السبت، 15 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 18- اليهود والدولة الإسلامية-3


ذكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم
مع اليهود لتأليف قلوبهم


عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة حاول أن يرقق قلوب اليهود، وأراد إشعارهم بأنهم فريق واحد من المؤمنين، فعمل شيئين بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.


الأمر الأول: هو اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس، ثبت في البخاري ومسلم أن الرسول عليه السلام توجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً من بداية دخوله المدينة حتى قبيل بدر بقليل كما سنرى إن شاء الله في الأحداث.


وهذه القبلة الواحدة تعطيهم انطباعاً واضحاً أنهم فريق واحد يتجهون إلى قبلة واحدة، فنحن وهم نعبد إلهاً واحداً، ونؤمن بالأنبياء السابقين جميعاً.


بقيت جزئية واحدة فقط، وهي أن اليهود يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مذكور عندهم في الكتب المقدسة لاسيما التوراة والإنجيل، وعندهم علامات وبشارات كثيرة تؤكد أنه هو النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.


الأمر الثاني: صيام يوم عاشوراً.

لما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه).


فالمسلمون واليهود يصومون يوماً واحداً في السنة، وهذا اليوم فيه تعظيم لموسى عليه السلام، بل وتقليد له، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم وأتباعه المؤمنون يقلدون موسى عليه السلام في صيامه لهذا اليوم الذي نجاه الله عز وجل فيه، فكل هذا تقريب للقلوب، ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود، فنحن لسنا أعداء لليهود، فكلنا نعبد إلهاً واحداً.



قصة إسلام عبد الله بن سلام
وموقف يهود بني قينقاع من إسلامه



بدأ صلى الله عليه وسلم في دعوته لليهود، وجمع اليهود مرة ومرتين وثلاثاً، كان يجمع القبائل بعضها مع بعض أحياناً، وأحياناً يخاطب الأفراد صلى الله عليه وسلم.


وجاء إليه أناس من بني قينقاع ومن بني النضير ومن بني قريظة، وأول من جاء إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، كان اسمه الحصين بن سلام رضي الله عنه قبل أن يسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من بني قينقاع، لما سمع بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أراد أن يختبره ليعرف أهو الرسول المذكور في التوراة أو غيره؟


فذهب إليه وقال له: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك) يعني: يكذبونني، يقولون: أنت تقول كلاماً ليس موجوداً في التوراة، (فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت -يعني: اختبأ داخل البيت- فقال صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم ذلك مراراً، فقالوا مثل ذلك.


قال: فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال اليهود: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه).
وفي رواية: (أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه قال لهم: يا معشر اليهود! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله جاء بحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم صلى الله عليه وسلم).


وهنا وضحت الرؤية تماماً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فاليهود كلهم يعرفون تمام المعرفة أنه رسول، ومع ذلك ينكرون.
أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم بعد ذلك مجموعة قليلة جداً من اليهود، أما عموم اليهود فقد ظلوا على كفرهم.

هذا كان موقف بني قينقاع.



موقف بني النضير وبني قريظة
من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم



كان من بني النضير حيي بن أخطب وهو مشهور، وأخوه أبو ياسر بن أخطب، وبنو النضير قبيلة قوية جداً، فيها الكثير من أشراف اليهود، منهم: سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وكعب بن الأشرف.


تحكي أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وأرضاها قصة قدوم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: إن حيي بن أخطب وعمها أبا ياسر بن أخطب ذهبا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح.


تقول: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين -كسلانين- يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ أي: يا ترى أهو الرسول الذي جاء في التوراة؟ قال: نعم.
والله هو، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه، قال: عداوته -والله- ما بقيت.
سبحان الله! وفوق ذلك يحلف ويقول: عداوته -والله- ما بقيت.


بذلك وضح حيي بن أخطب منهج اليهود في التعامل مع الدين الإسلامي الجديد، وهو المنهج الذي ظل سارياً عند اليهود إلى يومنا هذا إلا من رحم الله تعالى.
وهكذا فإن بني النضير بكاملهم لم يسلم منهم واحد.


كذلك بنو قريظة لم يسلم منهم أحد، وهذا موقف عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة لطبيعة هؤلاء البشر الذين يتعاملون مع رسول يعلمون أنه رسول بهذه الصورة، لكنك عندما تراجع قصتهم مع سيدنا موسى عليه السلام، فإنك تستطيع أن تفهم لماذا عملوا هكذا مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق