الاثنين، 25 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 1- السيرة وبناء الأمة -4



سبب الاقتصار على ذكر بعض جوانب العهد المكي
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

في هذه المجموعة من الدروس نتحدث عن جانب من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العهد المكي من السيرة النبوية، وليس الغرض من وراء هذا المجموعة استقصاء كل واقعة حدثت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فهذا أمر يطول شرحه، ويعجز البيان عن وصفه لأمور:


كثرة الوقائع والتفاصيل المسجلة 
في حياته عليه الصلاة والسلام

الأمر الأول: أن الفترة المكية قد سجلت كل وقائعها بدقة، وبالذات منذ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، كل لحظة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن بعث وإلى أن مات سجلت، ولم تسجل حياة إنسان على وجه الأرض بهذه الدقة، حتى دخل التسجيل إلى أدق تفاصيل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل من حِكَمِ زواجه صلى الله عليه وسلم من عدد كبير من النساء: أن ينقلن الحكمة التي تعلمنها من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصية الداخلية التي لا يراها غيرهن، وما هذا التسجيل الضخم الدقيق إلا لأنه صلى الله عليه وسلم قدوة كاملة، وليس بعده نبي إلى يوم القيامة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

إذاً: نحن مطالبون باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطوات حياتنا، في رضاه وغضبه صلى الله عليه وسلم، في حزنه وسروره، وفي حله وترحاله، إذا رضي فهذا هو الموضع الذي يجب أن نرضى فيه، وإذا غضب فهذا هو الموضع الذي يجب أن نغضب فيه.


التنوع في حياته عليه الصلاة والسلام

الأمر الثاني الذي جعل إحصاء كل أمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر صعب: التنوع العجيب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتارة يكون مطارداً معرضاً للأذى والاضطهاد كما في حادث الهجرة، يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فارين من أهل مكة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مطلوب الرأس، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إلى أن يصلا إلى المدينة المنورة بعد أيام من الفرار، وفي نفس سيرة هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم تجد أنه ممكنّ في الأرض، يرسل الرسائل إلى كل عظماء الأرض: من محمد صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس.
من محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيصر عظيم الروم.
إلى المقوقس عظيم مصر.

انظروا الفرق الضخم الهائل بين حالة كان يعيشها صلى الله عليه وسلم، وبين حالة أخرى عاشها ذاته، تارة تجد أنه صلى الله عليه وسلم يعاهد قوماً، وتارة يحاربهم، تارة يكون فقيراً معدماً يربط على بطنه حجرين من الجوع، ولا يوقد في بيته النار ثلاثة أهلة في شهرين، وفي وقت آخر من السيرة تجد أن هذا الرجل ذاته قد أصبح غنياً تأتيه الأموال من كل بقاع الجزيرة العربية، وينفق الأموال في سبيل الله إنفاقاً غير مسبوق، يعطي هذا مائة من الإبل، وهذا مائة من الإبل، وهذا أكثر، وهذا أقل ينفق إنفاقاً عجيباً! هذا هو نفس الرجل الذي كان يتعامل مع المشركين واليهود والنصارى والمنافقين والمؤمنين، فتارة ينتصر عليهم، وتارة يهزم.

كل تنوع ممكن يحصل في حياة أمة قد حدث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا أمر يجعل إحصاء كل مواقف السيرة أمر صعب جداً، خصوصاً وأنت تريد أن تلاحظ كل هذه المتغيرات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن مجموعة واحدة من الدروس.


أثره صلى الله عليه وسلم في بناء الجيل الفريد 
الذي غير مجرى التاريخ

الأمر الثالث: أن هناك جيلاً رائعاً عظيماً عاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الجيل العظيم خلق أحداثاً لا نهاية لها، تعجز عشرات المجلدات عن حملها.

وهكذا الإنسان العظيم إذا عاش في مجتمع من الناس ليست لهم قيمة يضيع بينهم، لكن الرجل العظيم هو من يعيش في وسط عظماء يتفاعلون معه بصورة إيجابية في كل لحظة من لحظات الحياة، يتحركون بحمية، يفكرون بجدية، يتناقشون بفهم ووعي وإدراك، يفكرون بذكاء، وكل واحد من هؤلاء الصحابة قصة ضخمة في حد ذاته، فهذا أبو بكر مثلاً يحتاج إلى عشرات المجلدات لوصف مواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك عمر وعثمان وعلي وعائشة وحفصة وصفية، وكل المهاجرين والأنصار، آلاف من الكتب والمراجع كتبت عن هؤلاء الصحابة، وكل هذا في النهاية هو جزء من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها أحداث عظيمة

الأمر الرابع: الأحداث العظيمة التي تحدث في حياة الناس، كلما عظم الحدث احتاج إلى دراسة وتحليل ووصف وشرح، أحياناً تمر على حياة الناس عشرات السنين دون حدث عظيم يؤثر في حياة مجموع البشر، لكن الأحداث المؤثرة تحتاج إلى تفصيل ودراسة، ممكن تجد دولة تعيش عشرات السنين دون أن تجد في حياتها حدثاً ضخماً مؤثراً.

فمثلاً عندما حدث في مصر حرب رمضان المباركة، نسأل الله عز وجل أن يعيد للمسلمين أمثالها، كم جرى لها من تحليل ودراسة رغم أنها وقعت من عقود، وإلى الآن نكتب عنها، وسيظل يكتب عنها المحللون والمؤرخون؛ لأنها حدث كبير.

كيف وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها أحداث ووقائع؟ ففي سنة (92) حدثت موقعة حربية ضخمة هي غزوة بدر، وفي (3هـ) غزوة أحد وبنو قينقاع، وفي (4هـ) بنو النضير، وفي (5هـ) الأحزاب وبنو قريظة وبنو المصطلق وهكذا هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر كم نحتاج إلى تحاليل ودراسات.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق