الخميس، 28 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 5- الدعوة سرا-2

الحكمة من الدعوة السرية


لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة، بل لكل إنسان على ظهر الأرض، وربما تصور المرء أن أسهل وسيلة لهذا أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمر فيه بالبلاغ ويعلن للناس أمر الإسلام، لكن هذا لم يحدث، فماذا فعله صلى الله عليه وسلم؟ كان صلى الله عليه وسلم ينتقي رجلاً من رجال قريش، ثم يخبره سراً عن الإسلام، وكان يعلم أصحابه أن يفعلوا هذا، وقد ظلت الدعوة السرية فترة طويلة جداً بالقياس إلى عمر الدعوة الإسلامية، فالدعوة السرية امتدت حوالي ثلاث سنوات، والدعوة كلها (23) سنة.


قد يتصور البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا وقال للناس: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟)، يظن أن هذه المقولة كانت في بادئ الدعوة، لا.
بل كانت بعد ثلاث سنين كاملة من نزول الوحي.


وهي فترة كبيرة جداً أيضاً في حق مجتمع صغير كمكة، لكن لماذا هذا الوضع؟ ولماذا هذا التخفي؟ قد يتحمس المرء ويقول: دعوة الإسلام دعوة جميلة ومقنعة وعقلية، ولو وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط مكة وأعلن عنها لسوف يسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن، لكن هذا لم يحصل ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعرف أن دعوة الإسلام وإن كانت جميلة ومقنعة، إلا أنها ستتعرض إلى معارضة وحرب، ليس فقط من قريش، بل من العالم كله.


ثم لو أتى سائل يسأل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً على نفسه من قريش؟ سأقول له: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن كانت هذه هي الحكمة، كل خطوة في حياته صلى الله عليه وسلم كانت محسوبة، تستطيع أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختياراً نبوياً، ولكنها كانت أمراً إلهياً، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعلمنا منهج التغيير في مثل هذه الظروف، كيف يمكن للأجيال التي ستأتي بعده أن تغير في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إذا توافقت الظروف مع ظروف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة كيف يتصرف؟ 


والله سبحانه وتعالى قادر أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يصل إليه أي أذى من قريش، ومع ذلك هو يريد أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين، مهما اختلفت الظروف، ومهما كثرت المعوقات؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بها أمته بعد ذلك، وعلّم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع كل حدث؟ كيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود أي معوق؟


موقف المسلمين في الاتحاد السوفيتي
أنموذج للدعوة السرية

كون الدعوة سرية في السنوات الثلاث الأولى من الإسلام، لحاجة المسلمين إلى هذا الأسلوب السري في الدعوة إذا توافقت الظروف مع هذه الفترة، وعلى سبيل المثال: المسلمون في الاتحاد السوفيتي قبل أن يسقط كانوا يعيشون في مثل هذه الفترة، الإلحاد في كل مكان، كان حمل المصحف أو حتى الاحتفاظ به في البيت جريمة يعاقب عليها القانون، من اكتُشف أنه يصلي أو يصوم يُعاقب ويُعذّب وقد يُقتل، فكان لابد أن تكون هناك سرية تامة في هذه المرحلة، ولو لم يفعلوا ذلك لاختفى الإسلام من هذه البلاد، 


لكن كانوا يتعلمون في ديار كدار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه وأرضاه، كانوا يحفظون القرآن في سراديب وخنادق وكهوف الجبال، والحمد لله مرت السنوات وبقي الدين وبقي المسلمون ورُفعت الغُمة، فما الذي حفظهم؟ حفظهم فقه المرحلة، نعم، ربنا سبحانه وتعالى هو الحافظ، وهو المعين، لكن هناك أسباب، والأسباب الصحيحة هي التي أخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الظرف الذي كان يعيشه المسلمون، 

لو أعلن كل واحد من المسلمين إسلامه في الاتحاد السوفيتي وفتح صدره لنيران الشيوعية، لاختفى الإسلام من بقاع كثيرة في الأرض، وسوف يموت الشهداء لكن أين الدعوة وأين الإسلام؟ ففقه المرحلة كان هاماً جداً، ووجود المثال النبوي الحكيم في إخفاء الإسلام في مثل هذا الظرف كان معلماً لهم، وكان مؤيداً لمنهجهم، كان معهم دليل شرعي قوي يؤيد هذه السرية.

اختلفت الظروف بعد ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتبعية سيختلف منهجه صلى الله عليه وسلم في إيصال دعوته للناس وفي تربيته للمؤمنين، سيأتي زمان بعد هذا يُعلن فيه البعض إسلامهم ويكتم المعظم، مثل إسلام سيدنا عمر وسيدنا حمزة رضي الله عنهما، وسيأتي زمان يعلن الجميع وتكون التربية في العلن، وذلك بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وسيأتي زمان سيدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه زعماء العالم إلى الإسلام، وهذا بعد صلح الحديبية، كل هذا سيحدث؛ حتى لا يأتي أحد من المسلمين ويستشهد بفعل من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم والظروف مختلفة، وإلا فلماذا هذا التنوع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ليعلمنا الحكمة الحقيقية في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عند تشابه الظروف.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق