الجمعة، 29 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 7- تربية الثبات-6



تعظيم قدر الله في قلوب المؤمنين


السبب الأول في زرع الصبر في قلوب المؤمنين: تعظيم قدر الله عز وجل.
لو كنت معظماً قدر الله سبحانه وتعالى في قلبك لا يمكن أن يهمك كل ألم يمر بك هذه الآلام؛ لذا تجد القرآن المكي يتكلم كثيراً عن تعظيم قدر الله عز وجل، يتحدث عن صفات الله عز وجل، عن جبروت الله عز وجل، عن عظمة الله عز وجل، عن قدرة الله عز وجل، عن أن الله عز وجل بيده كل شيء ولو كان سيصيبك ضر لابد أنه سيصيبك، ولو اجتمع أهل الأرض لحمايتك فلن ينفعوك، وعلى العكس لو أراد بك الرحمة لابد أن تحدث، وإن اجتمع أهل الأرض ليمنعوك منها،

يقول الله في سورة الأنعام المكية: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، لو كنت فعلاً مصدقاً بهذه الكلمات ستعرف أن نصيبك من الألم ستأخذه؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يقع بك ذلك الألم، فلابد أن يقع، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18]،

كل واحد مكتوب عليه نصيبه من الألم من ظالم أو مظلوم، كافر أو مؤمن، وإن لم يعذب في سبيل الله فسيعذب بصورة أخرى، من وجع في ضرسه، وسرطان في جسمه، وكسر في رجله، وصداع في رأسه، {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، قد يكون نصيبه من الألم معنوياً، وهو أشد من الألم المادي، لعل له ابناً فاشلاً يشرب المخدرات أو يكون عاقاً لوالديه، أو منعدم الأدب، أو زوجته منكدة عليه حياته، أو رئيسه يهينه كل يوم يعيش في تعاسة وشقاء، حتى لو كان أمام الناس تبدو عليه السعادة وممكن له في الأرض فهو في معيشة ضنكاً.

كل الناس تحس بالألم، {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، لكن المسلم يتعذب كل هذا التعذيب وهو منتظر الجنة في الآخرة، لكن الظالم مسكين يتعذب في الدنيا بالطريقة التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى، وفي الآخرة يعذب في جهنم، عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة، فلماذا لا يصبر المؤمن؟!

إذاً: المؤمن عندما يعظم قدر ربنا سبحانه وتعالى يستسهل التضحية من أجل الله عز وجل؛ لأنه يعلم أن كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى، وأن كل شيء قدره الله عز وجل لابد أن يحدث وأن يتحقق، سواء كان نعمة أو مشقة.






رفع قيمة الآخرة في قلوب المؤمنين


السبب الثاني: رفع قيمة الآخرة في عيون المؤمنين.

وهذا أسلوب من أروع الأساليب في تربية الصف المؤمن على التحمل والجلد والصبر، وتوسيع مدارك المسلم، وليعلم المقياس الحقيقي بين الدنيا بكل ما فيها من مصاعب ومشاق وألم وعمل، وبين الآخرة وما فيها من خلود، إذا أدرك الناس أن هناك يوماً ما سيحاسبون فيه على ما يعملون، وكان هذا العلم علماً يقينياً، وأدركوا أن الذي سيحاسبهم هو إله قادر عليم حكيم جبار قاهر سبحانه وتعالى، فإنهم ولاشك سيعملون له؛

لأجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أول يوم لدعوته للناس (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً).

نحن أحياناً نعاني من خلل تربوي خطير، وهو أننا لا نركز على رفع قيمة الآخرة في عيون المؤمنين، راجع القرآن المكي؛ لتعرف طبيعة المرحلة، إذا كانت الدعوة مضطهدة، والظلم مستفحلاً والأعداء كثر، فلابد من التركيز على رفع قيمة الآخرة في عيون المسلمين.

كما تحدث القرآن المكي عن الجنة؟ لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من التذكير بالجنة والتذكير بالنار.

عش في الجنة التي كان يعيش فيها الصحابة وهم لا يزالون في الدنيا، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12]، أنا أريدك أن تتخيل أحد الصحابة وهو في بيت الأرقم بن أبي الأرقم يسمع هذه الآيات والتعذيب ينتظره في الخارج، كم سيكون حجم التعذيب بالنسبة للذي يسمعه عن وصف الجنة؟ لا شيء،

إذا قورن أي ألم بالخلود في النعيم سقط {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا } [الإنسان:12 - 22].

تخيل مؤمناً يسمع هذه الآيات ويعيش فيها، ثم يأتي عدوه ليعذبه ويحرمه جرعة الماء، أو الظل، أو يجلده أو يصلبه أو يقتله، ما الضير في ذلك؟ أليس منتقلاً من هذه الحياة بهمومها ومتاعبها إلى تلك الجنة العظيمة الخالدة؟!

إذاًَ اسمع آيات القرآن الكريم المكي بهذا المفهوم، بأذن الصحابي الذي يعذب، لم يكن للتعذيب عندهم أي قيمة، هنا ستفسر لك أشياء غريبة على أسماعنا، مثل: موقف حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه لما طعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره فقال: فزت ورب الكعبة! أي فوز فازه هذا وقد مات، وفقد كل شيء في عرف أهل الدنيا؟ هو يعتبر نفسه فائزاً؛ لأنه سينتقل من أرض الجهاد إلى الجنة مباشرة، مات شهيداً، وقد وعد الله الشهيد بأن يدخله الجنة بغير حساب.

إذاً: لماذا لا يقول: فزت ورب الكعبة؟ نفهم من هذا أن تعظيم قيمة الآخرة يصبر المؤمنين لا محالة على كل ألم وأذى ومشقة في سبيل الله عز وجل.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق