الجمعة، 29 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 8- هجرة الحبشة الأولى-3


سبب هجرة أشراف مكة من الصحابة إلى الحبشة


نقول: لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟

أولاً: هذا أدعى لحماية المهاجرين، فأمر الهجرة أمر خطير، قد تطارد مكة فوج المهاجرين، بل بالتأكيد ستطاردهم، وفي لحظات الغضب والغيظ قد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، وبالذات لو كانوا من العبيد، أما إذا كانوا من الأشراف فإن عملية الهجرة ستصبح أقل خطورة، حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم إلى مكة، ولن يفكروا في قتلهم لقوة قبائلهم.

ثانياً: أن الأشراف أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ لأن من طبائع البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم ينتبه له، والغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض الأمر بأفضل الصور، وسيستقبل المهاجرون في هذه الحالة على أنهم وفد سياسي محترم معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم.

ثالثاً: هجرة الأشراف ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة، ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم من خيرة أهل البلد، ومن أكثر الناس سعياً لإصلاحها، ومن أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، وها هم يغادرون البلد؛ لأنهم لم يجدوا فيها أماناً، ما أبشع فعل أهل الباطل، وما أشنع جريمتهم، أهؤلاء هم الذين يطردون؟ أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟ فهجرة الأشراف ستكون صدمة لأهل مكة قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إذا هاجر المستضعفون فلا ضير، أليسوا عبيداً تركوا البلد؟ فلنأت بعبيد آخرين، هكذا سيفكر الطغاة، إذ ليس هناك اعتبار للآدمية أو الإنسانية.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدفع المشركين دفعاً إلى تحريك عواطفهم وقلوبهم؛ لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله عز وجل، لهذه الأسباب هاجر الأشراف ولم يهاجر الضعفاء.
إذاً: الملاحظة الأولى: هي هجرة الأشراف، والتي تشير إلى أن الهدف الأول من الهجرة لم يكن حماية الأرواح ولكن حماية الدعوة والدين.







سبب مكث المهاجرين في الحبشة إلى ما بعد
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة



متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد في فترة مكة أم في فترة المدينة؟ مكث المهاجرون في الحبشة مدة تزيد على (15) سنة متتالية، كانت هجرتهم الأولى إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة في شهر رجب ثم عادوا سريعاً إلى مكة بعد ثلاثة أشهر، ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة، ولكنهم مكثوا في الهجرة الثانية طويلاً، ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر.


مرت أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين في بناء الأمة الإسلامية، ومع ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة، ولم يكن هذا اجتهاداً شخصياً من المهاجرين، بل كان بأمر من قيادة المسلمين المتمثلة آنذاك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، ومر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعباً، وكان عدد المسلمين قليلاً، والعدد في الحبشة كبيراً تجاوز الثمانين، وهم قوة لا يستهان بها، فعدد المهاجرين في غزوة بدر كان نفس عدد المهاجرين إلى الحبشة، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت الغزوات العظام بدر ثم بنو قينقاع ثم أحد ثم بنو النضير ثم الأحزاب ثم بنو قريظة، ثم الحدث الكبير العظيم الهام وهو صلح الحديبية.

وبعد صلح الحديبية أمن المسلمون على أنفسهم، وأصبحت لهم دولة لها كيان محترم تعقد به الأحلاف والمعاهدات على أعلى مستوى، يرهب جانبها ويحترم رأيها، فهنا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أصبح من الصعب استئصال المسلمين، لقد كان ممكناً في أي لحظة قبل صلح الحديبية أن يستأصل المسلمون، وأقرب مثال على هذا غزوة الأحزاب؛ حيث أراد الكفار الإنهاء الجذري للإسلام في المدينة، لكن الله عز وجل كتب النصر للمؤمنين، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).


عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول لحظات الأمان في المدينة أرسل في طلب المهاجرين في الحبشة، أرسل إليهم عمرو بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، فجاءوا في العام السابع من الهجرة بعد فتح خيبر.


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأمور بحكمة سياسية رائعة، كان يحافظ على نواة للمسلمين هناك في مكان آخر بعيد مثل الحبشة، فإذا هلك المسلمون في المدينة حمل المهاجرون في الحبشة اللواء، وكان المسلمون في الحبشة يقومون بدور المخزون الإستراتيجي الهام للمسلمين، وكانوا على استعداد للرجوع إلى المدينة في أي لحظة إذا طلبت منهم القيادة ذلك.

كانت الأدوار موزعة على المسلمين بدقة، طائفة من المسلمين يقومون بالبناء هناك في أواخر الفترة المكية، وفي فترة المدينة هذه الطائفة معرضة لخطر شديد تقابل الموت في كل لحظة، وهناك طائفة أخرى كامنة في الحبشة، في ظاهر الأمر هم غير معرضين للأذى، لكن مهمتهم في غاية الخطورة، لقد كان عليهم أن يحملوا الدعوة بمفردهم إذا هلك المسلمون في المدينة، وقد يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً وتصبح الأمانة معلقة في رقابهم وحدهم،


وهنا يتضح أمران:


الأول: أن هذا التوزيع للأدوار تم بمعرفة قيادة المسلمين المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هناك طاعة عظيمة جداً من الطرفين؛ الطرف الذي يعمل في المدينة، والطرف الذي يعمل في الحبشة، ولو ترك الأمر لكل فرد لدخل الهوى في الاختيار، قد يكون هوى المرء أن يظل بعيداً عن أرض القتال هناك في الأمان في الحبشة، وقد يكون هوى المرء أن يعمل للإسلام في مكان معين، كأن يعمل بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قبيلة كذا أو كذا.

فحتى لا يتدخل الهوى في الاختيار وزع القائد صلى الله عليه وسلم الأدوار على المسلمين، وأطاع المسلمون في أدب جم، إذ لا يشترط الجندي الصادق عملاً معيناً أو مكاناً معيناً؛ لأن الجندي في الإسلام يعمل لله عز وجل، وفي كل مكان يوضع فيه بنفس الحمية، كما أن الأمر يحتاج أيضاً إلى تنظيم، مَنِ الذي يقوم بهذا الدور؟ ومن الذي يقوم بالدور الآخر؟ وحتى لا تختلط الأدوار على الناس يرجع في هذا إلى قيادة المسلمين والشورى ورأي المجموعة، وكل ذلك من أساسيات العمل الجماعي السليم الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن المسلمين المهاجرين في الحبشة لم يكونوا في حالة ركون أو فتور، بل كانوا في إعداد وتدريب مستمر، لقد كان مستوى الإيمان لديهم رائعاً، وكان الاستعداد النفسي للعودة والمشاركة والوقوف في الصدارة ومواجهة الموت كاملاً، يثبت ذلك أنهم لما جاءتهم إشارة العودة عادوا دونما ضجر ولا اعتراض ولا إبطاء ولا طلب لفترة تجهيز وانتقال، ولما وصلوا إلى المدينة انخرطوا في الصف بسرعة، وحملوا المشاق مع المسلمين وكأنهم عاشوا معهم كل التجارب السابقة، حتى إنهم لما وصلوا إلى المدينة علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح خيبر، وهي على بعد مائة كيلو في شمال المدينة المنورة، فتوجهوا جميعاً إلى خيبر للمشاركة في الغزو فوجدوها قد فتحت، وسر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً، وقال: (والله ما أدري بأيهما أفرح)، وفي رواية: (بأيهما أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)،

وجعفر رضي الله عنه وأرضاه كان أمير المهاجرين في الهجرة الثانية للحبشة، ورأينا جعفر بن أبي طالب نفسه بعد أن عاد بـ (13) شهراً فقط خرج مجاهداً في سبيل الله في سرية مؤتة وكان أحد قوادها، وقاتل دون تردد، وأقدم دون إحجام، وثبت دون فرار، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه دون خوف أو وجل، لقد جاء جعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحبشة جاهزاً للقتال في سبيل الله، لقد كانت فترة الحبشة إعداداً وتربية للمسلمين، ولم تكن هروباً من الواقع.

إذاً: الهجرة إلى الحبشة كانت لإنشاء مركز جديد للدعوة يضمن لها الاستمرارية والبقاء، وكانت وسيلة جديدة في مواجهة أساليب البطش في أرض مكة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق