الأربعاء، 19 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 22- نصر بدر-9


أبو جهل


الجندي التاسع من جنود الرحمن وهو من أعجب الجنود، هذا الجندي هو أبو جهل، فـ أبو جهل هو الذي دفع المشركين دفعاً إلى حتفهم، دفعهم للخروج من مكة، ودفعهم للقتال حتى مع إفلات القافلة، ودفعهم للقتال حتى مع اعتراض الجميع في أرض بدر، وقهر أمية بن خلف للخروج ليموت، وقهر عتبة بن ربيعة للقتال ليموت، ولم ير ما رآه جميع أهل قريش، بل طمس على بصيرته وأعان على هلاكهم.


وكما دفع فرعون جنده للدخول في البحر ليهلكوا فعل ذلك أبو جهل، ولو تعقل لما قتل هذا العدد الهائل من قادة الكفر وأئمة الضلال، ولو تعقل لما كان يوم الفرقان، ولو تعقل لما حدثت الآثار المجيدة التي سنتكلم عنها إن شاء الله في الدرس القادم لغزوة بدر.

وما كان لـ أبي جهل أن يتعقل، فما هو إلا جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى شاء أم أبى، فالله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى لو كان أبو جهل يساعد المسلمين على تحقيق مراد الله سبحانه وتعالى.


إبليس

الجندي العاشر والأخير جندي أغرب من أبي جهل وأعجب، هذا الجندي هو إبليس نفسه، فالشيطان اجتهد كل الاجتهاد ليدفع المشركين دفعاً إلى القتال، ولم يكتف بالوسوسة، بل تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك سيد بني كنانة؛ ليجيرهم من بني بكر، وخرج معهم كذلك بصورة سراقة بن مالك، ودخل معهم أرض بدر، وثبت للقتال معهم حتى رأى الملائكة فعرفهم، فقد كان يعبد الله معهم قبل أن يكفر، فلما عرف أن الموضوع خرج من يديه قرر الهروب، ورآه أحد المشركين الحارث بن هشام، وهو يهرب، وكان يظن أنه سراقة بن مالك فأمسكه وقال له: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا لا تفارقنا؟ فقال له إبليس: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]، وفرّ بنفسه حتى ألقى نفسه في البحر،


وأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48]، في صورة سراقة بن مالك، {فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]، وطبعاً هذا شيء متوقع، فالشيطان يعد الناس ويمنيهم، ثم يتركهم عند الأزمات، واللوم لا يقع على الشيطان فقط، بل يقع أيضاً وبصورة أكبر على من اتبعوه، وهذا كلام الشيطان نفسه، واسمع كلام ربنا سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم، قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22]، أي: لن أنفعكم ولن تنفعوني، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].


نعم، هذا الكلام والحوار سيكون يوم القيامة، لكنه بالتأكيد يحصل في الدنيا كثيراً، فكم دفع الشيطان أناساً إلى نهاياتهم، ثم تبرأ منهم وتركهم.
قد يكون الشيطان سبباً من أسباب نصر المسلمين، ومن المؤكد أن الشيطان لو عرف أن النصر سيكون حليف المسلمين في بدر؛ لما دفع قريش للحرب، لكن لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.


هذا كان الجندي العاشر من جنود الرحمن سبحانه وتعالى، فتلك عشرة كاملة، وجنود الله أكثر من هذا بكثير: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4]، ففي الغزوات الآتية سنتعرف على جنود أكثر وأكثر.


نقول: إن كل كلامنا الذي مضى يصب في معنى واحد مهم، وهو المعنى الذي ظهر لنا في كل كلمة من كلمات درس هذا اليوم، هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، وبهذا نفهم الآية التي جاءت في سورة الأنفال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:17].


فالمسلمون يحملون السيوف ويقاتلون، لكن جنود الرحمن العجيبة هي التي حققت النصر، مع اعتراف الجميع بأن الناصر هو الله عز وجل، وهو الذي أكمل لهم هذا النصر العظيم.



فهم الصحابة رضي الله عنهم أن النصر من عند الله


وسأختم كلامي هذا اليوم ببيان فهم الصحابة لنصر بدر، وسأختار كلمتين لاثنين من الصحابة الكرام.

الكلمة الأولى: لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد رحمه الله، قال فيها تعليقاً على قتل المشركين الثلاثة الذين قتلوا في أول مبارزة في بدر.


قال: فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، مع أن علي بن أبي طالب كان من الذين اشتركوا في قتل هؤلاء الثلاثة، إلا أنه لا ينسب ذلك لنفسه أبداً، بل ينسبه لله تعالى، قال: فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.


الكلمة الثانية: لـ عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، وهي في مسند الإمام أحمد بن حنبل وفي الصحيحين، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم الله العدو.
فهذا الفهم هو الذي حقق لهم النصر.


وحين نعرف أن النصر لا يكون إلا من عند الله، فإننا سنجده قريباً إن شاء الله.
ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق