الخميس، 27 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 27- الطريق إلى الأحزاب-5


أزمة بني النضير


الخامسة: أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام مجموعة من الصحابة، وذهب إلى بني النضير، ليجمع الدية لقتيلي عمرو بن أمية، وأخذ معه أبا بكر وعمر وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولما ذهب إليهم اجتمع اليهود بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأس محمد فيشدخه بها؟ وهكذا حاولوا اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يرون أن المسلمين في أزمة، كانت مصيبة أحد قبل أربعة شهور سبعين شهيداً، وشهداء ماء الرجيع عشرة، وشهداء بئر معونة سبعين، فالمسلمون في أزمة، واليهود أهل غدر وخيانة، فرأوا الفرصة سانحة في أن يقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتخلصوا من دولة الإسلام تماماً، فسألوا: من الذي يقوم بإسقاط رحى على رأسه؟ فقال رجل اسمه عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم أحد زعماء اليهود: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، فانظر إلى أي حد كان اقتناعهم بأنه رسول الله! قال: ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.

لكن حيي بن أخطب زعيم بني النضير وأبو السيدة صفية رضي الله عنها وأرضاها أصر على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبالفعل اجتمع الملأ على ذلك، وقام عمرو بن جحاش بحمل حجر كبير، وصعد فوق البيت ليلقيه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأثناء وهم يتفقون جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما يدبرون، فترك الرسول عليه الصلاة والسلام المكان، وانتقل مباشرة إلى المدينة المنورة، مضى ولم يقل لأصحابه شيئاً؛ حتى لا يلفت الأنظار، واتبعه أصحابه رضي الله عنهم.

ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخبر الصحابة بأن اليهود كانت تدبر مكيدة لقتله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نقض صريح ومباشر للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومن ثم قرر صلى الله عليه وسلم إجلاء بني النضير من المدينة المنورة.

أرسل صلى الله عليه وسلم لهم رسالة يقول فيها: (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً -أي: عشرة أيام- فمن وجدته بعد ذلك ضربت عنقه).

ومع قوة اليهود وبأسهم وسلاحهم وعتادهم وحصونهم وقع الرعب في قلوبهم عندما قرأوا الرسالة، وقرروا الخروج فعلاً، وبدءوا يجهزون العدة؛ ليخرجوا من المدينة المنورة دون قتال.

وعندما نووا الرحيل جاء إليهم رئيس المنافقين عبد الله بن أبي فقال لهم: لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين، يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وقد كان اليهود على عزم أكيد للخروج، ثم ثبتهم في البقاء مجموعة من المنافقين، فالمنافقون خطرهم شديد جداً؛ لذلك يقول رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، المنافق في الظاهر أنه مسلم؛ لكن سوء أعمالهم لا يفكر فيها اليهود أنفسهم، ذهبوا إلى اليهود وثبتوهم وقالوا: إنهم سيحاربون معهم ضد المسلمين إن حدثت حرب، وأنزل الله عز وجل قرآناً يفضح فيه أفعال اليهود والمنافقين.

قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12].

هذا كلام الله سبحانه وتعالى، المنافقون قلوبهم ضعيفة واهنة؛ لأنها بعيدة عن الحق، قلوبهم في الظاهر مسلمة وفي الباطن تكره الإسلام وتتعاون مع اليهود، لكن إن جاء خطر عليهم تنكروا لعهودهم كما يتنكر اليهود، وكما يتنكر أعداء الأمة بصفة عامة لأخلاقهم ولعهودهم.

فهذا الذي حصل تماماً، ثبت المنافقون اليهود، وثبت اليهود بكلام المنافقين ولم يخرجوا، وأرسلوا رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون فيها: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.

وكان الموقف في غاية الحرج، فالرسول عليه الصلاة والسلام مصاب في (150) صحابياً في خلال الشهور الأربعة التي مضت، وسيدخل الآن في حرب كبيرة مع بني النضير، لكن إن سكت سيكون هناك هزة كبيرة لسمعة الأمة الإسلامية، فكان لا بد من أخذ قرار حازم مع مثل هؤلاء، سواء كانوا بني النضير أو غيرهم، لا بد أن يحفظ كرامة الأمة الإسلامية.

وبالفعل جهز صلى الله عليه وسلم جيشاً في ربيع الأول سنة (4هـ)، وانطلق لحصار بني النضير، وضرب الحصار عليها من كل مكان حوالي ست ليال، وفي بعض الروايات خمس عشرة ليلة، لكن الراجح: ست ليال فقط، ثم هزم الله عز وجل اليهود.

إن اليهود وهم في داخل الحصون قد يستمرون داخلها سنين، لأن فيها ثماراً ومياهاً وسلاحاً، فقد يعيشون فترة طويلة، لكن مع ذلك انهزموا بشيء لا يستطيعه البشر، لقد قذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب.

والرعب من جنود الرحمن سبحانه وتعالى، فكيف يخاف اليهود وهم بهذه القوة من المسلمين، مع أن المسلمين في مصابهم الفادح يعانون أشد المعاناة، والحصار قد يطول ويطول على المسلمين؟ لكن مع ذلك استسلم اليهود في ستة أيام، ونزلوا على أمر المسلمين ولم ينفعهم المنافقون، انسحب عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يقاتل معهم كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ((  لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ )) [الحشر:12]. وذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه الكريم بعض صفات اليهود استخلاصاً من هذا الموقف.

قال: ((  لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ))  [الحشر:13-14]. وهذا الشيء ليس خاصاً بيهود بني النضير أو خاصاً باليهود الذين كانوا يعيشون أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي قواعد ثابتة على كل اليهود، ما داموا على يهوديتهم ولم يسلموا فإن الله عز وجل زرع في قلوبهم الرعب والهلع.

قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف حال اليهود: ((  وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا )) [البقرة:96]؛ فحب اليهود للحياة أكثر من المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة أصلاً، فقوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي حياة وإن كانت تعيسة وذليلة ورخيصة، المهم أنه يعيش. ونزل اليهود على أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من ديارهم بغير سلاح يحملون ممتلكاتهم فقط، وأخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم كما وصف الله سبحانه وتعالى في كتابه، ينزعون الأبواب والنوافذ، ويأخذون كل ما يستطيعون أن يحملوه في هذا الخروج.

وبالفعل تركت بنو النضير المدينة المنورة واتجهت إلى خيبر -وخيبر تجمع يهودي كبير في شمال المدينة المنورة- وبذلك انتهت قصة بني النضير من المدينة المنورة. وخرج زعماء بني النضير حيي بن أخطب و سلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وسيكون لهما دور بعد هذا، وسنرى ذلك في الحرب مع المسلمين. ولم يسلم من يهود بني النضير إلا رجلان فقط: يامين بن عمرو و أبو سعد بن وهب ، من خلال ذلك ستعرف معنى كلام الله سبحانه وتعالى: ((  لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ))  [المائدة:82].

وبفضل الله خرج المسلمون من أزمة بني النضير وهم أكثر قوةً وأرفع شأناً في الجزيرة العربية بكاملها، واسترد المسلمون كثيراً من هيبتهم بعد انتصارهم على بني النضير، مع أن بني النضير قبيلة كبيرة لها تاريخ طويل في المدينة المنورة، ولها تاريخ في صناعة السلاح والقلاع والحصون، وإنه لأمر عظيم أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجلاهم بهذه السهولة والبساطة، حاصرهم ست ليال فقط، ثم نزل اليهود على رأيه صلى الله عليه وسلم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق