السبت، 15 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 18- اليهود والدولة الإسلامية-2


تابع
طبيعة اليهود وكيفية تعاملهم مع المسلمين


وتحدث رب العالمين سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن موسى عليه السلام، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن (136) مرة، منها (122) مرة في القرآن المكي، تركيز وتكثيف كبير جداً على قصة موسى عليه السلام، ومعظم قصة موسى مع فرعون، وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان هذا موجوداً.


إجمالاً: ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى أنه أعطى بني إسرائيل كثيراً وكثيراً، حتى قال سبحانه وتعالى في القرآن المكي: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وهناك آيات كثيرة تشبه هذا المعنى.


ووصف رب العالمين سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأنهم صبروا، قال سبحانه وتعالى: (( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ )) [الأعراف:137].


إذاً: ذكر بني إسرائيل بهذا اللفظ فقط، والتركيز على قصة موسى مع فرعون، والتحدث عن صبر بني إسرائيل، وخطاب الأمر للمسلمين بالتعامل مع أهل الكتاب الذين منهم اليهود بالتي هي أحسن: (( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) [العنكبوت:46]، كل هذا أدى إلى انطباع إيجابي للمسلمين عن اليهود، وفي الأخير فإن اليهود أهل كتاب، ويؤمنون بالإله الواحد، ويؤمنون بالرسل وبالكتب السماوية، ويتوقعون ظهور نبي.

من الطبيعي جداً في الحسابات المادية عند المسلمين أنه ما إن يسمع اليهود فكرة الرسالة والنبوة سيؤمنون بها؛ لأنهم يؤمنون بفكرة الرسول صلى الله عليه وسلم أساساً، فهذا كان شيئاً متوقعاً؛ من أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ترك هذه الانطباعات الإيجابية للمسلمين؛ حتى يعطي الفرصة للمسلمين أن يتحاوروا ويتناقشوا ويتجادلوا بالتي هي أحسن مع اليهود؛ فيكسبوا قلوب اليهود إلى دولة الإسلام، ولا شك أن في هذا نصراً كبيراً للدعوة، واستنقاذاً لعدد ضخم من البشر من النار، كان هذا في أول الأمر.


لكن في نفس الوقت فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن المكي ذكر بعض الأمور التي تركت انطباعاً سلبياً عند المسلمين عن اليهود، مثال ذلك: عندما يتحدث ربنا سبحانه وتعالى عن اتخاذ قوم موسى عليه الصلاة والسلام للعجل من دون الله عز وجل: (( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ )) [الأعراف:148] هذا في القرآن المكي.


فعرف الصحابة أن الذين عبدوا العجل هم أجداد هؤلاء الذين يعيشون في المدينة، قبلوا أن يسجدوا للعجل من دون الله لما تأخر عنهم موسى عليه السلام مدة أربعين يوماً، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منذ ثلاث عشرة سنة في مكة لم يفكروا مطلقاً بأي صورة من الصور في أي عمل فيه شرك، فبمجرد ما إن فهموا حقيقة العبودية لله عز وجل أصبحت حياتهم كلها مستقيمة لله، فكان بالنسبة لهم تصور غريب جداً أن هناك أناساً يؤمنون برسول وإله، ويكون تعاملها مع قضية العبودية بهذه الصورة.


أيضاً رأينا في القرآن المكي قول الله عز وجل: (( قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا )) [الأعراف:129] فكيف يكون سوء الأدب إلى هذه الدرجة مع موسى عليه السلام الذي يجله الصحابة وما رأوه؟!


وغير هذا كثير جداً في الآيات الكريمة، وراجع القرآن المكي وانظر قصة بني إسرائيل، فإنك ستجد قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وكذلك ستجد قول الله عز وجل: (( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )) [الأعراف:138]، وستجد: (( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ )) [الإسراء:4] فاليهود قوم يحدثون فساداً في الأرض، وقد قال رب العالمين: (مرتين) فربنا سبحانه وتعالى العليم بهم قال: (( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا )) [الإسراء:8]. يعني: قد يرجعون مرة أخرى، فهل سيعودون مرة أخرى للفساد في المدينة أو لا؟ القضية تحتاج إلى إجابة.


بهذه المشاعر دخل الصحابة الكرام ومعهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، واليهود أهل كتاب مثلنا، وأتباع نبي مثلنا، ويؤمنون بإله واحد مثلنا، ومع ذلك فهم على حذر؛ لأنهم قوم سيئو الأدب مع الأنبياء، متمردون على طاعة الله، متحايلون على الشرع، مختلفون بعد العلم، ناكرون للجميل، كافرون بالنعمة ..
وهكذا.


إذاً: فهناك انطباعات إيجابية عند المسلمين، وفي نفس الوقت هناك انطباعات سلبية، هناك نظرة متوازنة، فعندهم أمل كبير في إسلام اليهود، لكن في نفس الوقت يعيشون على حذر تام من مكر اليهود.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق