الثلاثاء، 26 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 3- من هنا بدأ الاسلام-5


إتقان أهل الجزيرة العربية والدعاة 
للغة العربية لغة القرآن



الحكمة الرابعة من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث اللغة العربية، وهي أشرف اللغات، وبها نزل القرآن الكريم، وهي لغة أهل الجنة، والقرآن كلام الله عز وجل، ولم ينزله الله عز وجل بهذه اللغة لأهل الجزيرة فقط، بل للعالم كله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه وإلى يوم القيامة.

وقد نزل القرآن بهذه اللغة في وقت كانت فيه لغات كثيرة موجودة في الأرض، واستحدث غيرها من اللغات على مر التاريخ، وستكون لغات أخرى إلى يوم القيامة، ومع ذلك أراد الله عز وجل لهذا القرآن وهذا المنهج أن يكون باللغة العربية؛ لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.

وهو سبحانه وتعالى يعلم أن اللغة العربية قد تكون أقل انتشاراً من غيرها من اللغات في زمان من الأزمان، مثل زماننا هذا فإن اللغة العربية أقل انتشاراً من الإنجليزية أو الصينية أو الفرنسية، ومع علم الله عز وجل بذلك الأمر إلا أنه أنزل القرآن باللغة العربية، لحكمة كاملة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وأنا في اعتقادي أن سبب ذلك هو أن اللغة العربية أثرى لغة، فالشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة، فلك أن تعبر عنه بعشرات الكلمات، فمثلاً: العسل له ثمانين اسماً، والثعلب له مائتا اسم، والأسد له خمسمائة، والجمل له ألف، والسيف له ألف، والداهية لما توصف واحداً بأنه داهية في أربع أو ثلاث كلمات تفسر معنى الداهية، شيء مهول لا يتخيله عقل، هذه هي اللغة العربية.

وأيضاً الكلمة الواحدة في اللغة العربية تكون بنفس الحروف، إلا أن تغيير حركات التشكيل يعطيها أكثر من معنى، كل هذا أعطى اللغة إمكانيات هائلة، تنزل الآية بكلمات قليلة محدودة ومع ذلك تحمل من المعاني ما يصعب حصره.

كلما نظر المفسر في الآية استخرج منها معاني جديدة مختلفة عن التي استخرجها غيره، قد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، وفي كل مرة يخرج بمعنى جديد، وتمر الأزمان والأزمان ثم يأتي مفسرون آخرون ليستخرجوا معاني جديدة.

وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عندما وصف القرآن بأنه لا يخلق من كثرة الرد، أي: لا يبلى من كثرة الترديد والقراءة.
أيضاً كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت باللغة العربية، وآتاه الله عز وجل جوامع الكلم، كان يقول الحديث في كلمات قليلة جداً، فإذا به يحوي أحكاماً لا تنتهي.
فإذا كان ربنا سبحانه وتعالى اختار أن القرآن ينزل باللغة العربية فيلزم الناس أن يتكلموا العربية، بل ووصلوا فيها إلى أعظم درجات الإعجاز البشري، إتقان عجيب جداً للغة، يتصرفون فيها كما يريدون، وأصبحت ألسنتهم سهلة لينة طيعة بها.

وكان أمر الشعر عند العرب عجيباً، فالمعلقات الهائلة التي كانت تعلق على الكعبة من الشعر، فالشعر يقال في كل الظروف، الفرحان يقول الشعر، والحزين يقول الشعر، ويقال في السلم، وفي الحرب، حتى قبل الموت والسيف على رقبة الشخص وهو يقول الشعر؛ لأنه كان على لسانه مثل الكلام عندنا.

كذلك المعارضة بالشعر تأليف فوري، واحد يقول بيت شعر والثاني يرد عليه ببيت على نفس الوزن والقافية وفي نفس اللحظة، ولا يفكر كثيراً، هذه كانت كفاءتهم بالنسبة للغة العربية.

إذاً: من عوامل نجاح الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، إتقان أهل هذه البقاع اللغة العربية، لماذا إتقان اللغة العربية كان سبباً في نجاح الدعوة؟ أولاً: كان أدعى لإيمان الناس بكلام الله عز وجل وبإدراك الإعجاز الإلهي في كل آية وفي كل سورة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198 - 199].

فالعرب المتقنون للغة أدركوا منذ أول لحظة سمعوا فيها القرآن أن هذا الكلام معجز، لذا لم ينتقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبداً، وما اجتمعوا لكي يعارضوا القرآن الكريم، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدة مع تحدي القرآن لهم.

فالقرآن يتحداهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور أو بمثل القرآن كله وهم لا يستطيعون، كرجل تقول له: اذهب وخذ هذا البيت، وهو يذهب أصلاً ولا يحاول؛ لأن هذا شيء بالنسبة له معجزة، نعم، أنا قوي وأقدر على أخذ كذا أو كذا أو كذا، لكن ذلك البيت مستحيل، هم كانوا هكذا بالضبط، يعلمون أن القرآن الكريم، وهذه الكلمات والآيات والسور من المستحيل أن تعارض.

فمعرفة العربية كانت أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله عز وجل.
وهذا الأمر ليس مقصوراً فقط على الإعجاز اللغوي، بل حتى أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن الكريم يحتاج إلى فهم دقيق للغة، بل حتى الإعجاز العلمي الذي نستخرجه من القرآن الكريم لابد له من فقه للغة، ومعرفة معنى الكلمات، ومعنى الآيات، والمقصود من وراء كل كلمة.

ثم أيضاً لابد أن تعلم أن الذي يقرأ ترجمة القرآن يخفى عليه كثير من الإعجاز، ويدرك بوضوح قصور أي لغة على الوصول إلى ما وصلت إليه اللغة العربية، ويعرف أنه يجب عليه لكي يأخذ هذه الرسالة وهذه الأمانة أن يكون متقناً للغة العربية، معظماً لها، يربي عليها أولاده ومجتمعه، يحترمها ويقدرها ويدرسها دراسة متعمقة، كل هذا ضروري جداً لمن سيحمل هذا الكتاب.

فمثلاً: كيف ترجم قول الله عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، تسعين في المائة أو أكثر من جمال الآية سيذهب عند الترجمة، وراجعوا الترجمات للقرآن الكريم بأي لغة. كذلك الأمر بالنسبة للحديث الشريف، فمن لا يعرف اللغة العربية يصعب عليه أن يستمتع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفهمه وينقله.




والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي كثيراً بقراءة القرآن على الناس فقط؛ لأنه يعلم أن هذا الكلام ليس من عند البشر، لذا يكتفي فقط بقراءة الآية، وقد حصل الكلام هذا مع كثير ممن أسلموا مثل الطفيل بن عمرو بن الدوسي ، و أسيد بن حضير ، و سعد بن معاذ وغيرهم، لكن في هذا الوقت للأسف الشديد أصبحت طوائف كثيرة جداً من المسلمين الذين قال الله عز وجل في حقهم: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:198-199] يسمعون آيات القرآن أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يفهمونه، وبحاجة دائماً إلى قاموس لمعرفة معنى كل كلمة، وسبب نزول كل آية، وكيف يمكن أن تتحرك بالقرآن وأنت لا تفهم معناه؟ وكيف يمكنك أن تقرأ القرآن أو الحديث الشريف على واحد لا يعرف معاني اللغة العربية، أو كالأعجمين وإن كان مسلماً عربياً. 


انظر إلى ردة فعل بعض الصحابة لما سمعوا الآيات، فقد روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه -وكان مشركاً حينها- أنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37] كاد قلبي أن يطير فدخلت في الإسلام) فمجرد سماع الآيات يدخله في الإسلام، بل كان يحدث هذا الأثر عندما يتلى القرآن على الكفار؛ لأنهم يعلمون أنه الحق، ومع هذا لا يتبعونه لأسباب كثيرة جداً، سنأتي إن شاء الله إلى تفصيلاتها في الدروس القادمة، فهم يعلمون أنه كلام حق وإعجاز.

عتبة بن ربيعة ، الوليد بن المغيرة، وغيرهما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل؛ لأنهم كانوا يفهمون معنى كل كلمة من كلمات الله عز وجل. إذاً: من أهم عوامل نجاح الرسالة الإسلامية في هذا المكان: إتقان الدعاة والمدعوين للغة، ولذلك كان المحاربون للإسلام -الذين فقهوا هذه النقطة- يحاربون اللغة العربية ويضربونها في أعماقها، فهم يدركون أنه لو انتشرت اللغة العربية سيقع ما بعدها من الشر، فهذا أتاتورك لما بدأ في العلمنة التركية ألغى اللغة العربية. 


والإنجليز لما أرادوا ضرب الأزهر والمدارس الدينية لم يلغوا هذه المدارس حتى لا يثور الناس عليهم، لكن أنشئوا مدارس علمانية بجانب الأزهر في كل مصر، وكانت اللغة الأساسية في هذه المدارس: الإنجليزية، ثم فتحوا لهم فرصة العمل في البلد بأجور أعلى من فرص العمل المتاحة لأبناء الأزهر والمدارس الدينية، مما دعا الناس إلى التوجه إلى هذه المدارس العلمانية التي باللغة الإنجليزية، بحثاً عن فرص عمل أفضل، وزهدوا في الأزهر وفي اللغة.

ثم هناك مأساة ضخمة جداً ستحصل لو ضعفت اللغة العربية عند المسلمين، سيفقد المسلمون التواصل بينهم لعدم وجود لغة مشتركة، فالأمة الإسلامية في هذا الوقت تتكلم عشرات اللغات، وكل قطر يتكلم بلغة، أليس عيباً أن يضطر المصري إلى الحديث بالإنجليزية مع الباكستاني للتفاهم وكلاهما مسلم؟ هذا هو الواقع الذي نعيشه، وفوق ذلك فإن داخل البلاد التي تتكلم العربية عشرات اللغات العامية، وسأقول اللغات لا اللهجات، كل كلمة أصبح لها بدائل لا تمت للغة العربية بصلة، أصبح من الصعب جداً على مسلمي قطر عربي أن يفهموا مسلمي قطر آخر إلا بقاموس أو بترجمة، وهذا شيء لا يقبله عقل مسلم! 


والطامة الكبرى أن يظهر جيل يفتخر بأنه لا يحسن العربية، يفتخر الأب وتفتخر الأم أن الابن يتكلم الإنجليزية ولا يفقه شيئاً من العربية! وأنا لست ضد تعلم اللغات الأجنبية أبداً، بل أُحَبِبُ ذلك وبشدة، ولكن ليس على حساب اللغة العربية، أنا أريد أن أعلم أهل الأرض كلهم اللغة العربية، وأوصل اللغة العربية لكل بقعة على ظهر الأرض؛ ليفهموا القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كنت أنا غير قادر على هذا لوحدي فعلى الأقل أحافظ على اللغة العربية في أوساط المسلمين، 

ولابد أن يعلم المسلمون أن من أهم وسائل إعادة بناء الأمة الإسلامية الاهتمام باللغة العربية، وأن نهتم بأن نعلم اللغة العربية لغيرنا، ونجمل اللغة العربية في عيون أبنائنا. إذاً: الجيل الذي يرجى على يده إصلاح شأن هذه الأمة هو جيل يتقن اللغة العربية ويعظمها، وليس هذا من منطلق قومي لا.

(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) ولكن من منطلق أن من يتكلم العربية فهو عربي، ولو كان من عرق مختلف، إنما العربية اللسان، فالباكستاني الذي يتكلم العربية عربي، والإندونيسي الذي يتكلم العربية عربي، والأمريكي المسلم الذي يتكلم العربية عربي، وهكذا إنما العربية اللسان.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق