الخميس، 28 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 5- الدعوة سرا-3

ضرورة الحفاظ على الدعوة بالسرية

نخرج من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند بدء الدعوة بقاعدة مهمة: وهي أن الدعاة مطالبون بالحفاظ على أنفسهم وعلى حياتهم لا لخوفهم من الموت، فالموت في سبيل الله في حد ذاته غاية، ولكن حفاظاً على الدين وعلى الإسلام، وعلى استمرار المسيرة، أي: أن العملية ليست عملية ملل من الدعوة أو الحياة أو الأعداء، لا، فهنا نظام وحكمة ومنهج ثابت.


ومن هذا أخذ العلماء حكماً فقهياً مشهوراً وهو: أنه يجوز للجيش المسلم أن يفر من مثليه، وقد بوب له الفقهاء باسم: باب جواز الفرار من المثلين، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66] الفقهاء قالوا: لو أن العدد أكبر من الضعف، أي: مائة مقاتل يقابلهم ثلاثمائة أو أربعمائة مقاتل يجوز لهم القتال ويجوز لهم الفرار حسب ما يرى القائد، بل إن الإمام مالك رحمه الله قال: يجوز الفرار من المثل، وليس من المثلين، وقال: إذا كان العدو أعتد جواداً وأجود سلاحاً وأشد قوة، وغلب على ظن قائد المسلمين الهلكة، وأخذ في الحسبان العوامل الأخرى غير العدد بل ذهب العز بن عبد السلام إلى أبعد من ذلك، فقال: إذا لم تحصل النكاية في العدو.


أي: لو أنك تحارب عدوك وأنت متأكد أنك لا تستطيع أن تؤذي عدوك فلا تقاتله، قال: إذا لم تحصل النكاية في العدو وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكافرين، أي: أن النفس ستذهب والمسلمون سوف يموتون، والكفار لن يحصل فيهم أي أثر، بل سيزيد الكفر؛ لأن المسلمين قلوا.


ويقول العز بن عبد السلام: وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.
أي: أنه يأثم المسلم بإظهار نفسه إذا كان الاختفاء والانسحاب هو الألزم للمرحلة، وهذا إدراك لسلوك المسلم وسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف.



الفرق بين المحافظة على الدعوة
والمحافظة على النفس

هناك نقطتان مهمتان لتكتمل الصورة: النقطة الأولى: أن الفارق بين الحكمة في الحفاظ على النفس وبين الجبن خطوة، فمن الممكن أن يقول شخص: أنا أحافظ على نفسي؛ لأن المرحلة تريد هذا، فلا يقول كلمة حق ولا يجاهد، ولا يدعو إلى الله، ولا أي شيء أبداً في سبيل الله، بينما الدافع الحقيقي وراء هذا الركون أو القعود هو الجبن والخوف من مواجهة الباطل.


إذاً: كيف نفرق بين الحكيم الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الجبان الذي لا يريد أن يحمل هم الدعوة؟ 


أولاً: يرجع في ذلك إلى الدليل الشرعي من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يكون موقفه هذا يشبه موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أخذ بالسرية.

ثانياً: الورع والإيمان والتقوى الذي في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى هو المطّلع على القلوب ويراك، وأنت أولاً وآخراً تتعامل مع الله سبحانه وتعالى.


ثالثاً: الرأي المشار إليه من قبل القائد والجماعة والشورى في هذه المرحلة، والشورى في غاية الأهمية وهكذا يمكن أن يخرج عامل الهوى، ونستطيع أن نفرق بين الحكيم وبين الجبان.


النقطة الثانية: أن الذي يُراعى هو مصلحة المسلمين والإسلام عموماً، وليس مصلحة الفرد، أي: أنه قد يهلك الفرد وتكون الهلكة محققة، لكن هذا في مصلحة المجموعة، هنا لا يُلتفت إلى الحفاظ على الفرد؛ لأننا نحافظ على الدين بصفة عامة، وعلى الأمة أو المصلحة العامة، أي: أنه سيأتي بعد ثلاث سنين من هذا الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته، وستكون هناك خطورة حقيقية عليه، لكن المصلحة الأعم للدعوة أنه يُعلن، وسيأتي بعد فترة يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، وسيكون هناك خطورة حقيقية على مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ففي المدينة المشركين واليهود وغيرهم، لكن المصلحة المتحققة أعلى، فيُضحى بمصلحة مصعب بن عمير على حساب تحقيق مصلحة أكبر للدعوة، من الذي يحكم في النهاية؟ الشورى والقائد، ومن المؤكد أن الهوى سيدخل إذا لم تدخل الشورى أو القائد في الموضوع.


وقد يكون من الهوى أن يموت؛ لأنه لم يتحمل الظلم الواقع على المسلمين، ولا يستحمل أن الكفر له الغلبة، فيحاول أن يتخلص من الأمر بالتسرع في إعلان نفسه، أو التسرع بالقتال في سبيل الله، أو في إظهار أمر الدعوة في مكان لا يستقيم أن يُظهر فيه أمر الدعوة في هذه المرحلة، كل هذا قد يكون هوى في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى يريد منك تصرفاً آخر، ولهذا نؤكد دائماً على الشورى والرجوع إلى قائد المسلمين.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق