الثلاثاء، 26 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 3- من هنا بدأ الاسلام-6

وجود بقايا من ملة إبراهيم في الجزيرة


الحكمة الخامسة من وراء نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن أهل هذه البقعة من الأرض كانوا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويعلمون أنه الخالق، ولكنهم حكموا غيرهم في حياتهم، واتخذوهم إليه شفعاء، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
ويقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].


الذي يؤمن بالله ولكن عنده اضطراب في فهمه وقصور في إدراكه أقرب من الذي يؤمن بإله آخر، أو لا يؤمن بوجود إله أصلاً، ما كان في وقت البعثة النبوية على الأرض من يفقه هذه الحقائق إلا القليل، كان هناك على ظهر الأرض من يعبد النار وبوذا، والمسيح عليه السلام، وبقرة أو شجرة أو فأراً أو إلخ، كما هو واقع في الهند، لكن ربنا سبحانه وتعالى يعلمنا أن ندعو الأقرب فالأقرب، ندعو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل قبل الذي ينكر وجوده، ندعو الذي يعظم الله عز وجل قبل الذي لا يعظمه، ندعو الذي يحب الدين ولكن لا يتبعه قبل الذي لا يحبه أصلاً.


ولست ضد دعوة اليهود والنصارى وأهل الأرض أجمعين، بل بالعكس، ولكن نبدأ بالأقرب فالأقرب، يعني: لا تترك جارك في السكن أو العمل أو النادي أو غيره دون دعوة وهو مسلم، وتتجه إلى دعوة غيره من غير المسلمين، لكن لو انتهيت من الدائرة التي حولك انتقل إلى الدائرة التي تليها، ولما تنتقل إلى الدائرة التي تليها ابحث عمن يحبون الإسلام، فهؤلاء أقرب إلى الدعوة من المعادين لدين الله عز وجل.





صفات خلقية أهلت العرب لحمل رسالة الإسلام

الحكمة السادسة من نزول الرسالة في جزيرة العرب مع كل ما سبق من أجواء أخلاقية وأمراض اجتماعية في جزيرة العرب إلا أن المجتمع كان يتصف بصفات أصلية في فطرة ساكني هذه المنطقة، تساعد على حمل الدعوة ونشر الإسلام، نعم، كان عندهم ظلم وقهر لكن، كان عندهم صفات جبلوا عليها، وهذه الصفات لا بد أن تكون في كل داعية، ولولا هذه الصفات لما استطاعوا حمل رسالة الإسلام.


من هذه الصفات على سبيل المثال: الصدق، وهي أهم صفة مميزة للداعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أهم صفة كانت مميزة له الصدق، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وأكثر من ساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، اسمه: الصديق، فصفة الصدق صفة أساسية في الذي يحمل هم هذا الدين.


وتفكر معي ماذا لو أنزلت الرسالة في بيئة من البيئات الكذب منتشر فيها؟ انظروا إلى فعل اليهود والنصارى بدينهم، يقول الله عنهم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78] والإسلام يحول الكذاب إلى صادق، لكن ليس بالصورة التي فطر فيها الإنسان على الصدق.


فقد كان العرب يأنفون من الكذب، فيأتي الإسلام بعد ذلك ليحسن ويجمل ويعظم قيمة الصدق عند هؤلاء الصادقين، فيربط الأمر بالجنة، والصديقية عند الله سبحانه وتعالى.


فهذا أبو سفيان لما كان يتحدث مع هرقل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، وكان لا يزال مشركاً يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال أبو سفيان: كنت أنا أقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل: أدنوه مني -أي قربوه- ثم قال: قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن النبي فإن كذبني فكذبوه، وبدأ يسأله ووضع أصحاب أبي سفيان وراءه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عمداً.


هو يكرهه جداً، لكن يستحي أن يكذب؛ لأنها رذيلة.
وفي لفظ آخر يقول: فوالله لو كذبت ما ردوا علي -لأنه سيد القوم- ولكني كنت امرأً أتكرم عن الكذب.
وكان الحوار الذي دار بينه وبين هرقل حواراً عجيباً، كأنه داعية يتكلم عن الإسلام، ويدعو إليه.


يقول له هرقل: كيف نسبه فيكم؟ يقول: هو فينا ذو نسب.
فيقول له: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ قلت: لا، قال هرقل: فهل يغدر؟ قلت: لا.


ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، يعني: قوله: نحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، لاحتمال أن يغدر بنا، لكن هو قال: لم يغدر قبل ذلك، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا -مثل بدر- وننال منه -مثل أحد-.
قال: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.


لم يكذب، وكل الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته لخصه لـ هرقل؛ لأنه يكره الكذب.
فلما تنزل الرسالة على أناس بهذا التكريم لصفة الصدق سوف يتحركون بالرسالة بأمانة ويقولونها للناس مثلما نزلت عليهم بالضبط.
إذاً: هذه كانت صفة هامة في أهل الجزيرة العربية، ولم تكن موجودة في أهل الأرض في ذلك الزمن.



الصفة الثانية العظيمة في العرب لما نزلت فيهم الرسالة: صفة الكرم، وهي صفة أصيلة في العرب، كان حاتم الطائي يضرب به المثل في الكرم، وكان يعتق العبد إذا جاءه بضيف؛ لأنه يحب الكرم.


ومن العرب من لم تكن له إلا ناقة واحدة فيأتي له ضيف فيذبحها له كرماً منه

وفي ماذا نحتاج نحن الكرم في إنشاء الأمة الإسلامية؟ إن الله سبحانه وتعالى لما تكلم عن الناس التي ستأخذ هذه المسئولية نص على الجهاد بالمال، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة:20]، فجعل المال نصف الجهاد، وكثير من آيات القرآن الكريم جاءت على هذا المنوال، يقدم الله عز وجل الجهاد بالمال حتى على الجهاد بالنفس، وهذا أمر تحتاج الناس كلها إليه.

فهذا أبو بكر الصديق الكريم رضي الله عنه وأرضاه أنفق الأموال الكثيرة في إعتاق العبيد، وتجهيز الجيوش، والإنفاق على الهجرة. وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه جهز جيش تبوك كله، واشترى بئر رومة، وقام بتوسعة المسجد النبوي.
وفي زمن القحط تصدق عبد الرحمن بن عوف بقافلة تجارية كاملة أكثر من سبعمائة ناقة داخل المدينة المنورة في سبيل الله.


وطلحة بن عبيد الله أنفق سبعمائة ألف درهم في يوم واحد على الفقراء.
وما كان ليتحقق لو كان المسلمون فيهم بخل.
إذاً: الكرم شيء هام جداً لبناء الأمة الإسلامية، والرجل الذي يتصف بالبخل من الصعب أن يصل إلى هذه الدرجات من الإنفاق، فبناء الأمم يحتاج إلى كرم وبذل وإنفاق.



صفة ثالثة كانت موجودة في العرب: الشجاعة، كان العرب قبل الإسلام يفتخرون بالموت قتلاً، ويستهينون بالحياة تماماً، ليس عنده أي مانع أنه يفقد حياته كلها وفاء لكلمته، أو دفاعاً عن صديقه، أو حماية لجواره. قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً على الفراش، ولكن قطعاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف.


إذا كنا قد ذكرنا منذ قليل أن نصف الجهاد بالمال فالنصف الآخر بالروح وهذا أشق؛ لأن بناء الأمم كما يحتاج إلى أموال وكرم يحتاج إلى أرواح وهمم، والجبان قد يقتنع بقضية المال ولكنه لا يقوى قلبه أبداً على الإقدام عليه. أما العرب فقد كانت شجاعتهم فطرية، وهذا ساعد الأمة الإسلامية أن تنشأ وتنمو بسرعة في هذه البيئة، فـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان يبدأ المعارك بنفسه، ويقول: إذا رأيتموني حملت على العدو فاحملوا، أول علامة وأول إشارة للقتال أن يبدأ القائد بالتحرك، مع أنه يمكنه أن يقف وراءهم، لكنه لا يخاف الموت. 


والبراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ألقاه جيش المسلمين في موقعة اليمامة داخل حديقة الموت، التي كان فيها مسيلمة الكذاب ومعه أربعون ألفاً من المرتدين؛ حتى يفتح لهم الباب من الداخل، لم ير لقضية الحياة أهمية، فقد جاء الإسلام ليحسن ويجمل من هذه الصفة ويجعلها في سبيل الله، تموت لتدخل الجنة، لتصير شهيداً في سبيل الله، لكن الجبان يصعب عليك أن تزرع فيه هذه المعاني.
إذاً: صفة الشجاعة كانت صفة في غاية الأهمية لبناء الأمة الإسلامية.


صفة أخرى كانت موجودة أيضاً في العرب: وهي صفة العزة.
فالعربي بفطرته يأبى أن يعيش ذليلاً، يأنف من الذل، يرفض الضيق، يعشق الحرية، فهذا عنترة -وقد مات كافراً قبل الإسلام- يقول: لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل أي: لا أريد أن أعيش أبد الآبدين ذليلاً، لكن أشرب الحنظل وأموت عزيزاً. ثم يقول: ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل لم يكن عنترة يؤمن بجهنم؛ لأنه لا يعلم بالبعث أصلاً، فقد كان كافراً قبل الرسالة، لكن يقصد بجهنم النار الشديدة، يعني، أموت وسط النار الشديدة مرفوع الرأس أحب إلي من أن أعيش ذليلاً خارجها.


هذا كان موقف العرب من العزة، والعزة شيء تحتاجه الأمة الإسلامية أشد الاحتياج، ولا شك أن الأمة التي تنشأ على هذه الروح وهذه العزة لا بد أن تسود وأن تقود.
يأتي الدين الإسلامي ليوجه هذه العزة لله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10] ولهذا كان قبول المسلمين في فترة مكة لفكرة عدم القتال، وعدم رفع الظلم الذي وقع عليهم، أصعب وأشق من قبول فكرة الجهاد في سبيل الله، وبذل الروح بعد ذلك لما ذهبوا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم تعودوا على رفع الرأس.
وهذه صفة لا تنفك عن أولئك الذين يحملون أمانة إقامة هذه الأمة. 


صفة أخرى أيضاً في العرب: وهي الصبر وقوة التحمل.
اكتسب العرب هذه الصفة من طبيعة البلاد التي يعيشون فيها، فهم يعيشون في بلاد جافة، وظروف المعيشة عندهم صعبة قاسية، كانوا بصفة عامة أبعد الناس عن الترف، فكانت هذه الصفة من الصفات العظيمة التي كفلت للدعوة النجاح، كان لا بد من الصبر لتحمل مشاق الرسالة الضخمة، صبر على الفقر ولمدة طويلة، صبر على الجوع؛ لأن الجهاد يحتاج لذلك، يقيم الواحد صلبه بتمرات قليلة، صبر على المشقة والحر والتعب والسفر الطويل والحصار الأطول، صبر على القتال والنزال والجهاد، صبر حتى على تأخر النصر، لا يستعجل، لا يمل، لا يضجر، من كانت هذه صفته وكان بعيداً عن الترف كان دعامة راسخة للأمة الإسلامية. 

إذاً: كانت هناك حكمة عظيمة جداً في اختيار هذا المكان دون غيره حتى تنزل فيه الرسالة وتنشأ فيه الأمة.


هناك صفات خاصة جداً تمتع بها هذا المكان، وصفات تمتع بها ساكني هذا المكان، ولو تكررت هذه الصفات في زمن من الأزمان، فستقوم الأمة من جديد بنفس الطريقة وبنفس النجاح إن شاء الله. 


هذا تلخيص القواعد الهامة لبناء الأمة الإسلامية، وهي عشر قواعد: 
القاعدة الأولى: لابد أن تحافظ الأمة على نقاء رسالتها ووحدة مصدرها، وعدم خلط القرآن والسنة بالمناهج الأخرى.
القاعدة الثانية: اعتقاد أن النصر من عند الله عز وجل، وقد جرت سنة الله عز وجل أن ينصر القلة المؤمنة على الكثرة المشركة. 

القاعدة الثالثة: على المسلمين أن يستفيدوا من كل قانون موضوع، ما لم يكن هناك تعارض مع الشرع والعقيدة الصحيحة، فإن حدث التعارض يقدم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 
القاعدة الرابعة: الجيل الذي يستطيع أن يبني هذه الأمة هو جيل يتقن اللغة العربية ويعظمها ويتعلم اللغات الأخرى، ولكن لا يقدمها على لغة القرآن. 
القاعدة الخامسة: ابدأ بدعوة الأقرب فالأقرب، وأقرب الناس إلى الاستجابة هم المسلمون أنفسهم، جيرانك، أصحابك فابدأ بهم. 
القاعدة السادسة: لا تقوم الأمم إلا على أكتاف الصادقين. 
القاعدة السابعة: ابدأ بالكريم فإنه أقدر على حمل الدعوة. 
القاعدة الثامنة: الجبان قد يقتنع بقضية المال ولكن قلبه لا يقوى على الدفاع عنه، فعليك بالشجاع. 
القاعدة التاسعة: لا يحرص على قيام الأمة إلا عزيز النفس، ومن كان يرضى بالذل قَبِلَ أن يكون في ذيل الأمم. 
القاعدة العاشرة: الترف مهلكة، والمعتمد على المترفين كالذي يبني قصراً من الرمال، فابحث عمن كان الصبر صفته، وعمن كانت المجاهدة حياته. كانت هذه هي القاعدة الأخيرة المستخرجة، وتلك عشر كاملة.

أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بها، وأن ينير طريقنا بمنهج القرآن، وبهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق