الجمعة، 29 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 7- تربية الثبات-9


الحكمة الإلهية من عدم القتال في العهد المكي


قد يقول قائل: لماذا أمر الله عز وجل المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟ ولماذا تحملوا الألم دون رد أو تغيير؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
الحكمة الكاملة من وراء ذلك المنع لا يستطيع البشر أن يتوصلوا إليها، لكننا سنبحث فيما نعتقد أنه السبب أو الحكمة، حتى نتعلم كيفية العمل في الظروف المشابهة.

الحكمة الأولى من كف المسلمين عن القتال: التربية على نوع جديد من الصبر، لن يتعلمه المسلمون إلا في مثل ذلك الوضع.

الصبر أنواع كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور، يصبر على الجوع، والحر، والفقر، وطول السفر، والآلام، والحروب، إلا أنه لا يصبر على تحمل الظلم، فله طبيعة ثائرة لا ترضى بالضيم والجور، يثور ولو ضاعت حياته، لكن الآن أصبحت لدى المؤمنين أبعاداً أخرى أعمق من متطلبات الفرد، وأصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة ومجتمعاً،

ولا يستقيم للفرد أن ينظر إلى مصلحته الشخصية، بل يجب أن ينظر إلى مصلحة المجموع، وربنا سبحانه وتعالى يأمرهم ألا ينظروا إلى حظ نفوسهم، ولكن لصالح الأمة والجماعة، لأنه لا يمكن لأمة أن تقوم وأفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها، فيتحتم عليهم الكف عن القتال، حتى يتربى المسلمون على هذا النوع الجديد من الصبر.

الحكمة الثانية: التربية على الطاعة لقيادة هذه الأمة الناشئة؛ لأن الاختبار الحقيقي للطاعة هو أن تطيع دون جدل ولا ضجر ولا اعتراض، في أمر لا تهواه نفسك في غير معصية للخالق سبحانه وتعالى، هذا هو المقياس الحقيقي للطاعة، كما حصل من خباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ خباب رأى أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فأوضح له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وبين له ضرورة الصبر.

حينها سمع وأطاع وكف اليد وقبل الأمر، وتعلم شيئاً في منتهى الأهمية للجماعة وهو الطاعة لولي الأمر، لا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، ومن غير هذا الجو من التعذيب والأمر بالصبر عليه لن يتعلم المسلمون الطاعة في مشوار حياتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده.


إذاً: كانت الحكمة الثانية: تربية المسلمين على الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأي قائد ما لم يأمر بمعصية لله عز وجل.

الحكمة الثالثة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت تعطي نتائج أفضل.
ولبيان هذا الأمر نطرح سؤالاً: هل الغرض في النهاية هو حكم مكة أم إسلام مكة؟ الغرض إسلام مكة، ولا يهم من الذي سيحكمها بعد ذلك، المهم يحكمها بكتاب ربنا سبحانه وتعالى وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن هذه البيئة المكية ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، ولو فرضت عليها الرأي بالقوة لن تقبله، وسيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وسيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين عناداً، فهم يعاندون لضعف المسلمين، فكيف لو فرضوا عليهم الرأي بالقوة؟!

إذاً: لابد للداعية أن يدرس نفسيات من يدعوه من الناس، فمنهم من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء عقله، أو بقوة بدنه، ومنهم من يتأثر بلطفه وأدبه، وهكذا خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولابد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ويراعي ظروف المدعو، وظروف البيئة التي يعيش فيها.

الحكمة الرابعة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: تجنب الفتنة الخطيرة التي ستحدث في مكة وتؤدي إلى سمعة سيئة بالإسلام، وإلى الفتنة العظيمة، ولم يكن في أرض مكة حكومة مركزية تقوم بتعذيب الناس، بل تكفل كل زعيم بأتباعه، تكفل الوالد بولده، وشيخ القبيلة بأفراد قبيلته، والسيد بعبده، فمثلاً: مصعب بن عمير عذبته أمه، وعثمان بن عفان عذبه عمه، وخباب بن الأرت عذبته سيدته وهكذا، فلو قاتل المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم، فإنهم سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وفي هذا الموقف ما الذي سيقال عن الإسلام؟

إذا كان الكفار قد ادعوا أن الإسلام يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل وعشيرته، وبين المرء وزوجه من دون قتال، فكيف لو كان هناك قتال؟! إذاً: كانت هناك حاجة ملحة لتجنب الفتنة الكبيرة في داخل مكة، وللحفاظ على الصورة الجميلة للإسلام، وهي الصورة الواقعية لهذا الدين العظيم.

الحكمة الخامسة: أن الله عز وجل يعلم أن كثيراً من أهل الكفر سينتقلون بعد ذلك من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، فالدعوة ما زالت في مهدها، ولم تأخذ الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكثير منهم سيعترض في البداية ويتشدد، ثم لا يلبث أن يتبدل الأمر في أعينهم، من هؤلاء عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل، فكل هؤلاء أصبحوا بعد ذلك قادة يأخذون الإسلام إلى كل ربوع الأرض، فلو حصل القتال في أول فترة مكة لخسر الإسلام هؤلاء وأمثالهم.

الحكمة السادسة: أن النخوة التي كانت في قلوب كثير من العرب كانت تتأثر بصورة المظلوم الذي لا يستطيع رفع الظلم عن كاهله، فيتحرك العربي في شهامة ليرفع الظلم الذي يقع على المسلمين، مثل ما وقع في القصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فهو صورة من صور النخوة التي تحركت نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الجوار الذي عرضه ابن الدغنة على الصديق لما أحس بأنه ظلم، فجاء وهو مشرك ليعرض الجوار على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك الصحيفة التي نقضها المشركون أنفسهم بعد ثلاث سنوات من المقاطعة، كانت صورة من صور النخوة نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على المسلمين.

الحكمة السابعة: حتى لا يصطدم المسلمون بالنواميس الكونية، فمثلاً: النار تحرق، ولذلك فالمسلمون أو الناس بصفة عامة لا يلقون بأنفسهم فيها. من النواميس الكونية أيضاً: أن الذي يسقط في ماء عميق وهو لا يتقن السباحة يغرق، لذلك فالناس لا يتهورون بالنزول في ماء عميق دون إجادة للسباحة.

من النواميس الثابتة أيضاً: أن للباطل قوة، ولا يستقيم للمؤمنين أن يقولوا: إن الله معنا ونحن على الحق، ثم يلقون بأنفسهم في حرب خاسرة، ظناً منهم أنهم لا محالة سينتصرون، نعم، هم عباد الله وجند الله، ولابد أن ينتصروا، ولكن الإسلام دين واقعي عملي يقيس بدقة قوة الباطل، ويقدر القوة الكافية لردها، ويضع الخطة المناسبة للنصر، ويهيئ الصف الكفء للقتال، ثم يتوكل على الله عز وجل ويعتمد عليه ويقاتل؛ فالإسلام دين يحترم الأسباب.

ولو قام المؤمنون بثورة في مكة ما الذي سيحدث؟ سيقتلون رجلاً أو اثنين أو عشرة أو مائة من قريش، وبعد ذلك سيبادون عن آخرهم، نعم، الموت في سبيل الله غاية، لكن المؤمن لا يموت بغير ثمن، إن لم يغلب على الظن التمكين أو إحداث النكاية في العدو فلا معنى للقتال.

والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والقياسات المادية التي قدرتها قيادة المسلمين أن الوقت غير مناسب للقتال، ليس جبناً ولا ضعفاً ولكن حكمة وتدبيراً، وسيأتي يوم تأخذ فيه قيادة المسلمين قرار القتال في بدر وما بعد بدر، لكن المسلمون لا يتسرعون النتائج، ويدركون حقيقة ما يسمى بفقه المرحلة، يدرسون الظروف بإحكام، يضعون الخطة، ويطلبون المدد من الله عز وجل، ثم يقومون بما يناسب المرحلة، وقد يناسبها الكف عن القتال، أو دعوة سرية أو جهرية أو معاهدات ومفاوضات، أو جهاد واستشهاد،

وقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بكل هذه المراحل، ووضع لنا منهجاً دقيقاً نتبعه، لم يترك لنا موقفاً إلا وبين كيف نتعامل معه طبقاً لنواميس الكون لشرائع الإسلام ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد رجل حكيم عبقري، لا، بل رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، ناقل لما أراده الله عز وجل منا في كل موقف؛ لذلك نحن ندرس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الحكمة الثامنة: أن القتال لم يكن ضرورة ملحة، فإن الدعوة كانت تسير في مكة بمشقة وبصعوبة، ولكنها في النهاية تسير، والرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس وهو تحت حماية سيوف بني هاشم، فـأبو طالب جعل الرسول صلى الله عليه وسلم قضية حياته، وكرس كل جهده لرد الكيد عنه، فلماذا لا يستغل المسلمون هذه الظروف إلى أن يأتي يوم آخر تتغير فيه الظروف، أو يموت فيه أبو طالب عندها ستتغير المرحلة؟

يعني: لم يكن هناك ضرورة للقتال، وعندما تكون هناك ضرورة لابد أن يقاتل المسلمون.

الحكمة التاسعة لكف المؤمنين عن القتال في مكة: هي أنه لو حدث قتال لاضطر المسلمون إلى كشف كل أوراقهم، وسيظهر كثير من المؤمنين الذين لم يعلم إيمانهم بعد، والمرحلة لا تتطلب ذلك، هذه المرحلة كانت تتميز بجهرية الدعوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللقليل من الصحابة ممن لهم منعة، مثل: أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أو غيره، لكن عموم المسلمين لا يعلنون عن أنفسهم، ولو حدث القتال في أوائل فترة مكة لاكتشف أمر دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، ولما استطاع المسلمون أن يحادثوا الأفواج التي تأتي إلى مكة وقت الحج، ولما استطاع المؤمنون أن يغادروا مكة إلى غيرها أو يدخلوا إليها، و ستوضع على المسلمين قيود شديدة ستؤخر الدعوة لا محالة.

إذاً: متطلبات هذه المرحلة أن يكف المسلمون اليد عن القتال؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى كشف كل أوراق المسلمين في وقت يحتاجون فيه إلى التكتم الشديد.

الحكمة العاشرة: إظهار قدرة الله عز وجل وقوته وعزته وحكمته سبحانه وتعالى، ظهر أمام الجميع في مكة وما حولها في زمانهم وفي الأزمان التي تلت كيف كان المؤمنون ضعفاء.

وظهر واضحاً كيف أن القلة المؤمنة لا تملك مقومات الرد المادية فضلاً عن مقومات الانتصار، ثم ستظهر بعد ذلك آيات عجيبة لا تخطر على عقول البشر، سيدبر الإله الحكيم لأوليائه، فإذا بالضعف يتحول إلى قوة، وإذا بالذل يتحول إلى عزة، وإذا بالخوف يتحول إلى أمن، وإذا بالتعذيب والتشريد و الإهانة والقتل يتحول إلى سيادة وتمكين، سيكون هناك بدر والأحزاب وفتح مكة وتبوك وفتح فارس والروم..
وغيرها من المواقع، وسترى الأمم كيف سينتشر الإسلام؟

كل هذا من هؤلاء الضعفاء القلة الذين كانوا يعذبون في مكة، (( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ )) [النمل:88]، هذا دليل واضح على قدرة الله عز وجل.

إذاً: لهذه الأسباب وغيرها كف الله عز وجل المؤمنين عن القتال في فترة مكة، وسيأتي زمان بعد ذلك يسمح فيه بالقتال، ولكل مرحلة طبيعتها، وحتى تقلد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تعلم ما هي المرحلة التي أنت تعيشها، ومع أي مراحل الرسول صلى الله عليه وسلم تتشابه.

زاد تهور أهل الباطل في مكة وزاد التعذيب وضيق الأمر بشدة على المؤمنين، هنا انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المرحلة التي مرت إلى مرحلة أخرى جديدة تناسب الحرب الضارية التي يشنها أهل الباطل في مكة، بدأ أهل الإيمان يتزايدون، وأصبح من الصعب أن يختفي كل هؤلاء في البلد الصغير مكة، فيكتشف أمرهم فما هو التصرف مع موقف مثل هذا؟ المصير تعذيب وتقتيل، والمسلمون ليست لهم طاقة في حرب أهل الباطل،

ما الحل الذي سيتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيأخذ قراراً جديداً وينتقل بالمسلمين من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، ترى ما هي هذه المرحلة؟ وكيف سينتقل المسلمون إلى المرحلة الجديدة؟ وما ردة فعل الكافرين على ذلك؟ (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق