الخميس، 27 فبراير 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 27- الطريق إلى الأحزاب-4


أزمة بعث بئر معونة


جاء عامر بن مالك أحد زعماء بني عامر؛ ليقدم هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل ذلك نوعاً من التقارب بين القبائل وليس طمعاً في الإسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أسلمت؟ قال: لا.

قال: فإني لا أقبل هدية من مشرك، قال: فإن القوم يرغبون في الإسلام فابعث معنا من يعلمهم الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال عامر: فإني جار لهم) أي: إني أجيرهم من بني عامر، وبنو عامر هم معظم أهل نجد، فوافق الرسول عليه الصلاة والسلام، ولأن قبيلة بني عامر كانت قبيلة كبيرة وأهل نجد هم مجموعات هائلة من القبائل، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة كبيرة من الصحابة يعرفون بالقراء، كلهم كانوا يقرءون القرآن ويتدارسونه ليل نهار، كانوا من خيار الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم أجمعين، وكان تعدادهم سبعين صحابياً، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الخزرجي رضي الله عنه.

وكان هؤلاء السبعون معظمهم من الأنصار، وأخرجهم صلى الله عليه وسلم ليقوموا بدعوة هذه القبائل الكبيرة للإسلام، وخرجوا في جوار عامر بن مالك زعيم بني عامر.

وفي الطريق وبعد أن وصلوا إلى منطقة تعرف باسم بئر معونة عسكروا فيها، وهي بئر بين بني عامر وبين بني سليم، فنزلوا هناك وبعثوا أحد الصحابة وهو حرام بن ملحان برسالة إلى عامر بن الطفيل ابن أخي عامر بن مالك وكان عامر بن الطفيل رجلاً شريراً آثماً غادراً، وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم قصة قديمة.

كان قد جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرض عليه أمراً قال: (أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك، أو أن أغزوك بأهل غطفان) يعني: يهدده، فرفض الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المطالب جميعاً وردها.

فلما بعث الصحابة حرام بن ملحان برسالة يدعونه فيها إلى الإسلام، أشار الغادر عامر بن الطفيل إلى أحد رجاله -مع أن الرسل لا تقتل- أن يطعنه من ظهره، فجاء الرجل بحربة كبيرة وطعنه من خلفه فأنفذها حتى خرجت من صدره رضي الله عنه، ولما اخترق الرمح ظهر حرام بن ملحان وخرج من صدره وأدرك أنه ميت -أخذ الدم الذي يتفجر من جسده بيديه، وبدأ يمسح به وجهه ورأسه ويقول: فزت ورب الكعبة فزت ورب الكعبة.

سبحان الله! تخيل في هذا الموقف شاباً مثل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه يُطعن هذا الطعن، وكل الذي يفكر فيه هذا الوقت أنه مات في سبيل الله عز وجل شهيداً، فقال: فزت ورب الكعبة.

إنه لمنظر بديع، منظر يعبر عن صدق النوايا في القلب، يعبر عن الثبات إلى آخر اللحظات حتى في أشد المواقف صعوبة، كثير من الناس تهتز عند لحظات الموت، لكن {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

وأدهش الموقف كل الحضور، حتى إن جبار بن سلمى الذي طعن حرام بن ملحان في ظهره حين سمع ذلك، قال: فقلت في نفسي: ما فاز؟ ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ فقال له الناس حوله: يقول المسلمون: إن هذه شهادة، فسأل جبار بن سلمى عن ذلك حتى عرف أمر الشهادة في الإسلام، وذهب إلى المدينة المنورة يسأل عن ذلك، وكان ذلك سبباً في إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.

هذا الموقف خطير، ويجعلنا نسأل سؤالاً: هل الشهيد يتألم مثل ما نحن نتألم؟ يا ترى! بعد الطعنة التي دخلت في ظهره وخرجت من صدره يستطيع أن يفكر ويزن الأمور، ويقول كلاماً في منتهى الحكمة مثل هذا الذي قاله؟ يرد علينا الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول في الحديث: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)، لما تقرصك حشرة أو ناموسة أو غيرها من الحشرات هذه القرصة التي تشعر بها أنت يشعر بها الشهيد، حتى ولو كان مطعوناً أو مضروباً بسيبف أو أطلق عليه صاروخاً، لا يشعر الشهيد إلا بمثل ألم القرصة، ونحن نوقن بذلك تماماً كما صور الحديث صلى الله عليه وسلم.

إذاًَ: كان هذا أول الغدر، قتل حرام بن ملحان رضي الله عنه، ثم قام عدو الله عامر بن الطفيل باستنفار بني عامر لقتال المسلمين في بئر معونة، فرفض بنو عامر وقالوا: لا نخفر ذمة عامر بن مالك، فإن عامر بن مالك كان قد أجار المسلمين من بني عامر، فقام عامر بن الطفيل باستنفار بني سليم، فأجابته بعض البطون من بني سليم: عصية ورعل وذكوان، وجاءت هذه القبائل وأحاطت بالمسلمين الذين في بئر معونة، وقاتل المسلمون جميعاً حتى قتلوا إلا واحداً منهم أصيب إصابات بالغة، وظنوا أنه قتيل، هو كعب بن زيد رضي الله عنه، وبعد سنة واحدة تقريباً قتل شهيداً رضي الله عنه وأرضاه في يوم الخندق.

فهذه إصابة ضخمة في الأمة الإسلامية، وكل هذا بعد حوالي أربعة شهور من أحد، ففي أحد مات سبعون، وفي ماء الرجيع مات عشرة، وفي بئر معونة مات سبعون، أي: مائة وخمسون صحابياً رضي الله عنهم وأرضاهم فقد تهم الأمة، نحن نتكلم على الأمة في بدء نشأتها، فهذه الأرقام أرقام مؤثرة جداً في جيل الصحابة رضي الله عنهم. 

وهؤلاء السبعون الذين استشهدوا في بئر معونة هم مجموعة من خيار الصحابة، من القراء والعلماء، من الذين يعلمون الناس الدين، فكانت إصابة بالغة للدولة الإسلامية. وصادف مع قتل هؤلاء السبعين مرور عمرو بن أمية الضمري و المنذر بن عقبة رضي الله عنهما، فلما رأوا هذه المأساة نزلا ليساعدا المسلمين في حربهم، فأمسك بهما المشركون وقتلوا المنذر بن عقبة .

أما عمرو بن أمية فقد أمسك به عامر بن الطفيل زعيم هؤلاء المجرمين، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه، نذرت نذراً أن تعتق رقبة، فأخذه كأسير ثم أعتقه، ورجع عمرو بن أمية ليخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بمأساة بئر معونة، وفي الطريق استظل تحت شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب -فرع من فروع بني عامر- فجلسا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو بن أمية ، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، لكن بعد أن قتلهما وجد معهما عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ لهما الأمان وهما من المشركين، فلما قدم إلى المدينة المنورة أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بأمر بئر معونة، وأخبره بأمر قتل الرجلين من بني عامر.

انظروا إلى رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! لقد كان آية من آيات السمو الأخلاقي، هذه القصة نريد أن نطير بها إلى الآفاق؛ لنتعلم المنهج الإسلامي في التعامل مع الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد قتلت قتيلين، لأدينهما) سبحان الله! تخيل.

الرسول عليه الصلاة والسلام سيجمع الدية لهذين القتيلين، مع أن نبأ قتل هذين القتيلين جاء مع خبر استشهاد سبعين من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في بئر معونة، ومع هذا الخبر المؤلم إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في هذين القتيلين اللذين قتلا بغير وجه حق، فلا بد أن يعطي الدية لأهلهما.

كان خبر بئر معونة مأساة ضخمة، فقد مكث الرسول عليه الصلاة والسلام يقنت في صلاته ويدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية شهراً كاملاً، وليس في الفجر فقط، بل كان يدعو في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأنها كانت أزمة خطيرة جداً. وفي نفس الوقت كان المسلمون في حالة من الفقر الشديد، ليس معهم ما يكفي لدفع الدية، وأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفي بالعهد ويجمع الدية، فبدأ يجمع من المسلمين قدر المستطاع لكن لم يكف ذلك، فأراد أن يذهب إلى اليهود،

فقد كان العهد الذي بين المسلمين وبين اليهود في أول دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة يقضي بأنه إذا وقع أحد الأطراف في قضية من قضايا الدية، ولم يستطع أن يدفع الدية، على الطرف الآخر أن يعاونه في دفع هذه الدية، فلم يستطع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجمع من المسلمين، فذهب إلى يهود بني النضير، وكان هذا مقدمة الأزمة الخامسة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق