الاثنين، 25 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 2- من الظلمات إلى النور-2


حال الدولة الفارسية قبل البعثة النبوية


ننتقل إلى جهة الشرق لنرى الدولة الفارسية التي كانت تمتلك نصف العالم الآخر في ذلك الزمن، وكانت تمثل مأساة حضارية بكل المقاييس! انهيار شديد في الأخلاق بلغ إلى ما يسمى بزواج المحارم، وهذا شيء رغم بشاعته إلا أنه كان منتشراً في الدولة الفارسية، فقد كان الرجل يتزوج من ابنته أو أخته أو أمه، كبار القوم وصغارهم في ذلك سواء، فكسرى يمكن أن يتزوج أي واحدة في المجتمع كله، وقد وقع من يزدجرد الثاني كسرى فارس أنه تزوج من ابنته ثم قتلها.


كذلك بهرام جوبين وهو أحد الأكاسرة كان متزوجاً من أخته، وبعضهم كان يتزوج أمه، وهذا الأمر كان مستنكراً في كل بقاع الأرض، وكل الشعوب تعيب على أهل فارس أنهم يتزوجون بالمحارم، ولم يقولوا: إن هذا متعارف عليه في المجتمعات؟ لا، بل كان هذا شيئاً منكراً ضد الفطرة، ولكنهم كانوا يفعلونه.


وسبب ذلك: أنه في عهد قباذ -وهو أحد الأكاسرة الكبار في تاريخ الفرس- ظهر رجل اسمه مزدك، وهناك من يضعه في طائفة الفلاسفة والمفكرين، قال مزدك: إن الناس سواسية في كل شيء! وكانت كلمته ظاهرها جيد، لكن هل هم سواسية في الحقوق، والمعاملة؟ لا، لم يرد هذا فقط، بل أراد سواسية حتى في المال والنساء، فلا يوجد احترام لأي ملكية في البلد، كل شيء مباح للناس كلها، كل شيء مشاع، يمكن لأي أحد أن يدخل إلى بيت الآخر ويأخذ من ماله ونسائه، فبالتبعية استفاد الأقوياء من هذا القانون على حساب الضعفاء، وكان الرجل القوي يدخل على الضعيف يغلبه على ماله وزوجته فلا يستطيع الضعيف أن يتكلم، بينما الضعيف لا يستطيع أن يدخل على القوي، ولا أن يعترض أو يرفع شكواه؛ لأن هذا أصبح جزءاً من الدين في بلاد فارس.


ثم عمت البلاد المشاكل؛ لأن كل الناس لا تريد أن تعمل؛ لأن كل من يعمل لا يملك شيئاً، فلماذا يعمل؟ وعمت السرقات كل مكان، وباركها كسرى قباذ؛ لأن هذا عنده من الدين الذي وضعه مزدك، وفسد الناس كلهم أجمعون.
قارن هذا بالذي سيأتي ويقول: (والذي نفس محمد بيده! لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) صلى الله عليك وسلم يا رسول الله.


وتقديس الأكاسرة في بلاد فارس كان أمراً عظيماً جداً عند عامة الناس، فالناس كانت تعتقد أن في دم كسرى هذا دماً إلهياً، وأنهم فوق البشر وفوق القانون، كان الرجل إذا دخل على كسرى ارتمى ساجداً على الأرض، فلا يقوم حتى يؤذن له، وأقرب الناس إلى كسرى وهم طبقة الكهان والأمراء والوزراء كانوا يقفون على بعد (5) أمتار، ومن أدنى منهم درجة على بعد (10) أمتار، والرسل كانوا يقفون على مسافة (15) متراً من كسرى، من أراد أن يدخل على كسرى ليضع على فمه قطعة من القماش الأبيض الرقيق، حتى لا تلوث أنفاسه الحضرة الملكية لكسرى!


بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استقبله رجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، يعني: يتواضع لجليسه حتى إنه لا يمد رجله أمام الجليس، كما روى ذلك الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه.


كانت هناك طبقية شديدة فيها مهانة كبيرة جداً للإنسانية، فقد قسموا شعب فارس من أوله إلى آخره سبع طبقات:

الأولى: طبقة الأكاسرة فوق الجميع.
الثانية: طبقة الأشراف وهؤلاء سبع عائلات، ولا يمكن أن يوجد شريف خارج هذه العائلات السبع.
الثالثة: طبقة رجال الدين.
الرابعة: طبقة رجال الحرب وقواد الجيوش.
الخامسة: طبقة المثقفين، ورجال العلم، والكتاب، والأطباء، والشعراء.
السادسة: طبقة الدهاقين، وهم رؤساء القرى، وجامعو الضرائب.
الطبقة السابعة: وهي طبقة الشعب، وهم أكثر من (90%) من مجموع سكان فارس، وهم: العمال، والفلاحون، والتجار، والجنود، والعبيد. وهذه الطبقة ليس لها حقوق تذكر.


كانوا يربطون بالسلاسل في المعارك، كما حدث في موقعة الأبلة، وهي أول موقعة إسلامية في فتح فارس، كانت بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، كان الفرس يربطون ستين ألفاً من الجنود بالسلاسل، كل عشرة في سلسلة، حتى إن الموقعة سميت بعد ذلك في التاريخ بذات السلاسل، ولك أن تتصور كيف يستطيع هؤلاء المقيدون في السلاسل أن يحاربوا قوماً وصفهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بقوله في رسالته إلى زعيم الأبلة في نفس الموقعة: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.


شيء آخر أيضاً في منتهى البشاعة، كان في بلاد فارس عبادة النار، ظهر رجل اسمه زرادشت في بلاد فارس، يعتبرونه من كبار الفلاسفة ليس فقط لأهل فارس بل للعالم بأسره، حتى إن صاحب (الخالدون المائة) وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، عدّه من ضمن الخالدين، وجعل رقمه (89)؛ لأن ديانته محلية، بينما ديانة الرسول صلى الله عليه وسلم وديانة المسيح عليه السلام عالمية، فهو يقول: من أجل هذا أخرته، وهذا أسلوب قبيح في التشبيه بين الأنبياء وبين هذا الرجل.


هذا الرجل هو الذي دعا إلى تقديس النار، وقال: إن نور الله عز وجل يسطع في كل ما هو مشرق وملتهب، ومن ثم حرم الأعمال التي تتطلب النار، واكتفت الناس بالزراعة والتجارة.
والنار لا توحي لعبادها بشريعة ولا تضع لهم منهجاً، فشرع الناس لأنفسهم حسبما تريد أهواءهم، وعم الفساد في بلاد فارس.
إذاً: هذا هو وضع الدولة الضخمة الأخرى المشاركة للدولة الرومانية في حكم الأرض في ذلك الزمن.









حال أوروبا الشمالية قبل البعثة النبوية


أوروبا الشمالية، وهي: إنجلترا، والدول الإسكندنافية السويد والدنمارك وفنلندا وألمانيا.
هذه المناطق الشمالية من أوروبا كانت خارج حدود الدولة الرومانية، يقول عنها المؤرخ الفرنسي رينو -وشهد شاهد من أهلها: طفحت أوروبا في ذلك الزمن بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر وشيوع الظلم والاضطهاد، فشت فيها الأمية، للدرجة التي كان الأمراء يفتخرون بأنهم لا يستطيعون أن يقرءوا، والعلماء كانوا في مهانة شديدة في هذه البلاد، هذا إن وجدوا.


قارن هذا بدين كانت أول كلماته {اقْرَأْ} [العلق:1] كما قال الله عز وجل.
ثم قال: كانت أوروبا مسرحاً للحروب والأعمال الوحشية.
ويقول جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) يصف وضع أوروبا: لم يجدوا في أوروبا بعض الميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر والثاني عشر من الميلاد.
وهذا موافق للقرن الرابع والخامس الهجري.
ثم يقول جوستاف لوبون: وذلك حين ظهر فيهم أناس أرادوا أن يرفعوا أكفان الجهل، فولوا وجوههم شطر المسلمين الذين كانوا أئمة عصرهم.


وهذا الكلام كان بعد أربعة أو خمسة قرون من نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة (اقرأ).
إذاً: كيف كان الوضع قبل هذا؟ كتب مؤرخ أندلسي اسمه صاعد كتاباً اسمه (طبقات الأمم) وهو كتاب رائع، يصف فيه حال البلاد في زمانه، وقد توفي في القرن الخامس الهجري سنة (462هـ) في طليطلة، يحكي حال البلاد الشمالية في القرن الخامس الهجري فيقول: كانوا قوماً أشبه بالبهائم، وقد يكون ذلك من إفراط بعد الشمس عن رءوسهم فصارت بذلك أمزجتهم باردة، وأخلاقهم فجة رديئة، وقد انسدلت شعورهم على وجوههم، وعدموا دقة الأفهام، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشت فيهم الغباوة.


وهذا الرحالة الأندلسي إبراهيم الطرطوش يصف أهل جليقية الذين كانوا يعيشون في شمال إسبانيا، قال: هم أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد، لا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تتقطع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوهم من عرقهم تصح به أبدانهم.


قارن بين هذا وبين دين يأمر بالوضوء خمس مرات في اليوم، والاغتسال من الجنابة، ويوم الجمعة، وفي الأعياد، ويأمر باجتناب صلاة الجماعة -وهي من أشرف العبادات- لمن أكل ثوماً أو بصلاً! انظر إلى احترام الإنسان للإنسان، ومدى تكريم الله عز وجل لعباده المؤمنين!


يروي ابن فضلان الرحالة المسلم في القرن الرابع الهجري ما شاهده بنفسه من موت أحد السادة في أوروبا، فجاءوا بجارية له كي تموت معه، فشربت الخمر ورقصت وقامت بطقوس معينة، ثم قيدوها بالحبال من رقبتها، ثم أقبلت امرأة عجوز يسمونها ملك الموت وبيدها خنجر كبير، ثم أخذت تطعنها في صدرها بين الضلوع في أكثر من موضع، والرجال يخنقونها بالحبل حتى ماتت، ثم أحرقوها ووضعوها مع سيدها الميت، وهم بهذا يحترمون إنسانية السيد كما يظنون!


قارن هذا بما جاء به الإسلام وتعجب من أجل أن تعرف دينك، جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) سواء كان هذا العتق على سبيل الوجوب أو الاستحباب. فهذه نظرة الإسلام لمعاملة الرقيق.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق