الجمعة، 29 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 7- تربية الثبات-3

طلب المعجزات الخارقة للدلالة 
على صحة الإسلام تعنتاً ومماراة


وسيلة أخرى من وسائل أهل الباطل: طلب الأمور المعجزة من باب الجدل والمراء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى لهم بمعجزة عظيمة خالدة: إنها معجزة القرآن الكريم، تحداهم به تحدياً صارخاً، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24]، 


تحدٍ في منتهى القوة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ومع ذلك قريش ما حاولت مرة واحدة أن تعارض هذا القرآن الكريم، ومع علمهم بصدقه صلى الله عليه وسلم، ومع علمه بعجزهم وضعفهم أخذوا يطلبون المعجزات الأخرى من باب الجدل، مثل: انشقاق القمر، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأشار بيده إلى القمر فانشق إلى نصفين، نصف على جبل والنصف الآخر على جبل آخر أمام الناس جميعاً، فقالوا: سحركم محمد، 

والمنصف منهم قال: اسألوا المسافرين، فلو كان سحرنا لن يسحرهم، فلما أتت الناس سألها أهل قريش عن هذا الأمر، فقالوا: نعم، لقد رأينا القمر انشق في ذات الليلة التي انشق عندهم فيها، فكانت هي الليلة التي شق فيها للرسول صلى الله عليه وسلم القمر، ومع ذلك قالوا: هذا سحر مستمر ولم يؤمنوا؛ لأنهم ما طلبوا الآيات رغبة في التصديق وإنما لمجرد الجدال والمراء، ثم وصل الأمر إلى أن قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90 - 93]، 

لكن الله سبحانه وتعالى يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، أنكم إذا وصلتم إلى هذه الدرجة من الجدال والمراء فليس هناك إلا رد واحد وهو: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، هم لا يريدون الإيمان، وليس هناك داع للجدل العقيم مع هؤلاء الذين أنكروا بعقولهم وقلوبهم وجوارحهم المعجزة العظيمة، كل الذي طلبوه أقل من معجزة القرآن الكريم، لكنهم لا يريدون أن يؤمنوا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14]، أي: لو أخذناهم وأريناهم السماء والأفلاك والمجرات والجنة والنار {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15].

هكذا يفعل الكفار وأهل الباطل دائماً في حربهم للمسلمين.
إذاً: من وسائل أهل الباطل في حرب المسلمين: طلب الأمور المعجزة من باب الجدل والمراء.



السخرية والاستهزاء بالمؤمنين

هذه وسيلة من أقبح وسائل أهل الباطل في حرب الإسلام والمسلمين: هي السخرية والاستهزاء بالمؤمنين.


لم يصبح هناك منطق ولا عقل ولا حجة {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33].
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلس حوله المستضعفون من المسلمين، قال المشركون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟! هكذا سخرية بدون حجة وبدون دليل، وإذا دخل عليهم فقراء المسلمين، قالوا: هؤلاء ملوك الأرض، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لأهل مكة: قولوا كلمة واحدة -لا إله إلا الله، محمد رسول الله- تملكوا بها العرب والعجم.
فيقولون: هؤلاء هم ملوك الأرض الذين سيملكون العرب والعجم.


جلس عقبة بن أبي معيط لعنه الله مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فرآه أبي بن خلف فظن أنه آمن، فذهب بعد ذلك يقول له: أنت آمنت، قال: لم أؤمن؟ فلم يصدقه، وقال له: حتى تثبت لي أنك لم تؤمن بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم لابد أن تبصق في وجه محمد، فقام عقبة لعنه الله وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق في وجهه! 


هكذا فعلوا مع أحب الخلق إلى الله عز وجل، لكن الوضع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بصفة عامة أن ازدادت حركة الدعوة في مكة، وازداد عدد المسلمين، وشعر المشركون بأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فقدموا التنازلات، وبدءوا بعمل مفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يلتقوا في منتصف الطريق كما يقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، قدموا اقتراحين للرسول صلى الله عليه وسلم: 

أما الأول فقد كان سفيهاً من حكماء قريش، قاموا بما يسمى بالعبادة المشتركة فقالوا: هلم يا محمد فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر.
يعني: أنت تعبد هبل واللات والعزى، ونحن أيضاً نعبد إلهك في نفس الوقت، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منها.
هذا مفهوم مغلوط وسطحي عن الألوهية أن أعبد عشرة أو عشرين إلهاً، وهذا تفكير طفولي من حكماء قريش.


الاقتراح الثاني كان على نفس المستوى من السطحية، فبعض المشركين تقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يكون هناك ما يسمى بعبادة التناوب، يعني: نعبد إله محمد سنة، وهو يعبد إلهنا سنة، فنزل قول الله عز وجل يقطع الطريق تماماً على هذه المفاوضات الطفولية، 


وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، المرة الوحيدة التي قال الله عز وجل فيها: (الْكَافِرُونَ)، ليقطع السبيل على كل كافر يساوم المؤمنين على أمر العقيدة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، بذلك أغلق الباب على هذه المفاوضات الهزلية، والدعوة تزداد، والمسلمون يتكاثرون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق