الثلاثاء، 26 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 4- بدء الوحي-2

قصة نزول الوحي وأهميته

سنبتدئ القصة من الآن، لكنها بداية غير تقليدية، لن نبتدئ من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من نقطة نزول الوحي، وليس هذا تقليلاً من أهمية الأربعين سنة من حياته صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، لكن منظور هذه المجموعة هو كيف نبني أمة؟ نحن لن نحكي حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الممات، لكن سوف نستخرج نقاطاً هامة تفيد في بناء الأمة الإسلامية.


الإسلام كدين وكشرع وطريقة بدأ على الأرض منذ لحظة نزول الوحي، ولذلك سنبدأ بالحديث من هذه النقطة، فهذا لا يمنع من أننا نرجع لتحليل بعض النقاط في حياة رسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إذا كان لها علاقة في التمهيد للبعثة، لكن هذا لن يكون بالترتيب المألوف.


كانت لحظة نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء لحظة عظيمة في تاريخ البشرية، بل إنها أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض ككل إلى يوم القيامة، كثيراً ما نسمع عن هذا الحدث المهيب، لكن القليل منا من يعطي لهذا الحدث قدره، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولاً إلى الإنسان، ما رأيك لو أنك تلقيت رسالة من زعيم دولة عظمى ووصلت إلى بيتك، يقول لك فيها: أنا أحبك، وخائف عليك، ومهتم بك، وعندي لك خير كثير.


ما موقفك لو تلقيت رسالة بهذا الوعد من هذا الملك العظيم، ولله المثل الأعلى؟! يا ترى كيف سيكون اهتمامك بالرسالة؟ إن الله سبحانه وتعالى بعظمته وجبروته وقدرته وقوته أرسل رسولاً إلى هذا الإنسان البسيط الضعيف الذي يعيش على ظهر كرة معلقة في الفضاء، لا تكاد ترى في الكون الفسيح، هذا حجم الأرض بالنسبة لحجم الكون، فكيف سيكون حجم الإنسان بالنسبة لحجم الأرض؟ حجم الإنسان بالنسبة لحجم الكون شيء لا يتخيل، كذلك حجم الإنسان بالنسبة للملائكة.


إن الناس لا يقدرون لهذا الحدث قدره؛ لأنها لا تعطي لله عز وجل قدره.
إن الله جل وعلا لا يحتاج إلينا ولا لغيرنا، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ومع ذلك من رحمته بنا وحبه لنا أرسل إلينا رسالة هداية وبشرى وإنذار، وهذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، على أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، بأشرف الكلام القرآن الكريم.


في لحظة الوحي هذه نزل الكلام الذي سيظل دستوراً في الأرض إلى يوم القيامة، هذا الحدث فيه تكريم للإنسان، كما قال ربنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، ومن أعظم صور التكريم أن أنزل له الوحي، ونزلت له الهداية من رب العالمين سبحانه وتعالى.


أحياناً لا يقدر الإنسان قيمته كإنسان، والله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، وأرسل له رسولاً من السماء إلى الأرض، وأتى معه بدستور كامل يوضح له كل نقطة في حياته، لكن الإنسان لا يقدر قيمته كإنسان، فأحياناً يقضي حياته في ترف وملذات وشهوات وأوقات ضائعة وطموحات تافهة، وأحياناً يظلم غيره ويؤذيه ويعذبه، هو لا يدري أنه إنسان مكرم يظلم إنساناً مكرماً، بل إن قيمة الإنسانية تنحدر إلى درجات هي أقل بكثير من درجات الحيوانية، لكن التفكر في لحظة الوحي يغير كثيراً من مفهوم الإنسان عن نفسه، وإخوانه من البشر، والأرض التي يعيش عليها.


الوحي عبارة عن رسالة من رب العالمين إلى الإنسان، رسالة لك ولي ولكل واحد على وجه الأرض، افعل ولا تفعل.
الوحي هداية ونور ودليل ليس مجرد تكاليف وقيود أبداً.
الوحي نعمة ورحمة من ربنا سبحانه وتعالى، الله عز وجل المطلع على كل شيء، العالم بكل شيء، الذي يدرك الماضي والحاضر والمستقبل يقول لك: من مصلحتك في هذه النقطة أن تفعل كذا، وإياك إياك أن تفعل كذا، فاتباعك للوحي فيه سعادة الدنيا والآخرة، ومخالفتك للوحي فيه شقاء الدنيا والآخرة.


تخيل نفسك تائهاً في الصحراء ولا تدري أين الطريق، وأنت على مشارف الموت، وفجأة وجدت دليلاً ليس فقط يأخذك لمكان فيه أكل أو شرب، لا، بل لأحسن مكان في الكون ولا يريد منك أي شيء، كل هذا من أجل مصلحتك، فهذا هو الوحي في وسط التيه الكبير الذي تعيشه البشرية يأتي ليأخذ بأيدي الناس إلى السعادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة في الجنة.


يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:123 - 124] أي: من يعيش في التيه الذي اختاره بنفسه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126] أي: أتاك الوحي فنسيته، وسمعت به ولم ترض أن تتبعه، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، تداعيات ضخمة تحدث للإنسان بحسب فقهه لقيمة الوحي، الذي يتبع الوحي لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآخرة، والذي يعرض عن الوحي يعيش حياة الضنك، ويحشر يوم القيامة أعمى.


وعن
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك)، هذا دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ يضرب له مثلاً يوضح له حاله وحال أمته، وحال الجنة وحال الدنيا بصفة عامة، يقول: (إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها).


وفي رواية البخاري يقول: (فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله).


وفي رواية أحمد : (فمن اتبعه دخل الجنة، ومن لم يتبعه عذب عذاباً شديداً)، يعني: الوحي يدعونا إلى الجنة، ودخول بيت الرحمن، والأكل من مائدته سبحانه وتعالى في الجنة، فلو اتبعنا الوحي سندخل الجنة، وإن لم نتبعه فسنعذب عذاباً شديداً.


كل الناس يعلمون هذا، لكنهم لا يعطون للوحي قدره؛ لأنهم للأسف الشديد لا يعطون لله عز وجل قدره وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، لو أن الناس عظموا ربنا سبحانه وتعالى وقدروه حق قدره لما عصوه، لكنهم ينسون، وهذا النسيان يقود إلى مهالك ضخمة في الدنيا والآخرة. 


إذاً: الوحي رسالة من رب العالمين سبحانه وتعالى، ونحن نريد أن نفهم قصة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها على أساس أن حياة الرسول كلها من أولها إلى آخرها وحي: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، حتى النوافل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحي، كما أن صيام رمضان وحي فإن صيام الإثنين والخميس والأيام البيض وحي، لكن الوحي قال: هذا فرض، وقال: هذا نافلة، كل نقطة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي، حتى فيما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان مخالفاً لما أراد الله عز وجل من البشر، ينزل الوحي ليوضح مراد الله عز وجل، لتكون حياة الرسول من أولها إلى آخرها قدوة وأسوة للمسلمين: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

إذاً: نتعلم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لخير الإنسان، ولخير المجتمعات، ولخير الأرض جميعاً، ولخير الآخرة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق