الأحد، 31 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-8



دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الحج


بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يزور الوفود التي تأتي لتحج في مكة، وبدأ يعرض عليهم الإسلام كعادته في ذلك، لكن بدأ يطلب منهم فوق هذا النصرة، وأن يساعدوه ويدافعوا عنه، فهو يريد بديلاً للمطعم بن عدي، وفي نفس الوقت لم يقل صراحة أنه سوف يحارب قريشاً، أو أنه سيقف أمامها؛ لأن المرحلة في ذلك الوقت كانت صعبة والوضع غير مستقر، وكل هذا يتم في ذي القعدة وذي الحجة من السنة العاشرة من البعثة.

أي: بعد كل الأحداث المؤلمة والمحزنة التي حدثت في الشهرين الماضيين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرك بمنتهى النشاط مع كل الظروف العادية التي تحصل لأي إنسان عنده بيت وأولاد، ولديه مسئوليات.

ومن هذا الموقف تصلنا رسالة هامة من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي لا عذر لأحد، فكلمة الظروف لم تكن موجودة في قاموس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس تعتذر بسبب الظروف: أنت لم تعرف ظروفي، ظروفي غير مناسبة، ليس من يديه في الماء كمن هي في النار! يا أخي الحبيب! أنا أريد منك أن تنظر بأمانة لظروف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتستطيع أن تحكم فعلاً إذا كانت ظروفك صعبة أم لا، فقد كان من الممكن أن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة، ويفتح قلوب العرب لكلامه من أول يوم في الدعوة، ويوفر عليه الجهد والتعب، ويريح قلبه بدلاً من خروجه من حزن ودخوله في آخر، لكن ربنا يعلمنا طبيعة الطريق، فمن الطبيعي أن يكون عندك مشاكل في طريق الدعوة، لكن ليس من المفترض أن توقفك، من الطبيعي أن تحاربك الناس وتؤذيك وتسخر منك، لكن ليس من المفترض أن يوقفك مثل هذا، الناس مريضة بمرض البعد عن ربنا سبحانه وتعالى، وأنت طبيبهم تعالجهم ولا تضربهم، وتحبهم ولا تكرههم.

هذه هي الرسالة التي أخذناها من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي أخذناها من مكة والطائف، والتي سوف نأخذها بعد هذا من المدينة المنورة، الرسالة واضحة، طريق الدعوة صعب، لكن لا بد أن نمشي فيه {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34] دعوة وبعدها تكذيب وإيذاء ثم صبر من الدعاة، وفي الأخير {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] فليس هناك طريق آخر، فهذا طريق الرسل، وطريق كل مسلم يحب دينه، ويريد أن يتحرك وسط الناس.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم الوفود التي أتت لتزور مكة، ذهب لبني كلب، ولبني كندة، ولبني حنيفة، وذهب لغيرهم، ومع ذلك ما قبل أحد منهم الإسلام، كل هذا وعمه أبو لهب يمشي خلفه في كل زيارة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على كل قبيلة، ويقول لهم: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتسمعوني وتصدقوا بي، حتى أُبين عن الله ما بعثني به، يريد منهم أن يسلموا ويدافعوا عنه، 

وأبو لهب هو أيضاً يبذل مجهوداً، فبعد أن ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه يقف ويقول لهم: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعماقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، يدعي أن هذا ما هو إلا البدعة والضلالة، وأيضاً يقول: فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فالناس يسألون ويقولون: من هذا؟ فيقال: عمه، فيقول: من المؤكد أنه يعرفه أكثر منا، فلا يؤمنوا، فيذهب أبو لهب فرحاً بنفسه، ويرى أنه قد أدى واجبه، ولا يعرف أنه يحفر لنفسه قبراً في جهنم، فهذا اسم على مسمى أبو لهب، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3] أي: أنه باسم النار التي سوف يدخلها.

كل القبائل رفضت الدعوة، ولم يكن هناك أحد يفكر، إلا قبيلة واحدة فقط التي أخذت الموضوع بجد وفكّرت في الإسلام، ولكن كانت هناك نقطة معينة اشترطوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلموا ويدافعوا عنه.
ما هي هذه القبيلة؟ وما الذي اشترطوه على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وما هو رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ 

هذه القبيلة هي قبيلة بني عامر، وهي من أعز قبائل العرب، وهي إحدى خمس قبائل لم تعرف في تاريخها كله سبياً لنسائها، ولا دفعاً لإثارة غيرهم، والمباحثات معها في غاية الحساسية، عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام وطلب منهم النصرة كبقية القبائل، وكان زعيمهم بيحرة بن فراس واهتم بالموضوع ووقف يقول لأصحابه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، وفي هذا يوضح لنا أن هذا الرجل بعيد النظر، فهو يعرف أن هذه الرسالة سيكون لها مستقبل، ومن يتبناها سوف يسيطر على جميع العرب، لكن في نفس الوقت من الواضح أنه انتهازي ونفعي، فهو لا يريد الإسلام لأنه يحبه، وإنما لأنه يحب الزعامة والسيطرة والرئاسة؛ لأنه بعد ذلك عرض على الرسول عليه الصلاة والسلام عرضاً في منتهى الإغراء، واسمع لهذا العرض، 

وضع في ذهنك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي مكة الدعوة مقفلة، والناس تحاربه، ولا توجد قبيلة ترضى بالإسلام أو بالمدافعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في إجارة المطعم بن عدي الكافر، ونصف المسلمين في الحبشة، وبقيتهم يعذبون في مكة

هذا واقع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان عرض بيحرة ؟ قال: أرأيت إن نحن بايعناك على هذا الأمر ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فهنا بيحرة يعرض أن يدخل في الإسلام هو وقبيلته، وأن يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد كل من يخالفه، وأن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الوضع الحرج الذي يعيشه، وأن يترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حال حياته يدعو إلى الله ويعلم ويربي ويأمر ويقود، لكن الشرط الوحيد هو: بعد أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى الأمر لقبيلة بيحرة ، والزعامة لـبيحرة في حال حياته أو لقبيلته من بعده. 

أعتقد أن هذا العرض في نظر أي سياسي من سياسيين الدنيا لا يُرفض فـبيحرة يقول له: أنا أساعدك إلى أن تصبح رئيساً وزعيماً، وستظل كذلك إلى أن تموت، وبعد أن تموت تنتقل الزعامة لنا، أي زعيم من زعماء الدنيا لا يهمه الدنيا جميعاً وما يحصل فيها بعد موته، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من زعماء الدنيا، فهو يخاف على الناس وعلى أمته وليس فقط في زمانه، فهو أيضاً يخاف على جميع الخلق الذين سوف يأتون من بعده وإلى يوم القيامة. تأمل رد الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبات على عرض بيحرة ، 

قال: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) فلو أنك تستحق، فالإسلام هو الذي سيعطيك الولاية، ولو أن غيرك هو الذي يستحق فهو من يُعطى الولاية، فالأمر في الإسلام لا يوهب لغير أهله مطلقاً. وهنا درس مهم وهو أن الحريص على الولاية في الإسلام لا يأخذها، فمن الخطر أن تكون ممن يريد الزعامة، وانظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو حرص عليه) 

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الناس أي شيء مقابل أن يسلموا، فقد يعطيهم المال والأغنام والذهب والفضة، لكنه لا يعطيهم الزعامة إلا إذا كانوا يستحقونها أو لا يريدونها؛ لأن فتنة الزعيم وضلال الزعيم لا يرجع عليه فقط، وإنما يعود على الأمة بكاملها، والزعيم الذي يريد الزعامة سوف يرتكب كل الموبقات والجرائم والتزوير ليحافظ على زعامته، والزعيم الذي يعيش لدنياه سوف يهمل دنيا الناس ودينهم، ولو أخذ قراراً في ظلم سيظلم به شعباً كاملاً، ولو مشى في طريق خطأ فسوف يمشي الشعب بأجمعه خلفه؛ ولهذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بيحرة .

رفض عرض الرجل الذي يريد زعامة وإن كانت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، رفض هذا العرض وهو في أمس الحاجة إليه ليضع قواعد واضحة عن خلقه وليس هناك خطوة واحدة في حياته إلا وفيها ألف كنز .

عندما قال هذا الكلام رفض بيحرة الإسلام، وبمقاييس أهل الدنيا فإنه من الجنون أن يوافق بيحرة ، كل واحد من أهل الدنيا يقول: وأنا أين نصيبي؟ لكن الذي يحمل هم الإسلام هو الذي ينسى نفسه تماماً ليخدم الناس. قال بيحرة : أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإن أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، وبهذا فشلت المفاوضات مع بني عامر، 

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في إرساء قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية، واحفظوها : (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو حرص علي ) . وبهذا ينتهي العام العاشر من البعثة، وانتهى عام الحزن الذي حمل مشاكل ومصائب من كل نوع، لكن مع كل هذه المشاكل والمصائب والهموم إلا أنه انتهى والرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال رأسه مرفوعاً، ويعمل صلى الله عليه وسلم بمنتهى الحماسة في دعوته، وإن لم يكن هناك الكثير من الناس آمنت في هذه السنة إلا أن الدروس التربوية والقواعد البنائية للأمة لا تُحصى ولا تُعد، هناك كم هائل من الدروس والعظات والعبر، من أهم الدروس :

الأول: أنه مهما كانت ظروفك فلابد أن تعمل لله .
الثاني: ليس من المهم أن يؤمنوا بدعوتك ويصدقوا كلامك، المهم أن توصل إسلامك؛ لأن مهمتنا التبليغ (( فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ  )) ]آل عمران:20[ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، ونسأله أن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))  ]غافر:44[
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق