السبت، 30 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 9- هجرة الحبشة الثانية-4


اجتماع جمع المسلمين ووفد قريش ببلاط النجاشي


ذهب المسلمون للقاء النجاشي في اجتماع مهيب، كان النجاشي وسط الاجتماع ومن حوله الأساقفة والبطارقة والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأمامهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومن ورائهم الوفد القرشي الكافر، وجعفر بن أبي طالب ومن ورائه الوفد المسلم.

بدأ الاجتماع الكبير، وافتتح النجاشي هذا الاجتماع بسؤال للمسلمين في منتهى الوضوح والغرابة، قال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟ الغريب في السؤال أن المسلمين ما قالوا للنجاشي أي شيء قبل ذلك عن دينهم، ولا هو سأل،

ولم يتحمس المسلمون للقيام بواجب الدعوة في الحبشة؛ لأن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة هو الحفاظ على الدين ممثلاً في المسلمين، ولأنهم يدركون مدى قوتهم البسيطة، ولم يريدوا أن يفتحوا عليهم جبهات جديدة داخل الحبشة، وآثروا أن يتكتموا أمرهم، ويحافظوا على سريتهم، ويهتموا بالدواعي الأمنية للوفد المسلم على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة.
وهذا من فقه المرحلة.

فـ النجاشي رحمه الله لم يسأل، واكتفى فقط بمجرد قول المسلمين بأنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا؟ ولماذا؟ لم يسأل.
لكن الوضع في هذا الوقت تغير بالنسبة للنجاشي؛ لأنه ستحدث بينه وبين مكة مشكلة سياسية، ولابد من التحقيق فيها، كما أن الوضع تغير بالنسبة للمسلمين، ولا ينبغي لهم أن يسكتوا في هذا الوقت، فهم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلاماً مغايراً للحقيقة قد يفهم الإسلام بصورة خاطئة،

نعم، من الممكن أن يسبب لهم التصريح بالإسلام مشكلة، لكن ليس أمامهم غير هذا، فماذا سيقول جعفر في كلمته أمام النجاشي والوزراء وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة؟ قال كلمات وكأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعها على لسان جعفر رضي الله عنه وأرضاه، وبالترتيب الذي قاله قسم جعفر المقالة إلى عدة مقاطع، كل مقطع له غرض معين، ورتبها ترتيبًا جميلاً.

المقطع الأول قال فيه: (أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعف).

هذه أمور تأنف منها النفوس الكريمة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ما زالا على هذه الصورة الخبيثة، وهذه الجاهلية التي يتحدث عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إن كل المشاكل التي عرضها جعفر في حال الجاهلية تتعلق بالظلم، إما الظلم مع النفس بعبادة الأصنام: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أو مع الرحم بقطع الأرحام، أو مع الجار بالإساءة إليه، أو مع الضعيف بأكل حقه.

وتخيل أن هذه الصورة تعرض على ملك عادل لا يظلم عنده أحد.
ثم إن النجاشي شعر بالبشاعة التي عليها أهل مكة وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة.
فكان هذا أول سهم أطلقه جعفر بن أبي طالب في مقتل لقريش.

المقطع الثاني: قال جعفر: (فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه)، يعني: الذي جاء بهذا الدين ليس رجلاً أفاكاً كذاباً يريد خداع الناس، إنما يشهد بصدقه وأمانته وعفافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشهوراً بذلك في مكة، ولا ننسى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، والإنجيل والتوراة فيهما الحديث عن رسل كثيرين، فالحديث عن الرسل ليس بمستغرب لديهم.
فكان هذا هو السهم الثاني من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.

المقطع الثالث: تكلم فيه عن الصورة المضادة للجاهلية، قال: (فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام إلخ.

تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها راوية القصة: (فعدد عليه أمور الإسلام)، يعني: ذكر له أموراً كثيرة من فضائل الإسلام.

أنا أريد منك أن تتخيل موقف النجاشي وهو يسمع هاتين الصورتين المتناقضتين، صورة الإسلام، وصورة الجاهلية، مع العلم أن جعفراً لم يكذب، إنما الحقيقة أن الباطل بطبيعته قبيح مقيت، والإسلام بطبيعته جميل محبوب.. فكان هذا هو السهم الثالث من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.

المقطع الرابع: قال جعفر: (فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا). ثم بدأ جعفر يذكر للنجاشي أن عمرو بن العاص وأهل مكة عذبونا لكي نرجع من صورة الإسلام الجميلة إلى صورة الجاهلية المقيتة القبيحة.

قال جعفر بن أبي طالب : (فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث) .. وصورة التعذيب هذه تذكر النصارى بالحواريين الذين عذبوا من قبل، وهم أصحاب عيسى عليه السلام الذين عذبوا بنفس الأساليب البشعة. بعد هذا يمكن القول بأن جعفراً سيطر على مشاعر النجاشي ، بل وعلى مشاعر الأساقفة من حول النجاشي .

المقطع الأخير من البيان المسلم، قال فيه جعفر : (فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك) .

كان كلام جعفر من غير نفاق ولا كذب، فهو يرفع من قيمة النجاشي ، وهو بذلك يكسب قلب النجاشي ..يرفع قيمة العدل عند النجاشي حتى لا يتسرع بعد ذلك النجاشي في حكمه، ولا يجور في قضائه.

وهنا انتهى البيان الإسلامي السياسي المحنك، والنتيجة مثلما ترون خمسة سهام قوية في صدور الكافرين. كان واضحاً أن النجاشي والأساقفة تأثروا بكلام جعفر ، لكن النجاشي عقلية كبيرة، فـجعفر يتكلم عن رسول، و النجاشي يعرف أن كلام الرسل غير كلام الناس، ويريد أن يتأكد، وواضح أن النجاشي بدأ يهتم بأمر هذا الدين الجديد، وهناك احتمال كبير أنه كان يعرف عن رسول سيأتي في ذلك الزمان، كما كان كل أهل الكتاب يعرفون.

كل هذا جعل النجاشي يقول لـجعفر : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ -يريد أن يسمع- قال جعفر : نعم، وبدأ جعفر رضي الله عنه يبحث عما سيقرؤه من القرآن على النجاشي ومن معه؛ لأن آيات القرآن التي نزلت في مكة كثيرة، لكن الله عز وجل وفق جعفراً إلى اختيار صدر سورة مريم التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ..

السورة التي تتحدث عن السيدة مريم ومكانتها في الإسلام، وبدأ جعفر يقرأ آيات القرآن الجميلة على النجاشي ومن معه: (( كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ))  ]مريم:1-7[

ذكريات جميلة تمر على أسماع النصارى، بدأ النصاري يتأثرون وجعفر رضي الله عنه وأرضاه يضرب على الوتر الحساس: (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا )) ]مريم:16-21[ لم تتحمل قلوب النصارى الكلمات المعجزة حتى بكوا وبكى النجاشي ، وبكت الأساقفة.

لم تقف هدايا عمرو بن العاص حائلاً بين كلام الله عز وجل وبين قلوب السامعين، ولم يكن صعباً على النجاشي أن يأخذ القرار، قال: إن هذا والذي جاء به موسى -وفي رواية: عيسى- ليخرج من مشكاة واحدة.

هذا إقرار بصدق الرسالة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق جعفر ومن معه، ثم التفت إلى عمرو وإلى عبد الله بن أبي ربيعة فقال لهما: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً.

كانت هذه الجولة بكاملها في صف المؤمنين، هزم فيها سفيرا قريش هزيمة منكرة في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة، وخرج عمرو بن العاص وهو في منتهى الغيظ والغضب، فقد كانت هذه ضربة قوية لكبرياء عمرو بن العاص داهية العرب في ذلك الوقت، الذي بلغ من العمر (45) سنة، بينما كان عمر جعفر (27) سنة، لكن العملية لم تكن عملية سن، العملية عملية حق، من الذي يدافع عن الحق، ومن الذي يدافع عن الباطل .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق