الأحد، 16 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 19- الطريق إلى بدر-9


مرحلة فرض القتال على المسلمين إذا قوتلوا


إلى هذه اللحظة كان القتال مأذوناً به وليس مفروضاً على المسلمين بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أذن للمسلمين أن يقاتلوا إن وجدوا في أنفسهم قدرة على القتال، أو أن يختاروا عدم القتال إن رأوا أن ذلك أفضل.
والآية التي أقرت هذا التشريع: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39].
لكن الوضع في هذا الوقت تغير، فالإذن جاء في زمان القتال فيه محتمل، أما الآن فالقتال ليس محتملاً فقط، بل متوقعاً وقريباً جداً يكاد يكون حتمياً.


فلو حدث قتال بالصورة التي نتخيلها من جانب قريش المهزومة في كرامتها، المجروحة في كبريائها، وبمساعدة اليهود الغادرين في داخل المدينة المنورة، كيف سيكون الموقف؟ سيكون الموقف في غاية التأزم، فلا ينفع هنا مجرد الإذن بالقتال، بل يجب أن يفرض القتال على المسلمين لدفع شر هؤلاء الأعداء؛ لأن الإذن سيسمح للبعض بعدم المشاركة، وسيفتح للشيطان أبواباً كثيرة يدخل منها إلى قلوب الضعفاء فيصور لهم صعوبة القتال، وستقاتل قريش مجتمعة مع اليهود، وستقاتل مجتمعة مع قبائل العرب، وهذا أمر صعب، فلا يمكن للمسلم في مثل هذه الظروف أن يؤاثر الدعة ويتجنب القتال.


لكن إن فرض القتال على المسلمين فرضاً فإنهم سيعتبرونه كالصلاة والزكاة، ويعتبرونه واجباً ينفذ، وبذلك تغلق أبواب الشيطان، وستقل حتماً نسبة التخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولن يكون التخلف إلا من الضعفاء أو المنافقين، وهؤلاء لا نريدهم في المعركة.
نتيجة لهذه الظروف ينزل الله التشريع المحكم بالقانون الجديد المناسب للمرحلة الحالية.


المعاني المستنبطة من آيات القتال


فرض سبحانه القتال على المسلمين إذا قوتلوا، وليس للمسلمين اختيار في قضية دفع المشركين إذا هجموا عليهم، بل لا بد من الدفاع حتى الموت، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ} [البقرة:216].
فلم يعد القتال مأذوناً به فقط، بل صار مكتوباً -أي: مفروضاً- على المسلمين، ونزل أيضاً قول الله عز وجل الذي يوضح سبب القتال في هذه المرحلة، وبعض الأحكام الخاصة بالقتال.


قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190 - 193] سبحانه الله.

نريد أن نقف وقفات طويلة مع هذه الآيات، ونريد أن نتصور حال المسلمين وحال غير المسلمين عند نزول هذه الآيات.


كراهية الناس عامة للقتال


حملت هذه الآيات تشريعاً جديداً يحتاج إلى نفوس إسلامية خاصة للعمل بهذه الآيات، ويحمل في نفس الوقت رسالات في منتهى الوضوح إلى المشركين في مكة، وإلى المشركين في خارج مكة، وإلى اليهود كذلك.


تعالوا نعيش مع أهل هذه المرحلة، ونراقب رد فعلهم لهذه الآيات: أولاً: الناس بصفة عامة تكره الحروب والقتال، ولا يختلف اثنان في أن الحروب تأتي بالدمار والخراب وإزهاق الأرواح، ونحو ذلك من أشياء تورث الحزن والكراهية؛ من أجل هذا ربنا يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].


لكن ليس معنى هذا: أن القتال إذا تعين على المسلمين لهم أن يتركوه لأنه مكروه، بل بعض المسلمين يصلون إلى درجة من الرقي في الإيمان في حبهم للموت مع أنه مكروه، يتمنون هذا المكروه من أجل إرضاء الله سبحانه وتعالى.


ولقد مر بنا قول الرسول عليه السلام: (لوددت أن أغزو في سبيل الله) وفي رواية: (لوددت أن أقتل في سبيل الله).
وسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.


الموت مع أنه مكروه بصفة عامة، إلا أنه أصبح محبوباً إلى خالد رضي الله عنه وإلى جيشه، وما ذلك إلا لأنه في سبيل الله، فليس معنى القتال مكروه: أننا نقعد عنه، بل على العكس، كلما ارتقى المسلم في سلم الإيمان أحب هذا المكروه ما دام في سبيل الله.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق