة، لكن بإذن الله سنفرد لها حديثاً خاصاً في مجموعة أخرى من المحاضرات وقد نوهنا عنها قبل ذلك: وهي مجموعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين، سنجمع فيها كل الأخطاء التي وقع فيها الصحابة سواء في غزوة بني المصطلق أو في الغزوات الأخرى أو في السرايا أو في جميع السيرة النبوية، ونحلل فيها كيف كان رد فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأخطاء وهذه الأزمات.

وفي هذه المحاضرة إن شاء الله سنعرج سريعاً على هذه الفتن التي دارت في غزوة بني المصطلق.

الأزمة الأولى التي حدثت: كانت صراعاً قام بين المهاجرين والأنصار على السقاية من بئر من آبار المنطقة، وهذا الحدث نادر في السيرة، لعله الوحيد الذي حدثت فيه أزمة ضخمة بين المهاجرين والأنصار، وكانت أزمة كبيرة جداً كادت أن تتفاقم لولا حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في السيطرة عليها.

ثم إنه نجمت عن هذه الفتنة فتنة أخرى خطيرة جداً وهي فتنة نداء المنافقين في أوساط الأنصار بأن يخرجوا المهاجرين من المدينة، وقال عبد الله بن أبي ابن سلول كلمته الفاجرة يعلق فيها على المهاجرين بقوله: والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

كانت أزمة خطيرة جداً توشك أن تقضي على الأمة لولا أن الله عز وجل سلم.

وحدث بعد ذلك فتنة ثالثة خطيرة شنيعة أشد من الأولى والثانية: إنها حادثة الإفك، وفيها اتهم المنافقون السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه وأرضاها بالفاحشة، وللأسف الشديد وقع بعض المؤمنين في الأمر، واتسع نطاق الأزمة حتى شمل المسلمين كلهم ما بين مدافع ومهاجم، وما بين مبرئ ومتهم، ولم ينزل وحي في هذه القضية إلا بعد شهر كامل، فبعد شهر كامل نزل الوحي بتبرئة السيدة عائشة الطاهرة رضي الله عنه وأرضاها من التهمة الشنيعة التي أثارها المنافقون، واشترك فيها كما ذكرنا بعض المؤمنين.

وحادثة الإفك هذه من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين في فترات السيرة النبوية، وهذه الأزمة خطيرة جداً تحتاج إلى وقفات طويلة وتحليلات كثيرة، وانتباه إلى رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدبر في تعليق رب العالمين سبحانه وتعالى للحدث كما في سورة النور.

إذاً: هذه قصة كبيرة جداً تحتاج إلى تفريغ وقت وتدبر، وسنفرد إن شاء الله كما ذكرنا تفصيلاً في موضوع أخطاء المؤمنين.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-5


السرايا التي بعثها صلى الله عليه وسلم
بعد غزوة ذي قرد
لتأديب القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب وغيرها


وبعد عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ في إخراج سرايا منظمة إلى كل بقاع الجزيرة العربية تقريباً؛ وذلك إلى القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب، وكذلك القبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إلى القائل التي تستعد لغزو المدينة المنورة.

وهكذا بعث صلى الله عليه وسلم السريا الآتية: أولاً: بعث سرية بقيادة عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه إلى غمر مرزوق، وهو تجمع لفرع من فروع بني أسد، وبنو أسد من القبائل التي اشتركت في حصار الأحزاب، وكانت هذه السرية في نفس الشهر الذي تمت فيه غزوة ذي قرد وهو ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6) هـ.

السرية الثانية كانت بقيادة محمد بن مسلمة إلى ذي القصة لقتال بني ثعلبة على بعد حوالي (55) كيلو متر شمال المدينة، وهذه كانت في ربيع الثاني سنة (6) هـ.

في نفس الشهر ربيع الثاني خرجت سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه إلى نفس المكان ولنفس الهدف لقتال بني ثعلبة.

في نفس الشهر كذلك ربيع الثاني خرجت سرية أخرى بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالجموم، والجموم على بعد حوالي (100) كيلو متر من المدينة المنورة وخرجت لقتال بني سليم.

وبعد عودة هذه السرية بأيام في شهر جمادى الأولى خرجت سرية مهمة جداً بقيادة زيد بن حارثة مرة ثانية أيضاً.

وسنرى أن اسم زيد بن حارثة يتكرر مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه لأمر كبير جداً سنعرفه عندما نأتي لغزوة مؤتة إن شاء الله.

المرة الثانية: خرج زيد بن حارثة على رأس سرية أخرى موجهة إلى منطقة تعرف بالعيص، وهذه المنطقة شمال غرب المدينة المنورة، وكان غرض هذه السرية اعتراض قافلة من قوافل قريش، فأمسك زيد بن حارثة بالقافلة بكاملها، وكانت ضربة كبيرة جداً لقريش.

وفي الشهر الذي يليه شهر جمادى الآخرة من سنة (6) هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الثالثة على رأس سرية إلى منطقة تعرف بالطرف على بعد (55) كيلو متر من المدينة المنورة على طريق العراق، وكانت لقتال فرع من فروع بني ثعلبة.

وفي نفس الشهر جمادى الآخرة سنة (6) هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الرابعة على رأس سرية في منتهى الأهمية إلى منطقة حسمى في شمال الجزيرة العربية، وهذه السرية مهمة جداً ومحتاجة لوقفة، وسبب هذه السرية أن أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه كان في طريقه من الشام إلى المدينة المنورة فاعترض طريقه أحد زعماء قبيلة جذام، وقبيلة جذام تسكن في شمال الجزيرة العربية، فهذا الزعيم كان اسمه الهنيد بن عوص ومعه ابنه ومجموعة من رجال قبيلة جذام، وأخذوا ما مع دحية الكلبي رضي الله عنه،

وسمع بذلك مجموعة من بني الضبيب، وبنو الضبيب كانوا من المسلمين فهبوا لنجدة دحية الكلبي، ونجحوا في استرداد الأشياء التي سلبها منه الهنيد بن عوص ومن معه، وحمل دحية الكلبي هذه الأشياء وعاد إلى المدينة المنورة، في عرف أناس كثيرين أن الموقف انتهى، ما دام الشيء الذي أخذ رجع فليس هناك داع للقتال، لكن عندما أخبر دحية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجعل هذا الموقف يمر دون وقفة، حتى وإن كان ما سلب من المسلمين رد إليهم؛ ليعلم الجميع أن هيبة الأمة الإسلامية لا ينبغي أبداً أن تنتقص، وأن أي قبيلة أو إنسان تسول له نفسه التعدي على حرمة الأمة الإسلامية، ولو كان هذا التعدي على رجل واحد أو امرأة واحدة من المسلمين لا بد أن يحدث انتقام من قبل الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، من أجل هذا قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبعث جيشاً لعقاب قبيلة جذام على تعديها على أحد رعايا الدولة الإسلامية، وبخاصة الهنيد بن عوص وابنه اللذان تزعما الفرقة التي هجمت على دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه.

هذا موقف مشرف جداً، يكتب بماء الذهب وأغلى من الذهب، لقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ينتفض لانتهاك حرمة امرأة واحدة أهينت على يد يهود بني قينقاع، فحاربهم وأجلاهم من المدينة جميعاً، وهاهو الآن ينتفض لانتهاك حرمة رجل مسلم واحد اعتدي عليه من قبيلة قوية في شمال الجزيرة العربية بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فلا تسل عن مدى إحساس رعايا الدولة الإسلامية بالأمان والطمأنينة لحماية القائد لها، ولا تسل عن مدى إحساسهم بالأمان وهم يعلمون ويوقنون أن دولتهم بكاملها تقف وراءهم، تحفظ كرامتهم، تدافع عن حقوقهم، ترفع رءوسهم في العالم أجمع.

وهذا الموقف يزداد قيمة عندما نعرف أن القبيلة التي اعتدت على دحية الكلبي هي قبيلة قوية جداً، قبيلة جذام، وتقع مساكنها على بعد حوالي (800) كيلو متر شمال المدينة المنورة. تصوروا اجتياز مسافة طويلة وصعبة جداً في الصحراء وسيتم فيها لقاء صعب، لكن كرامة الأمة الإسلامية فوق كل الاعتبارات، هكذا يكون التعامل مع هموم وقضايا الأمة. فالرسول عليه الصلاة والسلام جهز سرية بقيادة زيد بن حارثة للمرة الخامسة في سنة (6) من الهجرة، عدد أفرادها (500) رجل، وهذه أكبر السرايا التي خرجت من المدينة المنورة، وأخرجها صلى الله عليه وسلم بهذا الحجم؛ لأن مهمتها صعبة، ولا مدد لها من المدينة؛ لبعد المسافة بينها وبين المدينة المنورة، كما ذكرنا تبعد عن المدينة حوالي (800) كيلو متر.

فخرج زيد بن حارثة بهذه السرية الكبيرة، وكان يسير ليلاً ويكمن نهاراً؛ حتى لا تكشفه العيون، وباغتت هذه السرية الكبيرة قبيلة جذام في الصباح فقتلت منهم عدداً كبيراً، وكان من بين القتلى الهنيد وابنه، وساق زيد بن حارثة من ماشيتهم (1000) بعير، و(5000 ) شاة، وساق من السبي (100) من النساء والصبيان، لقد كان هذا الحدث انتصاراً هائلاً وحدثاً مدوياً في الجزيرة العربية بكاملها. لقد عرف الجميع بوضوح أن انتقاص هيبة الدولة الإسلامية عاقبته الحرب والقتال والجهاد، لا بد لكل أهل الجزيرة أن يدركوا هذا الأمر جيداً، ولا بد أن يدركوا هذه القيمة العالية للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، ولا بد لهم أن يدركوا قيمة كل مسلم، سواء كان مقيماً في المدينة أو مسافراً في أي مكان في الجزيرة العربية أو غيرها.

إذاً: لقد كان هذا الموقف في غاية الروعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مع كون المسلمين يعيشون أزمة اقتصادية كبيرة بعد الأحزاب، ومع أن هذه الغنائم التي أتت إلى المدينة المنورة فيها خير كبير جداً للمدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعاد هذه الغنائم مرة ثانية إلى قبيلة جذام؛ وذلك عندما جاء إليه زيد بن رفاعة الجذامي رضي الله عنه أحد أفراد قبيلة جذام، وكان قد أخذ قبل ذلك كتاباً بالأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أسلم هو وبعض أفراد القبيلة، ومع أن الكتاب كان قد تم نقضه عندما غدرت قبيلة جذام بـدحية الكلبي ، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام آثر أن يكسب قلوب القبيلة بإعادة الأموال والغنائم والنساء والصبيان، وحصل كل ذلك بعد أن ظهرت هيبة الدولة الإسلامية وظهرت قوتها وعزتها، وتحقق الهدف من السرية،

وقد تكون إعادة الغنائم والسبي الآن سبباً في ثبات المؤمن في القبيلة وسبباً في إسلام من لم يسلم بعد، فهذا تصرف سياسي حكيم جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثبت فيه للجميع سواء في زمنه أو في زمننا هذا وإلى يوم القيامة أنه صلى الله عليه وسلم لا يقاتل من أجل المال والغنائم والسبي والدنيا بكاملها، وإنما يقاتل لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل، ولأجل تعبيد الناس لرب العالمين، ولأجل الدفاع عن كرامة وحرمات الأمة الإسلامية.

إذاً: هذه السرية كما ذكرنا كانت في شهر جمادى الآخرة سنة (6)هـ سرية مهمة جداً. وبعد عودة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة المنورة مكث فيها عدة أيام، ثم خرج للمرة السادسة على رأس سرية أخرى إلى منطقة وادي القرى، وكان هذا في شهر رجب سنة (6)هـ لقتال قبيلة بني فزارة، وهي قبيلة عيينة بن حصن الذي سبق وأن أغار على المدينة المنورة في غزوة الغابة كما تعلمون.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-4


قصة غزو الرسول صلى الله عليه وسلم
لعضل والقارة من بني لحيان


بعد هذه الآثار العظيمة من ارتفاع معنويات المسلمين، وخوف الأعراب، وهزة قريش، وإسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وقتل زعماء اليهود الكبار وفي أولهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، بعد كل هذا كان لزاماً على المسلمين أن يستغلوا هذه الآثار الضخمة بسلسلة منظمة من الحملات العسكرية هنا وهناك؛ لأن قريشاً ستنشغل بنفسها ولن تقدم أي معونة لأحد في حرب المسلمين، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في رسم خطة لبسط السيطرة على الجزيرة العربية.

ومن يشاهد خريطة تحركات الجيوش والسرايا بعد غزوة الأحزاب يدرك بجلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على دراية تامة بجغرافية وظروف الجزيرة العربية، كانت الغزوات والسرايا متنوعة في كل الاتجاهات في صورة شبكة منظمة رائعة، طرقت تقريباً كل دروب الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وكان شعار هذه المرحلة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).

فأول قبيلتين فكر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يحاربهم: قبيلة عضل، وقبيل قارة، وقصة هاتين القبيلتين في الغدر بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معروفة ومشهورة، وتكلمنا عليها قبل هذا في الدروس السابقة، وهي قصة الغدر عند ماء الرجيع.

فقد قتلت هاتان القبيلتان من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام (10) عند ماء الرجيع، بعد أن أوهموا المسلمين أنهم يريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكان وقع هذه المصيبة كبيراً جداً على الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنه ظل يدعو عليهم في قنوته في كل صلواته لمدة شهر كامل.

فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وجد الفرصة مواتية لقتالهم أعد العدة لذلك، بل وقرر الخروج بنفسه على رأس الجيش، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة بني لحيان.

وبنو لحيان هي القبيلة التي تنتمي إليها قبائل عضل وقارة، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بالفعل بجيشه إلى بني لحيان في ربيع أول سنة (6) هـ، وهذا الخروج خطير جداً لأمور: أولاً: لأن قبائل بني لحيان قبائل قوية مقاتلة.

ثانياً: لأن قبائل بني لحيان اشتهرت بالغدر وقطع الطريق، من أجل هذا عندهم عدة كمائن على الطريق.

ثالثاً: لأن مساكن بني لحيان بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فهي تبعد تقريباً (400) كيلو متر من المدينة المنورة إلى الجنوب.

رابعاً: لأن مساكن بني لحيان قريبة جداً من مكة المكرمة، على بعد (90) كيلو متر من مكة المكرمة، فلا يستبعد أبداً أن تدرك قريش أن جيش المدينة على مقربة من مكة المكرمة فتخرج له قريش، وأنتم تعرفون قوة قريش.

كل هذه الأمور جعلت هذه الغزوة خطيرة، ومن أجل هذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه فيها.

وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع أول (6) هـ، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في (200) من أصحابه، ومعه مجموعة من الفرسان في هذه الغزوة، وأوهم الناس أنه سيتجه إلى الشمال في بادية الشام، وبعد ذلك غير الاتجاه وذهب إلى الجنوب حتى يعمي على العدو، ووصل إلى ديار بني لحيان، لكن كما ذكرنا قبل هذا أن بني لحيان كانت لهم عدة كمائن على الطريق، واكتشفت هذه الكمائن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلا أن فروا من ديارهم لما عرفوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد غزوهم، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في (200) فارس، وجاء على بعد (400) كيلو من المدينة المنورة، فهرب بنو لحيان جميعاً في رءوس الجبال وتركوا ديارهم خالية.

وكان على غير مراد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يقابلهم ويحاربهم؛ لينتقم لأصحابه أصحاب الرجيع، لكن هروب بني لحيان ترك أثراً إيجابياً كبيراً جداً في صالح المسلمين في المنطقة كلها.

العربي ليس من شيمه الهروب، والجبن صفة مذمومة جداً عنده، لا يحب أبداً أن يوصف بها، وبالذات إن كانت القبيلة قبيلة قوية لها تاريخ في الحرب والقتال والغزو، لكن ربنا سبحانه وتعالى ألقى الرعب في قلوبهم، لم يفكروا أصلاً في المقاومة، لم يفكروا في سمعتهم أمام القبائل الأخرى، فكان ذلك انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين بلا شك، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا الانتصار، بل مكث في ديار بني لحيان يومين كاملين يبث السرايا للبحث عنهم في كل مكان، لكن لم يعثر على أحد منهم.

ويعتبر بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض القبيلة مدة يومين كاملين هذا من أقوى دلالات الانتصار عند العرب، لأن من ينتصر لا يخرج سريعاً من مكان القتال وكأنه يخشى القوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أثبت أنه لا يخاف بني لحيان ومكث يومين كاملين، ليس هذا فحسب، بل أرسل سرية صلى الله عليه وسلم من (10) فرسان في اتجاه مكة حتى بلغت كراع الغميم، وكراع الغميم على بعد حوالي (60) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وأمرهم أن يظهروا أمرهم ولا يستخفون؛ ليعلم بهم أهل مكة وأنهم سيغزون مكة؛ وذلك لإلقاء الرعب في قلوب القرشيين، وحدث ما تمناه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد فزعت قريش ونفرت إلى السلاح، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام عاد إلى المدينة ولم يدخل معهم في قتال؛ لأنه غير مستعد لقتال قريش في ذلك الوقت، لكن تحقق له ما أراد وشعرت قريش بالخطر الشديد من المسلمين.




غارة عيينة بن حصن الفزاري
على بعض ممتلكات المسلمين حول المدينة
وردة فعل المسلمين تجاه ذلك

بعد أسبوعين كاملين من الغياب عن المدينة المنورة، وفي أثناء عودة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة أغار عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين في خارج المدينة المنورة، في منطقة تعرف بالغابة، وأخذ منها إبلاً وشياهاً للمسلمين، وقتل راعيها -وهو رجل من غفار- واحتملوا امرأته، وهرب عيينة بن حصن في اتجاه الشمال الشرقي للمدينة في ناحية منازل غطفان، ووصل الخبر إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم نقل له سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسلمة من أعظم الرماة في الإسلام، فلما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك عاد سلمة مسرعاً إلى منطقة الغابة وظل يرمي الفرقة الغازية فقتل بعضهم وأصاب بعضهم.


وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فرقة سريعة الحركة من الفرسان، وأمر عليهم سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا غير سعيد بن زيد المهاجري رضي الله عنهم أجمعين، وكان في هذه الفرقة المقداد بن عمرو وعباد بن بشر وأبو قتادة وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم أجمعين، ومجموعة من خيار فرسان الصحابة، وقال صلى الله عليه وسلم لأميرهم سعد بن زيد: (اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس) وخرجت هذه الفرقة السريعة، والرسول عليه الصلاة والسلام تبعها بعد ذلك بجيش من المسلمين، وأدرك هذه الفرقة عند مكان يسمى ذو قرد على بعد حوالي (35) كيلو متر شمال شرق المدينة المنورة.


في هذه الغزوة قتل أبو قتادة رجلاً من المشركين، وقتل عكاشة بن محصن رجلين، واستنقذ المسلمون بعض الإبل والشياه، وفرت المرأة المسلمة امرأة أبي ذر ونجت بنفسها إلى المدينة المنورة، وهرب عيينة بن حصن ومن معه ببعض الإبل.

وطلب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل معه من الرجال ليغزو بهم قبائل غطفان في مكانها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض ذلك؛ لأن قبائل غطفان قبائل قوية جداً ومنازلها بعيدة عن المدينة المنورة، ولا يريد أن يدخل معها في صراع وهو لم يعد العدة الكافية لذلك.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام يكافح ويجاهد ويستخلص الإبل قدر المستطاع في واقعية دون تهور، فقد كان كل ذلك في حدود المدينة المنورة، وفي نفس الوقت هو لا يتهور بإرسال جيش إلى مغامرة غير مأمونة، وعلى العكس من ذلك فقد أخذ جيشه القليل صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بني لحيان؛ لأن هناك اختلافاً بين بني لحيان وبين بني غطفان، فقبيلة لحيان وإن كانت قوية إلا أنها أقل بكثير جداً من قبائل غطفان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي لكل أمر قدره، يحسب حساباته بدقة، ويتصرف على ضوء هذه الحسابات، في توازن رائع وفقه عميق.

هذه الحملة الأخيرة التي قادها صلى الله عليه وسلم تعرف بغزوة الغابة، وهو المكان الذي أغار عليه عيينة بن حصن، أو غزوة ذي قرد، وهو المكان الذي وصل إليه صلى الله عليه وسلم في مطاردته للمشركين، وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6) هـ.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-3


قصة أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه


عند عودة المسلمين من هذه السرية من أرض نجد أسروا رجلاً كان في طريقهم لم يكونوا يعرفونه، فلما أتوا به إلى المدينة المنورة تبين أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، فهو من أعظم وأكبر زعماء العرب مطلقاً في ذلك الوقت، فقد كان ذاهباً من بني حنيفة متنكراً من أجل أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن تعالوا لننظر ماذا سيحصل مع هذا الأسير؟ وما هي الآثار التي نتجت عن أخذ هذا الأسير الكبير؟ أخذ المسلمون هذا الأسير وربطوه في سارية من سواري المسجد النبوي، فخرج صلى الله عليه وسلم وسأله: (ما عندك يا ثمامة؟) لنتصور حلم ورفق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب رجلاً يعلم أنه جاء ليقتله: (ما عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي خير يا محمد).

ثم عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، يقول: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: لو قتلتني ورائي قبيلة كبيرة جداً بنو حنيفة ستأخذ بثأري، فدمي لن يذهب هدراً.

هذا أول شيء، وهذه صيغة تهديدية، (إن تقتل تقتل ذا دم).

الثاني: (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: لو أطلقتني بغير فداء سأحفظ لك هذا الجميل وأشكره لك.

الثالث: (وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت) يعني: إن طلبت المال كفدية سنعطيك منه ما تشاء؛ لأن ثمامة من أغنى أغنياء العرب، وتصور هذا العرض والمدينة في حالة من أشد حالات الفقر.

إذاً: هذه اختيارات ثلاثة عرضها ثمامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام آثار آثر يرد سريعاً على هذه الاختيارات الثلاثة، بل تركه مربوطاً في سارية المسجد يشاهد حركة المسلمين وتعامل المسلمين وصلاة المسلمين ودروس المسلمين، فالمسجد كان حياة المسلمين كلها، كل شيء يحصل في المسجد، حتى الأمور السياسية والعسكرية الخطيرة تتم في داخل المسجد، ويؤخذ القرار في داخل المسجد.

فـ ثمامة بن أثال وهو مربوط يرى واقع المسلمين وحياة المسلمين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الأخ وأخيه، يرى الإسلام بصورة واقعية تماماً.

فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني وسأل ثمامة نفس السؤال قال: (ما عندك يا ثمامة؟) فرد عليه بنفس الرد وعرض عليه الأمور الثلاثة، فتركه الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية ورجع له في اليوم الثالث وقال له: (ما عندك يا ثمامة؟) فرد ثمامة بنفس الرد، هنا الرسول صلى الله عليه وسلم سيختار أحد الاختيارات الثلاثة، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى ثمامة رجلاً عاقلاً سيداً شريفاً زعيماً، ومن ورائه رجال وأقوام، وراءه قبيلة كبيرة جداً قبيلة بني حنيفة، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لاحظ انبهار ثمامة بن أثال بالمسلمين وبطبيعة الدين الإسلامي، ولاحظ انبهار ثمامة بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام ثمامة محتمل، فلو أطلقه بدون فداء لعل هذا يؤثر فيه ويسلم، وقد يسلم من ورائه أيضاً قبيلة بني حنيفة، وكان إسلام الرجل أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الدنيا جميعاً، أن يسلم واحد ويستنقذ من الكفر إلى الإيمان هذا يساوي عند الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من كل أموال الدنيا، لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ثمامة بغير فداء.

تصور هذا أسير ثمين جداً ويطلقه هكذا بغير فداء! أنعم عليه آملاً أن يكون ثمامة بن أثال صادقاً عندما قال: (إن تنعم تنعم على شاكر)، وهذا التصرف في حسابات أهل الدنيا من السياسيين يعتبر تصرفاً غير مفهوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم دولة فقيرة، وهي لا زالت خارجة من أزمة اقتصادية طاحنة، ولو طلب الأموال الطائلة لبذلت لفك أسر ثمامة بن أثال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفكر في الدنيا بكاملها، كل الذي يفكر فيه استنقاذ ثمامة وقبيلة ثمامة من براثن الكفر وجذبهم إلى جنة الإيمان، ولا يفقه ذلك إلا سياسي مؤمن،

وثمامة كان عند حسن ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسرعاً من المسجد النبوي بعد أن أطلق سراحه، انطلق إلى نخل قريب من المسجد عنده بئر من الآبار فاغتسل من هذا الماء الذي في البئر، والظاهر أنه سأل قبل ذلك عن كيفية الإسلام، لكنه لم يرد أن يسلم وهو في قيده؛ من أجل ألا يتهم بالنفاق، أو يتهم أنه أسلم ليطلق سراحه، وإنما انتظر حتى أطلق ثم اغتسل وجاء بنفسه مختاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، فعل ذلك بكل حسم وعمق إيمان، لم يفكر في الرجوع إلى بلده للاستشارة وأخذ الرأي، وإنما بعد أن رأى الحق رغب فيه وأسرع إلى الإسلام مهما كانت العواقب ومهما كانت النتائج.

وقرر السيد ثمامة بن أثال الذي تعود أن يتبعه الناس أن يتحول من سيد إلى تابع مطيع لهذا الدين الجديد دين الإسلام، فعنده إيمان عميق ومن أول يوم من أيام الإسلام. لقد وقف ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه في خشوع أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: (أشهد أنه لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، ثم قال: يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، ووالله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي).

في لحظات تبدلت المشاعر والأحاسيس والأمنيات والأهداف هذا هو الإسلام، وهذه هي نتيجة المعاملة بالحسنى، والجدال بالتي هي أحسن، والرفق والحلم مع الناس. ثم قال ثمامة رضي الله عنه وأرضاه: (يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) يعني: أنه كان ناوياً العمرة بعد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الآن صار مسلماً، فهو يسأل: هل يذهب لأداء العمرة أم لا؟ (فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فلما ذهب إلى مكة) فهو زعيم كبير جداً وكان مقرباً إلى أهل مكة، 

(فلما ذهب إلى أهل مكة وعرف المشركون في مكة أنه قد أسلم، فقال له أحد المشركين: صبوت؟) يعني: تركت العبادة الصحيحة؟ يعني: كما تقول لواحد مؤمن في هذا الوقت: كفرت؟ (فقال ثمامة : لا والله ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم) يعني: ما كنت عليه من عبادة الأصنام هو الباطل، وأنا في هذا الوقت آمنت حقيقة لا صبوت. ثم أخذ قراراً في منتهى الجرأة والأهمية والتضحية، قال مخاطباً زعماء قريش: (لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم)

هذا قرار عجيب جداً، إنه قرار مقاطعة اقتصادية كاملة لأقوى قبيلة عربية في المنطقة قريش، لماذا هذه المقاطعة؟ لأنها معادية للإسلام والمسلمين، هذا قرار فيه جرأة كبيرة جداً، فهو سيواجه قريشاً بكل قوتها ورجالها وسلطانها وعلاقاتها وتاريخها، وهو سيمنع الطعام عن مكة، وكانت اليمامة المصدر الرئيسي لشعير وخبز مكة، كان يطلق على اليمامة ريف مكة.

هذا القرار فيه إيذاء شديد لمصالح مكة، وحصار اقتصادي مريع لمكة، وهو قرار في نفس الوقت فيه تضحية كبيرة جداً من ثمامة ؛ لأنه ليس فقط سيواجه زعماء مكة أو يفقد علاقات مهمة معهم، ولكنه سيفقد كذلك ثروات ضخمة؛ فـثمامة بن أثال تاجر يعتمد في التجارة على البيع والشراء، فهو الآن يقرر رضي الله عنه وأرضاه أن يخسر هذه التجارة، ويخسر هذه الأموال، ويخسر هذه العلاقات، ولكن كل ذلك في سبيل الله؛ 

إذاً: هو ليس بخسران في الحقيقة بل هو رابح ربحاً عظيماً جداً؛ لأنه ترك تجارة المشركين وتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى. يتعلل الكثير الآن بأننا لا نستطيع أن نقاطع أعداءنا؛ لأننا سنفقد ثروات اقتصادية ضخمة وسنخسر مادياً، والمصانع ستقفل، والتجارات ستقف، أقول: هذه طبيعة الحروب، والنصر لا يأتي إلا ببذل وتضحية في سبيل الله؛ لأن هذا الذي نشتريه بجهادنا بأنفسنا وأموالنا هو شيء ثمين ونفيس جداً، إنه شيء اسمه الجنة، فلا بد أن يكون المدفوع في الجنة كثيراً وعظيماً جداً؛ لأنه كما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فأنت تتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى، والثمن الجنة.

فثمامة أخذ قراراً ونفذه بالفعل وتمت المقاطعة وعلم بها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وتركها تحدث دون أن يمنعها، ففي هذا الأمر أبلغ الرد على من يقول: إن المقاطعة بدعة، بل على العكس، المقاطعة سنة تقريرية من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم. والسنة: هي كل فعل أو قول أو تقرير لرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى حدثاً من أحداث الصحابة فيسكت عنه أو يستحسنه أو يقره بكلمة أو بفعل، كل هذا يحول الحدث إلى سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو رأى منكراً لنهى عنه، فهذا الأمر حدث من ثمامة بن أثال وسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره، واستمر ثمامة في المقاطعة إلى أن حدث أمر غريب.

فما هو الذي حصل بعد هذا من أجل أن نفهم معنى السنة ومعنى البدعة؟ الذي حصل أن المقاطعة أثرت تأثيراً مباشراً قوياً حاسماً على زعماء مكة وعلى شعب مكة بصفة عامة، كادت مكة أن تهلك، وفشلت كل محاولات مكة في إقناع ثمامة بن أثال بالعدول عن المقاطعة؛ لأنه أصر عليها وربط رفع المقاطعة بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على إعطاء مكة الشعير من جديد، وقريش لم يكن أمامها إلا حل واحد، وهو حل عجيب، وأبعد حل ممكن نتصوره، بل أبعد حل ممكن تتصوره قريش نفسها.

ماذا عملت قريش؟ لقد أرسلت وفداً إلى المدينة المنورة؛ ليستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لثمامة بمعاودة التجارة مع قريش، هذا الموقف كان بعد شهور قليلة جداً من غزوة الأحزاب، فقريش تنازلت عن كبريائها وغطرستها وذهبت لتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام وتطلب منه وترجوه وتستحلفه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليأذن له بمعاودة التجارة معها، فكتب له صلى الله عليه وسلم ولم يلمه على المقاطعة ولم يقل: هذا غير صحيح أو غير سنة، بل أذن له أن يعطيهم؛ بسبب الأرحام التي سألوه بها صلى الله عليه وسلم. فهذا أمر واضح جداً في السيرة النبوية، وهو أمر يقبله كل عقل وكل شرع؛ لأنه ليس من المعقول أن الناس تحارب الرسول عليه الصلاة والسلام وتذبح المسلمين وتحاصر المسلمين وتجوع المسلمين فإذا ما أخذنا قراراً بعدم الشراء منهم سميناه بدعة، هذا أمر غريب جداً على الفقه والفهم الإسلامي. ولا يخفى علينا في هذا الموقف أن نرى رقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث وافق على إعطاء قريش مع كل ما فعلته مع المسلمين قبل ذلك، وافق على طلب قريش وأمر ثمامة بإلغاء المقاطعة التي كانت بينه وبين قريش.

فهذا الموقف رفع رءوس المسلمين إلى السماء، لم تعد دولة المسلمين دولة ضعيفة مهيضة الجناح، مهددة من هنا وهناك، لا، بل أصبحت دولة منتصرة تبسط سيطرتها على بقاع متعددة في الجزيرة العربية، يرهبها الصغير والكبير، لها قوة اقتصادية، لها علاقات دبلوماسية، في يدها مفاتيح لتغيير الأوضاع في الجزيرة، وللتأثير على الجميع بما فيهم قريش ذاتها. لقد كانت سرية محمد بن مسلمة سرية بسيطة مكونة من (30) فارساً، لكن إذا أراد الله عز وجل بالأمة خيراً فلا راد لفضله سبحانه وتعالى، ويأتي الخير بأهون الأسباب التي يتوقعها المسلم، بل يأتي من حيث لا يتوقع أصلاً، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: ((  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ))  [الطلاق:3]، والنصر ما هو إلا نوع من الرزق، وكثيراً ما يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان.