الاثنين، 25 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 2- من الظلمات إلى النور-5


حال الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية


كان هذا هو الوضع في بلاد العالم المختلفة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته، أما عن الجزيرة العربية فقد كانت تعيش حالة من الوثنية المفرطة، مع إيمان هؤلاء الناس بالله عز وجل، إلا أنهم اتخذوا إليه شفعاء ووسطاء، كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، ومضت الأيام وأصبحوا يعتقدون أن هؤلاء الشفعاء -أي: الأصنام- تملك قدرة ذاتية على أن تنفع أو تضر، فأصبحوا يتوجهون إليها مباشرة بالعبادة، وكان لكل قبيلة صنم، فمكة مثلاً كان أعظم أصنامها: هبل، والطائف أعظم أصنامها: اللات وهكذا.


وأحياناً لكل بيت صنم، وكان هناك تجار للأصنام وصناع للأصنام، تجد من يبيع آلهة في داخل البيت الحرام، بل كانت الكعبة نفسها حولها (360) صنماً، وهي أشرف بقعة على الأرض، ومما يذكر كمثال على أن لكل بيت صنماً أن عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان في جاهليته يعبد صنماً من الخشب صنعه بيده.


أما الأجواء الأخلاقية في جزيرة العرب كانت شنيعة، كان شرب الخمر متفشياً تفشياً كبيراً، حتى كتبت فيه أشعار عظيمة، ووصفت مجالسه بأدق التفاصيل، مع أنه كان يؤدي إلى كثير من النزاع بين الناس.


وكان الميسر أيضاً متفشياً، وكثيراً ما أورث البغضاء والشحناء بين الناس، من أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى عنه في القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91].
وكان الربا من المعاملات الأساسية في جزيرة العرب، وكانوا يقولون كما أخبر الله عنهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275].


أما الزنا فكانت له صور بشعة في المجتمعات العربية قبل الإسلام، وتصف السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها -كما جاء في صحيح البخاري - أنواع النكاح في الجاهلية:

النوع الأول: هو النوع المعروف الذي عليه نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، وهذا الزواج الطبيعي كان أحد صور الزواج.


النوع الثاني: تقول السيدة عائشة: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها -أي: من الحيض- اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها -أي: من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، يعني: يبعث امرأته من أجل أن يجامعها رجل من أشراف مكة، وما يمس امرأته إلى أن يتأكد أنها حملت من الرجل الغريب- فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.
هذا النكاح كان يسمى بنكاح الاستبضاع، أين مروءته وغيرته؟! تنعدم إلى درجة أنه يبعث امرأته إلى هذا الفعل الشنيع، وهذا قانون يوافق أهواء الأسياد.
كانوا يحيون على هذه المفاسد، لذا لما أتى الإسلام وحرم عليهم هذه الأمور، كان العداء بينهم وبين الإسلام؛ لأنه يحرم عليهم هذه الشهوات وهذه المفاسد.


النوع الثالث: تقول السيدة عائشة: (هو النكاح الذي يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت وهو ابنك يا فلان، وتختار واحداً من الناس فتلحقه به، ولا يستطيع أن يمتنع الرجل.


النوع الرابع والأخير في أيام الجاهلية كما تقول السيدة عائشة: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها -وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، وهي مشهورة في التاريخ بالرايات الحمر، فمن أرادهن دخل عليهن- فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها اجتمعوا لها، ودعوا لها القافة -وهم الرجال الذين يستطيعون تمييز الوالد والولد عن طريق الشبه- ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به.
يعني: التصق به ودعي على أنه ابنه، ولا يمتنع من ذلك.


تقول السيدة عائشة: فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
كانت هناك عادة أخرى من أبشع العادات في جزيرة العرب: وهي وأد البنات، يعني: دفن البنت وهي حية، وكان يفعل ذلك لأسباب كثيرة أهمها خشية الفقر، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] يعني: خشية الفقر. وأحياناً خوف العار، وأحياناً لعيوب خلقية أو من أجل اللون.


ومنها: ادعاء أن الملائكة بنات الله، سبحانه عما يقولون! فيقولون: ألحقوا البنات به فهو أحق بهن، تعالى الله عن ذلك، يقول الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9].


كذلك العصبية القبلية والحروب المستمرة بين القبائل كانت أمراً طبيعياً، والإغارة على الغير كانت عادة، حتى قال بعضهم: وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا يعني: إن لم نجد أحداً نحاربه نحارب أخانا، فمثلاً: حرب البسوس المشهورة سببها أن رئيس قبيلة بني بكر ضرب ناقة البسوس بنت منقذ ، فاختلط لبنها بدمها، فقتل رجل رجلاً من القبيلة الأخرى، فدارت حرب بين بكر وتغلب (40) سنة، حتى فنوا من أجل ناقة ضربت.
إذاً الوضع في جزيرة العرب أعظم من أن يوصف في مجلس واحد.





قصة إسلام سلمان وبحثه عن نور الهداية 
قبل البعثة وبعدها


لم يكن على الحق إلا النادر القليل قبل البعثة، ويوضح ذلك حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه كما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وهو يحكي قصة إسلامه.


هذا الحديث يحكي فيه سلمان الفارسي رضي الله عنه قصته مع الإيمان، وكيف أنه كان مجوسياً يعبد النار، بل ويعمل خادماً لها، يوقدها حتى لا تخبو، ثم لما سمع بصلاة من صلوات النصارى أعجب بها، فسأل عن أصل هذا الدين وهرب من بلده في قصة طويلة نذكرها مختصرة.


هرب من بلده أصبهان إلى بلاد الشام حيث يوجد النصارى، وهناك سأل عن أفضل أهل هذا الدين، فدله الناس على أسقف الكنيسة، فذهب إليه وعاش معه فترة، ولكنه اكتشف أنه رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزها لنفسه، حتى جمع من ذلك سبع قلال من الذهب والفضة.


يقول سلمان: فأبغضته بغضاً شديداً؛ لأنه جاء من بلاد فارس من أجل هذا الرجل، ثم وجد أنه بهذا السوء، ثم مات الرجل وكشف سلمان رضي الله عنه أمره للناس وأخرج لهم القلال، فغضب الناس على الأسقف وصلبوه وهو ميت ورجموه بالحجارة، ثم استخلفوا بعده رجلاً آخر، وكان عظيماً تقياً ورعاً فأحبه سلمان حباً شديداً وعاش إلى جواره فترة، ثم حضرت هذا الأسقف الوفاة، فقال له سلمان: قد حضرك ما ترى من أمر الله عز وجل، فإلى من توصي بي، قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد غير الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل.


يعني: من كل أهل الأرض لا يعرف إلا واحداً صالحاً فقط في الموصل في أرض العراق، وفي كل الشام ليس هناك رجل على الحق، فذهب إليه سلمان ومكث عنده فترة وكان رجلاً طيباً كصاحبه، ثم اقتربت وفاته، فقال له سلمان: إلى من توصي بي؟ قال: والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا بنصيبين، وهو فلان فالحق به، فلما مات ذهب سلمان إلى نصيبين.


بقي حياة طويلة من الكفاح والبحث عن الحق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن نكسل عن البحث في المكتبة عن كتاب -وهو داخل البيت- من أجل معلومة معينة، انظر لـ سلمان الفارسي من بلد إلى بلد من أجل أن يعبد الله عز وجل حق العبادة.


عاش سلمان في نصيبين مع الرجل فترة، وكان رجلاً صالحاً، ثم ما لبث أن حضرته الوفاة، فقال له سلمان: إلى من توصي بي؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً بقي على أمرنا إلا رجلاً بعمورية -تركيا حالياً- فالحق به،




يقول سلمان: فلحقت بصاحب عمورية، وكان الرجل على هدي أصحابه، فاكتسبت من التجارة حتى كان لي بقرات وغنيمة، ثم حضرت الرجل الوفاة، فقال له سلمان: إلى من توصي بي؟ فقال الرجل: أي بني! والله ما أعلم أن أحداً قد أصبح على ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، بها علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال سلمان: ثم مات الرجل.


ثم مكث سلمان رضي الله عنه فترة في عمورية وهو يبحث عن طريقة يصل بها إلى أرض العرب، حتى مر به مجموعة من التجار، فقال لهم: تحملونني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي، قالوا: نعم، يريد أن يضحي بكل الذي امتلكه من أجل أن يصل إلى هذا الدين، يقول: فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا قدموا به وادي القرى في شمال المدينة المنورة ظلموني، فباعوني إلى رجل من يهود عبداً، ثم مرت الأيام وسلمان الفارسي عبد وقد كان ابناً لأحد رؤساء القرى في بلاد فارس.


يقول سلمان: فبينما أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي -يعني: أعلى النخلة- أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذا أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: قاتل الله بني قيلة -الأوس والخزرج-، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي،


يقول سلمان: فلما سمعتها أخذتني العرواء -رعشة شديدة في جسده- حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك، فقلت: لا شيء لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال.
ثم كانت له قصة إسلام لطيفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الآن مجال ذكرها.


الشاهد من القصة أن بقاع النور في الأرض كانت محدودة، لم تكن مدناً ولا قرى، بل كانوا أفراداً بعينهم، سلمان رضي الله عنه وأرضاه يقطع المسافات والمسافات بحثاً عن رجل واحد من أصبهان إلى الشام، إلى الموصل، إلى نصيبيين إلى عمورية، إلى الرق في وادي القرى، ثم إلى المدينة، إلى أن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم.


ولو رضي سلمان بحاله في بلاد فارس لظل إلى آخر حياته جليساً للنار، يشعلها كلما خبت، فأي وقت كان سيضيع وأي عمر كان سيهدر.

لما أسلم سلمان أصبح من أعظم رجال الأرض، بل ارتفع به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعلى الدرجات فقال في حقه: ( سلمان منا آل البيت).
هذا كان الوضع في بلاد العالم بصفة عامة.


حال مكة قبل البعثة النبوية


أما الوضع في مكة نفسها فما كان يختلف عن ذلك كثيراً، لم يكن هناك على الدين الصحيح إلا القليل مثل: زيد بن عمرو بن نفيل أبو سيدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زيد بن عمرو بن نفيل حنيفياً على ملة إبراهيم عليه السلام.
كذلك كان ورقة بن نوفل قد تنصر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق