الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-7


الأعمال النبوية التي قام بها صلى الله عليه وسلم
بعد وصوله إلى المدينة المنورة



لابد أن تركز على الترتيبات النبوية بعد وصوله مشارف المدينة، أول شيء فعله كذا ثم كذا ثم كذا، فهذا الترتيب مقصود، وكل الإشارات في حياته صلى الله عليه وسلم لها معنى، بل كل حركة وسكنة في حياته كانت بتوجيه ومراقبة من رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى اختياراته البشرية صلى الله عليه وسلم التي كانت لا تتوافق مع ما يريده رب العالمين سبحانه وتعالى؛ كان ينزل جبريل عليه السلام مباشرة ليعدل المسار للرسول صلى الله عليه وسلم، وليوضح لهم مراد رب العالمين سبحانه وتعالى من هذه النقطة، فأصبحت السيرة النبوية من أولها إلى آخرها بوحي وتأييد من رب العالمين سبحانه وتعالى.


ولا وصول إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا باتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالترتيب الذي فعل صلى الله عليه وسلم.



بناء مسجد قباء وبعده المسجد النبوي وأهمية ذلك


أول الخطوات إنشاء مسجد قباء، فقد ظل صلى الله عليه وسلم في قباء أسبوعين تقريباً، وانتقل بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وسنرجع إلى النقطة هذه بعد قليل.


في المدينة المنورة استُقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار استقبالاً كبيراً جداً ومشرفاً مرة أخرى، بعد أسبوعين من انتقاله من قباء، وتسابق الأنصار جميعاً بشتى قبائلهم على استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد من الأنصار يريد أن تأتي ناقته صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فكل فرد من الأنصار يريد أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كلمة أصبحت منهجاً لحياة الصحابة بعد ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة).


أي: دعوا الناقة فإنها مأمورة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنا أيضاً مأمور، والمؤمنون جميعاً مأمورون: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يختار إذا كان الله هو الذي يختار له أمراً من الأمور، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد أجلس في بيت فلان أو بيت فلان، أو بيت أقربائي من بني النجار، أو بيت صحابي كبير، أو أحد ممن أحبهم، لكن إذا أمر الله عز وجل فلا مجال للهوى ولا مجال للاختيار، فالذي يأمر الناقة هو رب العالمين سبحانه وتعالى، وعلينا جميعاً أن نسمع ونطيع؛ هكذا علمهم بوضوح، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ليقول للرسول عليه الصلاة والسلام: انزل في بيت فلان، أو ضع المسجد في هذا المكان الفلاني، لكن هذا المشهد العلني أمام الجميع، والجميع يتسابق لاستقباله صلى الله عليه وسلم، وهو يخرج نفسه تماماً من الاختيار ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين، هذا المشهد زرع معنى مهماً جداً، سيظل معنا طول فترة المدينة المنورة، وما أكثر التشريعات والأحكام التي نزلت في المدينة المنورة، وقد لا يفقهها عامة الناس، وقد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين، وبركت الناقة في مكان معين في المدينة المنورة، وفي هذا المكان قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي.


فأول شيء فعله صلى الله عليه وسلم في قباء هو بناء المسجد، وأول شيء فعله في المدينة المنورة بناء المسجد النبوي، وفعله هذا ليس مصادفة أو إشارة عابرة، بل هو منهج أصيل.


فلا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل لدور المسجد؛ فالمساجد في هذا الوقت كثيرة، لكن كثيراً منها غير مُفعّل كمسجد، مخطئ من ظن أن المسجد لم ينشأ إلا لأداء الصلوات الخمس فقط، بل في بعض الدول الإسلامية يُقفل المسجد مباشرة بعد الصلاة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط.


إن دور المسجد في بناء الأمة الإسلامية أعمق من ذلك بكثير، وليست أهمية المسجد في حجمه أو شكله أو زخرفته أو قص الشريط لفتحه، هذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، وكان يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، ولفظ ابن خزيمة: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، تجد المساجد ضخمة وكبيرة جداً وتجد فيها صفاً أو صفين! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أُمرت بتشييد المساجد) والتشييد: رفع البناء زيادة عن الحاجة، وقال في رواية أبي داود: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)، نهتم بالشكليات كالرخام والزخارف وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية داخل المسجد.


والمسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية، من ذلك: الحفاظ على إيمان المسلمين، فالأساس الرئيسي الذي اجتهد صلى الله عليه وسلم في زرعه في صحابته هو الإيمان بالله عز وجل، والمسجد كما يظهر من اسمه هو مكان للسجود لرب العالمين سبحانه وتعالى، للرضوخ الكامل له، والطاعة المطلقة لكل أوامره.


فمن الصعب جداً أن يجلس المسلمون في بيت الله عز وجل؛ ليأخذوا قراراً أو يعتمدوا رأياً، ثم هم يخالفون ما أراده الله عز وجل منهم.


والمسجد مكان يحفظ على المسلمين دينهم؛ ولهذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، فالصلاة في المسجد لا ينبغي التخلف عنها إلا في ظروف ضيّقة ومحدودة؛ لأن المسجد مكان لالتقاء المسلمين وتقوية للأواصر بينهم، فعدم الحضور لصلاة الجماعة في المسجد عمل لا يقوي الأواصر بين المسلمين، فأنت إذا كنت تحافظ على الصلاة خمس مرات في اليوم، فستكون علاقتك بأخيك المسلم الذي تراه في المسجد خمس مرات في منتهى القوة، فإذا أصابه مرض أو مشكلة أو أزمة عرفت ذلك بسهولة، فالمسجد يقوي وينمّي الروابط والأواصر بين المسلمين، كما أنه يذيب الفوارق بينهم، فالحاكم بجوار المحكوم، والوزير بجوار الغفير، يتعاون فيه المسلمون على البر والتقوى، دون النظر إلى الفوارق الطبقية التي بينهم.


والمسجد مدرسة لتعليم المسلمين كل أمور حياتهم، كما أنه مكان لقيادة الأمة.
فزعماء الأمة الإسلامية في زمن ازدهارها كانوا دائماً مرتبطين بالمسجد، فعدم دخول زعماء الأمة المسجد إلا في المناسبات فقط مأساة كبيرة، فإن صلاح الدين الأيوبي كان يصلي في المسجد، وكذلك نور الدين محمود و عبد الرحمن الناصر و عبد الرحمن الداخل ويوسف بن تاشفين ، وأي بطل من أبطال الإسلام والمسلمين، وأي قائد رفع رأس الأمة فترة من الزمان كان مرتبطاً بالمسجد، وأي واحد يتخلى عن المسجد أبى الله عز وجل إلا أن يخزيه في الدنيا والآخرة.


إذاً: سياسة الأمة الإسلامية كلها في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كانت تُدار من داخل المسجد، تسيير الجيوش من داخل المسجد، قرارات الحرب من داخل المسجد، المعاهدات من داخل المسجد، استقبال الوفود في داخل المسجد، القضاء في المسجد، مقر الحكم في الإسلام وبيت الحكم هو بيت الله سبحانه وتعالى المسجد. كذلك كان المسجد مكاناً لإعلان أفراح المسلمين، ومكاناً لتربية الأطفال، ومكاناً للترفيه الأدبي، كذلك كان المسجد مأوى للفقراء وعابري السبيل، ومكاناً لمداواة المرضى، هذا كله له أدلة كثيرة في السيرة النبوية، وله مواقف كثيرة، والوقت لا يتّسع ويحتاج إلى محاضرات لتفسير دور المسجد في حياة المسلمين؛ لأن كل جزئية من جزئيات الحياة للمسجد فيها دور.


وليس معنى هذا أنني أحول المسجد الآن إلى مستشفى ودار ضيافة ومحكمة ووزارة، ليس هذا هو المقصود، إنما المعنى الذي يجب ألا يغيب أبداً عن الذهن هو أن تربية المسجد أساسية في إدارة كل هذه الهيئات، والذي لا يعرف لله حقه لن يعرف للخلق حقوقهم، والذي ليس له ضوابط من الشرع لن تكون هناك حدود لظلمه وفساده وضلاله في الأرض، والذي لا يعرف طريق المسجد لا يعرف طريق الحق والعدل والأمانة والشرف.


هذه المعاني السابقة تعرفنا بوضوح المعنى العميق الذي ذكره ربنا سبحانه وتعالى في الآية القرآنية: (( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا )) [البقرة:114]


فمن منع الناس من تفعيل دور المسجد لم يؤثر فقط على المصلين في المسجد، ولكن يؤثّر على المجتمع بكامله؛ لذلك عظّم الله عز وجل من شأن هذه الجريمة فقال: (( أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) [البقرة:114]. فأول شيء فعله الرسول عليه الصلاة والسلام في بناء دولته أن بنى مسجد قباء في قباء، وبنى المسجد النبوي في المدينة المنورة.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-6


وقفة مع لحظة التمكين 
لرسول الله صلى الله عليه وسلم



قبل أن نعرف ما الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، أريد أن أقف وقفة وأقول: إن لحظة التمكين قد تكون قريبة جداً، راجع معي الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات.

قبل ثلاث سنوات من الهجرة كان عام الحزن الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة رضي الله عنه وأرضاها، وأظلمت مكة تماماً، وأُغلق فيها باب الدعوة، حتى اضطر الرسول عليه الصلاة والسلام لأول مرة في تاريخه أن يخرج من مكة المكرمة سعياً وراء إيصال الدعوة إلى غيرها؛ لأنه لم يجد أحداً في مكة المكرمة سيؤمن في تلك اللحظة، وخرج صلى الله عليه وسلم في مشوار طويل شاق جداً إلى الطائف، وتعلمون جميعاً ما حدث في الطائف، وخرج منها صلى الله عليه وسلم وقد رُمي بالحجارة وأُلقي التراب فوق رأسه وسُب بأقبح الألفاظ، ودخل مكة بعد ذلك في جوار مشرك وهو مطعم بن عدي، والمحلل للوضع يجد أنه من المستحيل حقاً في عرف أهل الدنيا وفي حسابات المادة أن تقوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين المضطهدين المشردين المعذبين في داخل مكة المكرمة دولة، ولو بعد عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة.



وراجع مرة أخرى الفترة المكية لتعرف صعوبة هذه الفترة، لا يوجد فيها أي أنصار من أي نوع، رفضت مكة الإيمان، ورفضت الطائف الإيمان، ورفضت كل القبائل التي أتت في العام العاشر والعام الحادي عشر من البعثة جميعاً الإيمان بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل من كل الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم الإيمان إلا ستة من الخزرج في آخر العام الحادي عشر من البعثة، كانت هذه الأحداث قبل الهجرة بسنتين، وفي غضون سنتين أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً لدولة، ومع أن الدولة بُقعة صغيرة لا تُرى على خريطة العالم في ذلك الوقت في المدينة المنورة، لكن أصبحت له دولة وأصبح ممكناً وزعيماً، وأصبح الجميع يسمع له ويطيع.


سبحان الله! حصل هذا بدون أي نوع من الشواهد، لم نكن نرى أي شاهد، لكن إذا قارنت هذا الوضع بما نحن عليه الآن في عصرنا هذا فإنك ستجد أن الشواهد لإقامة الأمة الإسلامية كثيرة جداً، راجع ثلاثين سنة أو أربعين سنة مضت كيف كان وضع المسلمين ووضعهم حالياً بفضل الله؟ كم من الناس يصلون الآن في المساجد؟ ففي الستينات لم يصل من الناس في المساجد إلا عدد قليل نادر، وتجد المصلي كبيراً جداً في السن، وانظر الآن إلى المساجد بحمد الله، فإنك ستجد عدد المصلين هائلاً وبالذات من الشباب.


كم من المحجبات والملتزمات بالزي الشرعي؟ كم من الدعاة أصحاب الفهم الصحيح الشامل للإسلام انتشروا في بقاع الأرض بكاملها؟ كم من الهيئات تتبنى الآن شئون الإسلام؟ بل انظر إلى كم من المتسلقين الراغبين في السيطرة على أفكار الناس يلوحون بالإسلام وينافقون المسلمين؟ فمن ثلاثين إلى أربعين سنة لم يكن هناك شيء اسمه نفاق للإسلام؛ لأن الإسلام كان ضعيفاً، أما في هذا الوقت فإن الجميع ينافق المسلمين، وإذا رأيت الرجل ينافق الإسلام أو ينافق المسلمين فاعلم أن الإسلام قوي وقاهر، وأن له حضوراً وهيبة وعظمة في قلب هذا الذي ينافق؛ ولذلك ينافقه، وبفضل الله الآن لو راجعنا قلوب ومشاعر العالم الإسلامي بصفة عامة تجد فيها انسياقاً طبيعياً فطرياً للإسلام.

أيضاً عند الانتخاب مثلاً تجد الناس يختارون من رفع لواء الإسلام وشعاره، وإن كانوا لا يعرفون اسمه؛ وذلك لأنه يتبنى الفكر الإسلامي الذي يحبه الناس، فهذه كلها علامات وشواهد على قرب قيام الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بإذن الله.



أما أيام الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن هذا موجوداً في فترة عام الحزن ولا في العام الذي تلاه، ومع ذلك قامت الأمة الإسلامية، وأقيمت دولة إسلامية تقيم شرع الله عز وجل في غضون ثلاث سنوات فقط.