الجمعة، 29 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 8- هجرة الحبشة الأولى-8



الوسيلة الأولى: قررت قريش منع المؤمنين من السفر، وقامت بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من خرج من المؤمنين من مكة، ووضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، كل هذا لوقف الهجرة إلى الحبشة، وقد يظن ظان أن المشركين سيكونون سعداء بترك المسلمين في أرض مكة، فلماذا يمنعونهم من الهجرة؟ كانت قريش تفكر بطريقة أخرى.

أولاً: أن المؤمنين اتخذوا من الحبشة موطناً ومحضناً ليربى فيه المسلمون؛ ليعودوا أشد قوة؛ لأن المؤمنين أصحاب قضية، ولن يرضوا بالحياة المستريحة في الحبشة ويتركوا قضيتهم، وكما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد بعث لقومه خاصة وللناس عامة، ولابد أن المؤمنين سيبذلون قصارى جهدهم ليصلوا بهذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولاشك أن مكة ستكون من أهم النقاط في محطة المؤمنين، ولابد أن يرجع المؤمنون إلى أرض مكة.

ثانياً: أن المؤمنين سيغيرون علاقة الحبشة بمكة، ويجعلونها لصالحهم، فأهل الحبشة إذا رأوا أخلاق المؤمنين ونضجهم ونقاءهم، فإنهم سيستنكرون بشدة أفعال الذين عذبوهم، وقد يقطعون علاقاتهم السياسية والاقتصادية بمكة، وهذا فيه ضرر كبير بهم.

ثالثاً: خاف أهل مكة من أن أهل الحبشة يدخلون في الإسلام، ثم يقبلون على مكة بعد ذلك لغزوها، وقريش ليست لها طاقة بحرب دولة الحبشة وجيش الحبشة وملك الحبشة، وليس ببعيد من أهل مكة ما حدث من أبرهة الأشرم وهو مجرد تابع لملك الحبشة كان على منطقة اليمن.

رابعاً: كانت قريش تخشى من انتشار المد الإسلامي في خارجها، فدعوة المسلمين مقنعة، ودينهم قيم، وقرآنهم معجز، ولو تركت لهم حرية الدعوة فلاشك أن أصحاب الفطر السليمة سيدخلون في هذا الدين.

إذاً: فليمنع المسلمون من السفر، ولتحدد إقامتهم في أرض مكة، هكذا فكر أهل الباطل في مكة. هذه كانت وسيلة منع المسلمين من الخروج من مكة.

الوسيلة الثانية التي استخدمها أهل الباطل في مكة قبل ذلك لمنع الدعوة: هي وسيلة التعذيب الشديد من جديد، وسيلة العاجز الضعيف المهزوم، والانتكاسة البشعة في الإنسانية، انقلبوا على كل من بقي من المسلمين في أرض مكة يعذبونهم، ولم يستطع حمزة و عمر رضي الله عنهما كأفراد أن يقوموا بحماية المؤمنين من هذه الحرب القرشية المنظمة في هذا الموقف العصيب، وتحت هذا الضغط القرشي الظالم، وخوفاً من استئصال عامة المسلمين في لحظات الغضب والتهور غير المحسوب وغير المدروس،

في هذا الموقف الصعب أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره بالهجرة مرة ثانية إلى أرض الحبشة، المرة الأولى هاجر (10) رجال و(4) نساء ثم عادوا إلى مكة، ثم عاد بعضهم إلى الحبشة من جديد، أما في هذه المرة فقد صدرت الأوامر بهجرة أكثر من (80) رجلاً مسلماً أو (82) أو (83) وكان فيهم عمار بن ياسر، وهاجر أيضاً: (18) امرأة (11) قرشية و(7) غير قرشيات، هذا غير الأطفال.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كقائد مسئول له أهداف واضحة ومحددة، والرؤيا عنده واضحة، فهو يتحرك بمرونة سياسية وفقهية عالية، الأهداف واضحة، والدعوة لابد أن تصل إلى عموم الناس، والدعوة لن تصل إلى الناس إلا عن طريق الدعاة، والدعاة وصلوا إلى مرحلة من الإيذاء يصعب معها استمرار الدعوة.

إذاً: فليكن القرار الحاسم الجريء في الوقت المناسب هجرة أكثر من 80 مسلماً، وهو ما يمثل نصف الطاقة الإسلامية تقريباً في ذلك الوقت، وهو قرار إستراتيجي خطير، موازنة بين الهجرة وترك الديار ونقل ميدان العمل إلى الحبشة، وبين البقاء في مكة واستمرار الدعوة، مع التضييق الشديد الذي تمارسه قريش، موازنة قد ينفعل الشباب ويقولون: نبقى مهما كانت النتائج، ولو أدى ذلك إلى الموت، فهذا موت في سبيل الله،


لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد السياسي المحنك والداعية الحكيم يعلم أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة، فالله عز وجل خلق النبات الضعيف ليناً طرياً مرناً، فمع الريح الشديدة يميل النبات حتى لا ينكسر، ثم عندما يشتد عود النبات ويصبح شجرة راسخة لها جذور عميقة؛ فإنها لا تميل أمام الريح الشديدة، بل تظل ثابتة وتمر الرياح مهما اشتدت قوتها من حولها، هكذا المؤمن الفقيه.

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار الجريء، وكان هذا القرار أصعب مائة مرة من قرار الهجرة الأولى، لماذا كان هذا القرار صعباً؟ وماذا فعل المسلمون في طريقهم من مكة إلى الحبشة في هجرتهم الثانية؟ وكيف استقبلهم النجاشي رحمه الله؟ وماذا كان رد فعل أهل مكة عندما علموا بهذه الهجرة الكبيرة إلى أرض الحبشة؟ وما هي الدروس العظيمة المستفادة من هذه الهجرة العظيمة الثانية إلى الحبشة؟ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ]غافر:44[ وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق