السبت، 30 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-2


لحظات إسلام الفاروق

خرج عمر من بيته متوشحاً سيفه، خرج ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ظل يبحث في كل مكان عن الرسول وهو لا يدري أين يجلس، ودار الأرقم بن أبي الأرقم لم يكن يعرفها أحد، وفي أثناء بحثه قابله نعيم بن عبد الله رضي الله عنه، ولكن لم يكن أحد يعلم بإسلامه، وهو من نفس قبيلة عمر من بني عدي، وكان واضحاً من عمر أنه في قمة الغضب، فقال له نعيم: أين تريد؟ فقال له في منتهى الصرامة والجدية: أريد محمداً، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها فأقتله!

كان نعيم رضي الله عنه يعلم أبعاد هذه الكلمات، ولا يوجد لديه وقت لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يفكر كثيراً، ووجد نفسه مضطراً إلى كشف سر إسلام أخت عمر بن الخطاب السيدة فاطمة بنت الخطاب وإسلام زوجها سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، حتى وإن كان عمر سيقتلهما، ولكنه في المقابل سيجد الوقت الكافي ليبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ حذره.

فـ نعيم كان يظن أن هذا هو الحل الوحيد الذي قد يصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مراده؛ لأنه لو أخبره عن إسلام أي شخص آخر لن يهتم، ولكن إسلام أخته وزوجها شيء يطعن في كرامة عمر رضي الله عنه، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ يخوفه من بني عبد مناف، فربما تنفع، ثم قال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.
يعني: اذهب إلى أهل بيتك أولاً وابدأ بهم ثم التفت إلى محمد.

فصرخ عمر في فزع: أي أهل بيتي؟ فقال: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما.
فشعر عمر أن الدماء تغلي في قلبه، ونسي كل شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب مسرعاً إلى بيت أخته، وذهب نعيم مسرعاً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه.

في هذا الوقت كان خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن؛ فالرسول كان يقسم الصحابة إلى مجموعات، كل مجموعة تقوم بمدارسة القرآن مع بعضها، ثم يجتمعون كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وكان خباب بن الأرت هو المعلم لـ سعيد وزوجته.

وصل عمر إلى بيت أخته ووضع أذنه على الباب فسمع صوتهم وهم يقرءون القرآن، فظل يضرب الباب بكل قوته، ولو كان يستطيع كسره لكسره، وهو ينادي بعنف: افتحوا الباب افتحوا الباب.

وإذا كان عمر مرعباً في هدوئه فما بالك في غضبه، أما خباب فاختبأ في غرفة داخلية، وقال في نفسه: لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن أنجو أنا، وخباب من الموالي ديته بسيطة، وعمر لن يفكر كثيراً قبل أن يقتله.
بعد اختباء خباب أصبح الدور على سعيد وفاطمة.

قام سعيد رضي الله عنه وفتح الباب، فدخل عمر إلى البيت وهو يحترق من الغضب، قال عمر: لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، ثم بدأ يضرب سعيداً فقامت فاطمة بنت الخطاب ووقفت بينه وبين سعيد تدافع عن زوجها، فالتفت إليها عمر وترك سعيد بن زيد وبدأ يضربها حتى سالت الدماء على وجه فاطمة رضي الله عنه، لما رأى سعيد هذا الأمر لم يجد بداً من الهجوم على الأمر، وقال له في تحدٍ شديد: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!

استغرب عمر من شجاعة سعيد؛ فلا يوجد في مكة من يكلمه بهذه الطريقة، وأعجب من هذا أن فاطمة المرأة الضعيفة البسيطة وقفت وأمسكت بوجه عمر، وقالت له في قوة: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر)، ذهل عمر.

من هذا الذي يتحدث؟ أليست هذه أخته؟ ما الذي جرأها عليه؟! أحس عمر على بأسه وشدته وسطوته أنه صغير لا يستطيع أن يقف أمامها، وشعر أن الدنيا تغيرت وهو لا يعلم، أول مرة يتعرض لمثل هذا الموقف في حياته، ثم قال عمر كلمة تدل على رقة قلبه التي تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال: فاستحييت حين رأيت الدماء

الرجل الذي ليس فيه خير لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه، ووقفت أمامه وتحدته، وبالذات في هذه البيئة القبلية الجاهلية.

ماذا بعد الاستحياء؟ يقول عمر : فجلست ثم قلت: أروني هذا الكتاب حتى أقرأه، تنازل عمر وسكت عن تحدي سعيد و فاطمة ، ثم في هدوء يطلب أن يقرأ الكتاب الذي معهما، لكن فاطمة وجهت له ضربة ثانية موجعة لـعمر ، قالت: يا أخي! إنك نجس على شركك وإنه لا يمسه إلا الطاهر!

كنت أقرأ هذه القصة وأتصور أني سأجد خبر مقتل فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها، لكن الموقف كان غير ذلك، قام عمر في هدوء ليغتسل! أليس هذا هو عمر بن الخطاب ؟! هناك شيء غريب، فهذه ظروف ليس لها إلا تفسير واحد: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) [القصص:56]، شاء الله عز وجل هداية عمر ، وشاء الله عز وجل الخير لـعمر وللمسلمين وللأرض بكاملها.

قام عمر ليغتسل في بيت أخته، وكأني بالماء ينزل على رأس وجسد عمر فيغسل كل أدران الكفر والجحود، لم يكن الماء يغسل من الخارج فقط، بل يغسل قلبه وعقله معاً.

لما خرج عمر من الاغتسال أعطته فاطمة الصحيفة وبدأ يقرأ، ولكن بدأ يقرأ بلسانه وبعقله، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أسماء طيبة طاهرة.
من أول البسملة ظهر الخير الذي في داخل عمر ، ثم قرأ: (( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى  )) [طه:1-2] ويلاحظ أن عمر ممن كان سبباً في إيجاد شقاء للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته، ثم هو الآن يقرأ قول الله عزوجل: (( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ))  ]طه:1-8 [

تزلزل عمر من داخله، ووجد نفسه خاشعاً متصدعاً من خشية الله عز وجل، يقول عمر : (فتعظمت هذه الآيات في صدري، فقلت: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله. لقد أسلم عمر بمعنى الكلمة، أسلم لله إسلاماً كاملاً بكل ذرة في جسده رضي الله عنه، ووالله إن هذه اللحظة من أعظم لحظات البشرية على الإطلاق، لحظة تحول فيها رجل بسيط يسجد لصنم ويعذب المؤمنين إلى عملاق من عمالقة الإيمان، ورجل يراقب الله عز وجل في كل حركة وكل سكنة وكلمة وهمسة، ثمان آيات صنعت الأسطورة الإسلامية العجيبة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

عندما سمع خباب هذا الكلام من عمر خرج من مخبئه، وقال له: يا عمر ! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه؛ فإني سمعته بالأمس وهو يقول : (اللهم أيد الإسلام بـأبي الحكم بن هشام أو بـعمر بن الخطاب) فالله الله يا عمر ! كان يخاف أن يتراجع عن كلامه فهو يحمسه ويشجعه، ويذكر له دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر عند ذلك.

فأين رسول الله؟ لم يقل: محمد، هكذا بكل سهولة يعترف برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال خباب : إنه في دار الأرقم . أخذ عمر سيفه فتوشحه ثم انطلق من جديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه في هذه المرة انطلق بقلب مؤمن، ضرب عمر الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة في دار الأرقم ، فقام أحد من الصحابة ينظر فوجد عمر وسيفه على صدره فعاد مرتعداً يقول: هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه.

كان داخل بيت الأرقم أربعين صحابياً، لكن الذي قام ليدافع عن كل الصحابة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، مع أنه لم يؤمن إلا من ثلاثة أيام فقط، لكن إيمانه كالجبال.
قال حمزة في صلابة: وإن كان عمر ، افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيراً بذلناه له -يعني: إن كان يريد الإسلام- وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه.

الله أكبر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له)، دخل عمر ثم أدخلوه إلى غرفة في الدار، ثم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه واقترب منه، وأخذ بمجامع ثيابه وقال له في قوة: (ما جاء بك يا بن الخطاب ، فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة)
كلمة تعبر عن مدى المعاناة التي كان يلاقيها المسلمون من عمر ، لكن عمر الآن ليس كـعمر الأول، قال بصوت منخفض: (يا رسول الله! جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله)

كان هذا يمثل انتصاراً هائلاً للدعوة، وبالذات بعد دخول حمزة رضي الله عنه وأرضاه في دين الله عز وجل، كانت الفرحة في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لا توصف، أول رد فعل للرسول أن كبر الله عز وجل؛ فهو الذي صنع هذه المعجزة وأتى بـعمر إلى هذه الدار، فلما علم الصحابة دخلوا عليه يهنئونه، كل العداوة القديمة انتهت، وحل محلها الحب والمودة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق