السبت، 30 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-6


فك حصار الشعب

بعد ثلاث سنوات من حصار الشعب شاء الله عز وجل أن يفك الحصار، وذلك بأن أحد المشركين من بني عامر بن لؤي، لا هو من بني هاشم ولا من بني المطلب أحس بشيء في صدره، وهذا الرجل هو هشام بن عمرو، ظل يسأل نفسه: كيف نأكل ونشرب وهؤلاء لا يأكلون ولا يشربون؟ كيف ينام أطفالنا شابعين وهؤلاء ينام أطفالهم جائعين؟ فكان يحمل الطعام بنفسه سراً إلى شعب أبي طالب، وظل على ذلك فترة، وبعد ذلك أحس بأن ذلك ليس بكاف، ولابد أن يكون هناك موقف أكبر، وأن يفعل شيئاً حتى ينقض هذه الصحيفة، ويلغي هذا القانون الظالم، ولكن هو لوحده وقبيلته ليست كبيرة، كما أن زعماء مكة كلهم يقفون خلف هذا القانون.

بدأ يبحث عمن يساعده، فبدأ برجل من بني مخزوم أكبر القبائل القرشية، وهي قبيلة اعتادت أن تعارض بني هاشم وتتنافس معها، فإذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار فبقية القبائل ستفك الحصار في الغالب، لكن من الذي سيرضى من بني مخزوم بالوقوف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ولا ننسى أن أبا جهل هو زعيم بني مخزوم، وهو من أشد المتحمسين للمقاطعة، فكان لابد من شخصية تعادله، وتستطيع الوقوف أمامه، فذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي؛ لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه دوافع فطرية عصبية، فذهب إليه وكلمه، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم.

يعني: هؤلاء أخوالك وأنت تتبع أبا جهل؟ هل نسيت أن بني هاشم أخوالك؟ ثم قال له كلمة خطيرة جداً، قال له: أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام -يعني: أخوال أبي جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه من المقاطعة ما أجابك إليه أبداً.

يعني: أنت بذلك تخاف من أبي جهل، فقال له زهير: ويحك ما أصنع وأنا رجل واحد؟ ثم قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقام هشام بن عمرو وفاجأه وقال له: وجدته لك، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: فلننظر لنا ثالثاً أيضاً.
ترك هشام بن عمرو زهيراً وذهب يبحث عن ثالث من ذوي الأخلاق، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، -أتى بقبيلة ثالثة، ذهب إليه وذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال المطعم: ابحث لنا عن رجل ثالث؟ فقال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابحث لنا عن رجل رابع.

المهمة صعبة جداً؛ لأن هؤلاء سيقفون أمام كل زعماء الكفر في مكة، ومن أجل رجل خرج عن دينهم، ويقوم بشتم الآلهة، ويأتي بقوانين جديدة لمكة، مهمة صعبة فعلاً أن تدافع عن هذا الرجل، وعن أولئك الذين ساعدوه والتزموا بدينه.

لكن هشام بن عمرو الكافر لم ييأس، وذهب يبحث عن رابع، فذهب إلى أبي البختري بن هشام -البختري بفتح الباء- وقال له مثل ما قال للمطعم، فقال له: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال أبو البختري: ابحث لنا عن رجل خامس؟ فذهب هشام بن عمرو بمنتهى الحمية يبحث من جديد عن رجل خامس، ذهب إلى زمعة بن الأسود وهو من بني أسد، فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ولم يطلب السادس، واجتمع الخمسة وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، فهم سيطرحون رأياً قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي ونصرة دين لا يقتنعون به ولا يرتبطون.

لماذا هذا كله؟ ما الذي حركهم؟ حركتهم حمية النخوة، فأنت ترفض أن ترى أي إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعذب أو يظلم أو يجوّع أو يعطِّش.
هذه النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله عز وجل، لكن هذه النخوة للأسف لم نرها من مسلمين كثر رأوا وشاهدوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل في آلاف وملايين المسلمين في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وغيرها.

كيف أن هشام بن عمرو الكافر والكفار الذين معه لم يأتهم نوم؛ لأن المسلمين يعذبون؟ وكيف يوجد في الأرض مسلمون ينامون ويأكلون ويشربون ولا يهمهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أكثر من مكان في العالم؟! كيف؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟ أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية متحققة؟ أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كبعض أخلاق الكافرين، نحن نحتاج فعلاً إلى وقفة مع النفس.

اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على نقض الصحيفة وحددوا اليوم، قال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، وقف زهير في المسجد ونادى على أهل مكة، ثم قال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

لم يسكت أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، فقام وقال بمنتهى الحماسة: كذبت والله لا تشق، فقام زمعة بن الأسود ، وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به، فقام المطعم بن عدي وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها، ثم قام هشام بن عمرو الذي جمعهم فقال نفس الكلام، وصدق المطالبون بنقض الصحيفة، فوجد أبو جهل نفسه محاصراً بآراء خمسة من الرجال، فقال: إن هذا أمر دبر بليل.

فإذا كان أبو جهل زعيم مكة ووراءه كثير من زعماء مكة، فالله سبحانه وتعالى قدر فك الحصار، فحدث شيء آخر تزامن مع هذه الأحداث، وأوحى الله عز وجل إلى نبيه أن الأرضة -دودة الأرض- قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله عز وجل. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بذلك الأمر، فأخذ أبو طالب الكلمات، وذهب إلى نادي قريش، فوجد المشكلة قائمة فتدخل في الحديث، وقال: إن ابن أخي قال كذا وكذا؛ فإن كان كاذباً وكانت الأرضة لم تأكل الصحيفة ولم تترك فيها إلا باسمك اللهم خلينا بينكم وبينه، تأخذونه وتقتلونه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.

فقال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفت يا أبا طالب ، وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
آية واضحة لم يكن عند زعماء مكة أمامها أي اختيار سوى نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة، بعد ثلاث سنوات كاملة من الحصار والتجويع. لم يضع مجهود هشام بن عمرو مع أنه كافر وانتهى الحصار، ثم إن هشام بن عمرو أسلم بعد ذلك بعد فتح مكة، بعد أكثر من عشر سنين من هذه القصة.

وأيضاً زهير بن أبي أمية أسلم، أما الثلاثة الباقون فماتوا على الكفر. شاء الله عز وجل أن يتأخر هذا الإنقاذ إلى ثلاث سنوات، وكان من الممكن أن يقع بعد فترة وجيزة جداً من الحصار كشهر أو اثنين أو ثلاثة، لكن لابد من التأخير، فقد خرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة، وأعمق إيماناً، وأقوى تمسكاً بدينهم وعقيدتهم، لقد تم الابتلاء والامتحان، ونجح المؤمنون.

لابد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق، يقول الله تعالى: (( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ )) ]الرعد:17[، لابد أن يصهر المؤمنون في نار الابتلاء؛ للتنقية وللتربية وللتزكية، للتنقية من المنافقين والكاذبين، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله، وللتزكية وتطهير النفوس من الذنوب والخطايا؛ لذلك كان هناك حصار وهجرة للحبشة، وإيذاء وتعذيب..

كل هذه مراحل تربوية في غاية الأهمية صنعت جيلاً من الصحابة، يستطيع أن يلقى الأهوال ولا تلين له قناة، ولا تخور له عزيمة، ولا يهتز له قلب ولا عقل ولا جارحة. نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على طريق الإيمان، وأن يجمع بيننا وبين حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) ]غافر:44[ وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق