الجمعة، 29 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 7- تربية الثبات-7



دراسة التاريخ


السبب الثالث في تربية المسلمين على الصبر: هي دراسة التاريخ.

التاريخ يكرر نفسه، ودراسته تعرض صوراً واقعية من الماضي لأناس عاشوا في نفس الظروف التي عشت أنت فيها؛ لأنها حرب واحدة بين الحق والباطل، علو للباطل في فترة من الفترات، تعذيب وتشريد وقتل وإبادة لأهل الحق، وصبر وجلد وتحمل وعزيمة من المؤمنين، ثم في النهاية انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له.

صورة متكررة في كل صفحات التاريخ، سنة من سنن الله عز وجل.
راجع القرآن المكي لتجد قصصاً لا حصر لها، لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من قصة أو إشارة إلى قصة من هذا النوع، وتصور أنك تسمع مع الصحابة من ضمن الأمثلة الكثيرة التي ضربها الله عز وجل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة مكة،

يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هذه درجة عظيمة من الألم والإيذاء، حتى هذا لم يحصل مع الصحابة، لا يوجد أحد قتل أبناء الصحابة الرضع مثل ما كان يفعل فرعون لعنه الله،

ومع هذه الصورة من الألم، تأتي صورة أخرى من التسلية، يقول الله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، بعد كل هذا الألم والاضطهاد يريد الله عز وجل أن يمكن للمستضعفين، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] إلى آخر الآيات.
نفس الصورة تكررت في مكة وتتكرر إلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر فإن التمكين لا محالة سيتكرر؛ لأن الذي يعد هو ربنا سبحانه وتعالى وهو قادر على كل شيء.

إذاً: دراسة التاريخ وتحليله وفقهه أمر في غاية الأهمية لتربية الصف المؤمن على الصبر، ووضع لأيديهم على كل مفاتيح النصر الحقيقة.






زرع الأمل والثقة في نفوس المؤمنين 
بوعد الله بالنصر والتمكين


السبب الرابع: زرع الأمل في نفوس المؤمنين:
إذا أحبط الإنسان فلا أمل في صبره ولا نصره ولا تمكينه، يقول سبحانه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
لابد من صبر حتى يكون هناك تمكين، فربنا سبحانه وتعالى حتى يعلم المسلمين الصبر يريهم الأمل، وأن الأرض ستكون لهم.

إذاً: هذه من أهم النقاط التربوية في تمكين المؤمنين من الصبر، وبها نفهم موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه بعدما اشتد بهم التعذيب، أتى يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمسلمين أن يرفع الله عز وجل عنهم هذه الغمة.

يقول خباب: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ خباب لم يعد يتحمل، فقد عذب تعذيباً أليماً، كان يكوى رأسه بالنار، ويوضع على الفحم الملتهب، فطبيعي بالنسبة لرجل مر بكل هذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء والاستنصار برب العالمين،

وقد كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على غير ما نتوقع، فقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك في وجهه، يقول خباب كما جاء في البخاري: (فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، وقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض حفرة فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

من المؤكد أن غضب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لم يكن لمجرد طلب الدعاء، بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف، لكن الذي حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر أنه قد بدأ ييأس ويفقد الأمل، لذا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرجه غضبه عن أسلوبه التربوي الراقي،

وذكر له أكثر من طريق ليعلمه بها:
الطريق الأول: أنه ربى بالتاريخ، وذكر له أحداثاً من التاريخ، فالمؤمنون من قبله قد مروا بما هو أشق، والناس عادة تصبر على مصائبها إذا رأت أن غيرها قد ابتلي بمصائب أشد.

الطريق الثاني: أنه زرع الأمل في قلبه وبيقين كامل، (والله ليتمن هذا الأمر)، فاطمأن أنه في يوم من الأيام سيمكن الله عز وجل لدينه.

الطريق الثالث: التذكير بالله عز وجل والتعظيم لقدره فلا يخاف إلا الله، كما قال: (لا يخاف إلا الله).

الطريق الرابع: أن يأخذ بالأسباب، يقول: (والذئب على غنمه)، ليس معنى التوكل على الله عز وجل أنك لا تأخذ بالأسباب، لا، فما زالت السرية موجودة، وما زال الصبر موجوداً، وما زالت الدعوة إلى الله عز وجل موجودة، فلننتظر التمكين.

النتيجة أن خباباً رضي الله عنه وأرضاه ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك.
إذاً: الدرس الذي نأخذه من هذا الموقف: أنك لو وصلت إلى هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، إذ لابد وأن يمكن الله عز وجل لهذا الدين.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق