الأحد، 16 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 20- أهل بدر-1


الدرس العشرون أهل بدر


فرض الله سبحانه الصيام والزكاة والقتال على المؤمنين في شهر واحد، كما أنه أمرهم أن يتجهوا إلى بيت الله الحرام في صلاتهم في هذا الشهر نفسه، وهو شهر شعبان، وكل هذه اختبارات لتمحيص المؤمنين وظهور صدقهم في طاعتهم له سبحانه، وكان فرض القتال استعداداً لمواجهة ستكون بين الحق والباطل في شهر رمضان في غزوة بدر التي حوت أسباب النصر التي كانت تحملها الفئة المؤمنة، وأسباب الهزيمة التي كان يحملها أهل الكفر والضلال.


ملخص مراحل فرض القتال على المسلمين


أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
مع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.


في الدرس السابق تحدثنا عن بعض السرايا والغزوات التي سبقت غزوة بدر، وفصلنا في سرية نخلة، والآثار العظيمة التي عمت الجزيرة العربية بكاملها بعد هذه السرية الكبرى.
هذه السرية كان من جرائها أن غنم المسلمون قافلة كاملة لقريش، وأسر رجلان من قريش وقتل واحد وفر الرابع، وأصبح للمسلمين شوكة واضحة في الجزيرة العربية، وتهديد ظاهر لمصالح قريش ليس حول المدينة المنورة فقط، ولكن في عمق الجزيرة العربية بالقرب من مكة المكرمة.


ذكرنا أن المسافة بين نخلة والمدينة المنورة كانت أكثر من 480 كيلو متراً، وهي مسافة ضخمة جداً جداً وبالذات في الصحراء، أنزل الله عز وجل بعد سرية نخلة بعض الآيات التي برأت ساحة أولئك الذين اشتركوا في هذه السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه ومن معه من الصحابة، ثم أنزل بعد ذلك بعض الآيات التي تفرض القتال على المسلمين، وذكرنا أن القتال كان مأذوناً به قبل هذه السرية، ثم الآن فرض القتال على المسلمين، يعني: لا يجوز للمسلم إن قوتل إلا أن يقاتل.


قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:191 - 193].


وذكرنا أن هذه الآيات كان لها وقع شديد على المشركين واليهود، بل وعلى بعض المسلمين، فهذه أول آيات تفرض القتال على المسلمين، وقتال المشركين أمر متوقع جداً بعد سرية نخلة.


وربنا سبحانه وتعالى قال في هذه الآيات: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، ففيها إعلان صريح يدل على قوة المسلمين وواقعيتهم، إعلان مجابهة القوة الكافرة المعتدية عليهم وهي قريش في كل مكان، هذا الإعلان يدل على أن كل المحاربين من قريش مستهدفون الآن، وأن قريشاً كانت تستهدف المسلمين قبل ذلك في كل مكان، وقد حان وقت المعاملة بالمثل، سيُستهدف المشركون من قريش في كل مكان سواء في المدينة أو في مكة أو في أي قافلة هنا أو هناك، كل هذا فهمناه من الجزئية القصيرة من القرآن المعجز: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191].


إذاً: إعلان صريح للحرب على قريش، وفي نفس الوقت هذه الآية حملت الإصرار على موقف المسلمين في سرية نخلة، نحن لا نعتذر بأي حجج واهية عما حدث في هذه السرية، بل نحن نقول: سيتكرر هذا كثيراً إلى أن تفيق قريش من غيها وتتوب من ظلمها.


في نفس المجموعة من الآيات قال الله عز وجل: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] وهذا تصعيد خطير جداً وصريح، فالمشركون أخرجوا المسلمين المهاجرين من مكة، والآية تدعو المسلمين أن يخرجوا الكفار من مكة أيضاً، {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191]، جملة في منتهى الخطورة، فعلى كفار قريش أن يتوقعوا مباغتة المؤمنين لهم في مكة في أي لحظة، فعليهم أن يعيشوا في رعب الانتظار الآن، وعليهم أن يدركوا أن الأوضاع الجديدة شديدة الاختلاف عن الأوضاع السابقة، عليهم أن يدركوا أن هؤلاء الذين عذبوا لسنوات وسنوات في البلد الحرام مكة، قويت شوكتهم الآن واشتد عودهم، وبلغ تهديدهم للدرجة التي يصرحون فيها بغزو عقر دار المشركين مكة.


في الناحية الأخرى على المسلمين أيضاً أن يكونوا على قدر المسئولية الجديدة، عليهم أن يعلموا أبعاد الخطة الجديدة، عليهم أن يعلموا متطلبات المرحلة الجديدة، فلم يعد هدف المسلمين فقط هو الحفاظ على دينهم وحياتهم، بل ارتفع الهدف إلى الرغبة الصادقة في رفع الظلم تماماً عن كواهلهم، إلى الرغبة الصادقة في نشر هذا الدين في كل مكان، ولو كان هذا المكان هو مكة معقل قريش.


فتحت هذه الآية آفاق جديدة تماماً للمسلمين، سمت بأحلامهم وآمالهم إلى درجة لم يكونوا يتخيلون أنهم سيصلون إليها في هذا الوقت، كل هذه الأحداث وقعت في المدينة المنورة والدولة الإسلامية لم يتجاوز عمرها سنتين. كذلك حددت الآيات بعض التشريعات الخاصة بالقتال في البلد الحرام مكة، قال الله عز وجل: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191].


فالآيات فيها تهديد خطير لقريش، إذ تتحدث وكأن القتال في مكة أصبح أمراً واقعاً وليس مجرد فكرة أو تهديد عابر، بل هو حدث واقعي قريب له أحكام وقوانين، ولاشك أن هذا ألقى الرهبة في قلوب الكفار. تخيل معي أن دولة تتحدث عن الأحكام التي يجب أن تنفذ، وعن التشريعات التي يجب أن تطبق عند دخول عاصمة دولة معادية لها، لا شك أن هذا يدل على شدة الثقة بالنفس، وفي نفس الوقت يدل على أن هناك عزيمة لن تنطفئ حتى يتحقق لها ما تريد.


إذاً: كان هذا هو الوضع بعد سرية نخلة، خلاصة هذا الوضع حتى الآن ونحن نقترب من النصف من شعبان سنة اثنين هجرية: أن المسلمين أعلنوا الحرب صراحة على مشركي مكة، وأن الموقف صار متأزماً جداً، والجميع مؤمنهم وكافرهم يتوقع صداماً مروعاً قريباً بين فريق الحق المتمثل في مؤمني المدينة المنورة وفريق الباطل المتمثل في كفار مكة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق