السبت، 30 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 9- هجرة الحبشة الثانية-5


ج2


لكن عمرو بن العاص لن يغلب بسهولة، وفكر في جولة ثانية مع المسلمين، كانت هذه المرة جولة انتقامية شرسة، في المرة الأولى كان يريد أن يرجعهم إلى مكة، أما بعد الهزيمة أمام جعفر والمسلمين، فلن يكتفي بهذا، بل سيدفع النجاشي إلى قتل المسلمين، والظاهر أن هذا لم يكن الهدف من سفارة قريش، لكن الضربة التي أخذها عمرو بن العاص جعلته يتصرف بطريقة شخصية.

قال عمرو لـعبد الله : والله لأنبأنه غداً عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم! وطريقته هذه في التحدي جعلت عبد الله بن أبي ربيعة يخشاه، وهو الرجل الذي جاء معه، قال: لا تفعل، فإنهم أرحام وإن كانوا قد خالفونا، لكن عمراً مجروح، ورفض بشدة، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد.

وهذا شيء منكر في الحبشة، أهل الحبشة يتبعون الكنيسة في الإسكندرية، ويعتقدون أن المسيح عليه السلام هو إله تجسد في جسد بشر، تعالى الله عما يصفون!

وهذا يعكس مدى دهاء وثقافة عمرو بن العاص ، فقد كان يعرف رأي المسلمين في عيسى عليه السلام، ويعرف رأي أهل الحبشة فيه، ولديه اطلاع كاف على المعلومات التي يمكن أن يحتاجها في مهمته.

فذهب عمرو في اليوم الثاني إلى النجاشي وقال له: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، لم يقدر النجاشي أن يتجاهل مثل هذا الأمر، وبالذات في وجود الأساقفة وكبار رجال الدولة، فاضطر أن يرسل إلى المسلمين مرة أخرى

تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها: (ولم ينزل بنا مثلها)، كانت مشكلة خطيرة قد تعصف بالوفد الإسلامي تماماً؛ لأن رأي الوفد في عيسى بن مريم عليهما السلام يتعارض كلياً مع رأي أهل الحبشة، وهم ضعفاء لاجئون، ولا يوجد مكان آخر سيقبل المسلمين في الأرض، وعمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة ينتظران رأي النجاشي فيهم

اجتمع المسلمون في مجلس للشورى قبل أي قرار، وقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ ثم قالوا في منتهى الوضوح: (نقول والله فيه ما قال الله)
يقسمون بالله عز وجل أنهم سيقولون فيه ما قال الله عز وجل.

(نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن) هذا قرار خطير في عرف السياسيين، أو انتحار في تصوير السياسيين، لكن المقاييس عند المسلمين مختلفة؛ إذ الفرق ضخم وهائل بين المسلم السياسي الداعية، وبين السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع، المسلم السياسي الداعية له رسالة واضحة، وهي أن يصل بدعوته نقية إلى الناس، وهذه مسألة من مسائل العقيدة،

مسألة: هل ربنا الله عز وجل أم المسيح؟ أما السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع لا تهمه الوسائل، بل يريد أن يصل إلى نتيجة ولو على حساب الشرع أو الأخلاق؛ لأنهم يقولون: الغاية تبرر الوسيلة، لكن الحقيقة أن الموقف عند المسلمين لم يكن فيه أي حيرة، نعم خطير لكنه لم يكن محيراً.

نقول فيه ما قال الله عز وجل كائناً في ذلك ما هو كائن. الموازنة كانت سهلة بالنسبة للمسلمين: لا شيء يقدم على العقيدة. ذهب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النجاشي ومن معه من الأساقفة، فقال له النجاشي ما تقولون في عيسى بن مريم؟ وقف جعفر أمام ملك الحبشة في وضع صعب، وأي كلمة فيها خطأ قد تعصف بالوفد الإسلامي كله.

قال جعفر في منتهى الثقة: (نقول فيه الذي جاء به نبينا، نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول)
يعني: مكانة عيسى وأمه عليهما السلام مكانة عالية، لكنهما لا يعدوان أن يكونا بشرين من خلق الله عز وجل.

كان هذا الكلام غير مقبول في أرض الحبشة، لذا انقسم المجلس إلى موقفين: موقف للنجاشي ، وموقف للأساقفة. أما النجاشي فقد كان موقفه مفاجأة كبيرة للمسلمين ولأهل الحبشة وللبطارقة والوزراء، وعمرو بن العاص ، أخذ النجاشي عود نبات من الأرض، وقال: (ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود)
يعني: كلامك صحيح تماماً في وصف المسيح عليه السلام.

أي: أن النجاشي يعترف بعبودية المسيح عليه السلام، وبنبوته، وأنه ليس إلهاً.
وهذا كلام في منتهى الخطورة في الحبشة، لم يعجب الأمر البطارقة، وتناخرت وأصدرت أصواتاً عالية تنم عن الغضب، فصاح النجاشي فيهم في حزم، وقال: (وإن نخرتم والله)

والنجاشي بعد هذا أخذ ثلاثة قرارات في منتهى الخطورة:
القرار الأول: استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور تكريم الوفود. وهذا قرار خطير؛ لأنه ليس على هوى كبار الأساقفة، ويحمل احتمال وقوع فتنة داخلية في الحبشة تطيح بملك النجاشي نفسه، لكن هذا القرار كان مما يقتضيه العدل، والنجاشي ملك عادل رحمه الله


القرار الثاني: قطع العلاقات الدبلوماسية مع مكة، فالبلاد التي تؤذي المؤمنين لا يجب أن يعقد معها الصالحون علاقات. .قال النجاشي في وضوح: (ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها)، فخرجا من عنده كما تقول السيدة أم سلمة : (مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به)


القرار الثالث: قرار الإسلام، وهذا أخطر قرار في حياة النجاشي رحمه الله، فقد ترك النصرانية إلى الإسلام وهو على رأس دولة نصرانية متمسكة بنصرانيتها، لكنه رجل عادل لا يضيع حق الله عز وجل في أن يعبد، وعادل في أنه لا يضيع حق المؤمنين في أن يدافع عنهم، وعادل في أنه لا يضيع حق نفسه في أن يؤمن بالله عز وجل


لكن النجاشي رحمه الله لم يعلن إسلامه بل أخفى إسلامه وأظهر النصرانية، ولعل ذلك لأسباب منها: أنه خاف على ملكه أو نفسه، وما معنى إعلان جعفر بن أبي طالب لأمر الدعوة دون مواربة بينما أخفى النجاشي أمر إيمانه؟ الحقيقة أن الموقفين مختلفان؛ لأن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه له وظيفة دعوية، وللنجاشي رحمه الله وظيفة دعوية أخرى مختلفة،

فمن وظيفة جعفر بن أبي طالب كرئيس للوفد الإسلامي أن يعرّف بالإسلام بمنتهى الدقة، كل كلمة من كلمات جعفر رضي الله عنه محسوبة على الإسلام، لا ينفع هنا تورية ولا إخفاء، حتى وإن فقد جعفر حياته بكاملها.

وهذا هو فقه الموازنات. أما النجاشي فهو ليس محسوباً على الإسلام أو المسلمين، ويقاس الأمر بالنسبة للنجاشي من وجهة نظر أخرى، فلو أظهر النجاشي إسلامه لاقتلعه الشعب النصراني لا محالة، ولو خلع سيختفي المكان الآمن الذي يحتفظ بكوكبة المسلمين، كما أن كتم النجاشي لإيمانه سيحتفظ له بمكانه غالباً، ويكون هذا أدعى لحماية المؤمنين

إذاً: وظيفة جعفر الدعوية تقتضي أن يعلن إسلامه بوضوح، بينما وظيفة النجاشي الدعوية تقتضي أن يكتم إسلامه بحذر، وكل ميسر لما خلق له. عاش المسلمون فترة طويلة في رعاية النجاشي رحمه الله، من السنة الخامسة من البعثة -الهجرة الأولى للحبشة- إلى العام السابع من الهجرة النبوية، يعني: حوالي (15) سنة.

تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها: ( وأقمنا عند النجاشي بخير دار مع خير جار )




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق