الخميس، 27 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 28- الأحزاب-4


الجمع في الإدارة بين الرفق والحزم


ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق، ليس هناك من يمشي من غير إذن، والإذن ليس تمثيلاً وليس شيئاً روتينياً لا معنى له، بل إن القائد للعمل الجماعي إن لم يقبل الإذن عندها لا يوجد إذن، ولو أن هذه الطاعة ليست واضحة في ذهن العامل، عندها لا يوجد معنى للعمل الجماعي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي قوله تبارك وتعالى يوجه التعليمات لنا ولنبينا عليه الصلاة والسلام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه أو ترى أن الظرف الذي يواجهه قهري فائذن له؛ لأن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، هذا طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعسف في استخدام هذا الأمر، بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفاً قهرياً طارئاً.

وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقومون به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم معناه الغلظة والجفاء والقسوة، وإنما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام كيف يمكن أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام مع اللطف في المعاملة والرقة في الحديث، بل وبالدعابة والمرح والترفيه! عند لحظة حفرهم للخندق، واشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في نقل التراب، كان ينشد معهم شعر ابن رواحة رضي الله عنه: يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا وكان ينشده بنوع من الغناء، يمد صوته صلى الله عليه وسلم في آخره، ويراهم النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون في البرد والجوع ويقول: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).

وفي رواية: (فاغفر للمهاجرين والأنصار)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أن يقول الشعر، فيرد عليه الصحابة ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا نعم.
هناك حزم ونظام وترتيب وخطة، لكن في جو جميل من الألفة والمحبة والسعادة الحقيقية.

كيف لهذا العمل أن يفشل في هذا الجو؟ لا يمكن.
إذاً: قلنا ثلاث ضوابط مهمة للعمل الجماعي: أولاً: مشاركة القائد لجنوده.
ثانياً: توزيع العمل على الجميع.
ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق.



رفع الهمة ببث الأمل في النفوس

هناك ضابط رابع مهم يجعلك تشعر بأن هذا العمل يمكن أن يكون فرصة النجاح فيه كبيرة، هذا الضابط: رفع الهمة ببث الأمل في النفوس.

لا أنسى أستاذاً كان يختبرني في الكلية امتحاناً شفوياً، ما إن دخلت عليه حتى قال لي: أسألك سؤالاً وأنا متأكد أنك لا تستطيع أن تجيب عنه! لماذا هذا الإحباط؟ لماذا تقتل في الذي أمامك كل أمل في النجاح؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً في كل المواقف الصعبة، وهذا هو منهج حياته صلى الله عليه وسلم، والذي عمله أيام حفر الخندق كان فوق التخيل، ولم يقل لهم: هناك أمل في حفر الخندق، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على الأحزاب الآتية، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على العرب، لا، وإنما كان يرفع همتهم لما هو أعلى من كل أحلامهم، فهو يزرع بداخلهم أملاً في سيادة العالم، وليس في سيادة المدينة أو الجزيرة العربية فقط.

قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة: (باسم الله، الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة) يبشر بفتح الشام في لحظة حفر الخندق، ثم ضرب الثانية فقطع جزءاً آخر من الصخرة، فقال: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن) يقول لهم: أنا أرى قصر الحكم الفارسي ملكاً للمسلمين، ثم ضرب الثالثة فشق بقية الحجر وقال: (الله أكبر؛ أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني).

عظّم من أحلامك، كبّر أهدافك، ليست قضيتنا هي الحصار، ولا قضيتنا هي الدولة الصغيرة التي نحن نعيش فيها، لا، قضيتنا هداية العالمين، قضيتنا حمل هذه الرسالة إلى كل بقاع الأرض، ويبشرهم أن الكلام هذا ليس بأوهام، وإنما سوف يحصل بإذن الله، وسيصل الإسلام إلى فارس والروم واليمن، وسيصل إلى كل بقعة في العالم، قديماً وحديثاً؛ لأن هذا وعد ربنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد؛ ولهذا نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق، ولو كان عندهم يأس وإحباط ما كانوا ليستطيعوا أن يحفروا (20) أو (30) متراً مكعباً فقط، فما بالك في ثلاثمائة ألف متر مكعب.

وحُفر الخندق ونجح المشروع، ومع ذلك لم ينته الامتحان بعد، لا زلنا سندخل في مرحلة الزلزال لنتخلص من كل المنافقين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق