الثلاثاء، 24 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 8

لكن هنا ملمح مهم جداً نريد أن نقف عليه وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام، بهذا القرار، وهو قرار تأمين من دخل دار أبي سفيان أو المسجد أو من لزم بيته بهذا القرار يكون قد أصدر قرار حظر تجوّل مؤقت في مكة، ومنع الناس من السير في شوارع مكة؛ لأن هذا القرار سيقصر الأمان على من دخل بيته أو بيت أبي سفيان أو المسجد، أما من لم يدخل بيته وسار في الشارع بغض النظر عما يفعله في الشارع فهو غير آمن، هذا حظر تجوّل ليمنع الناس من أي فرصة للمقاومة، وفي نفس الوقت ليمنع القتل العشوائي في أهل مكة، فهذه عملية عسكرية خطيرة جداً، ونريدها أن تتم بأقل خسائر ممكنة من الطرفين.

وهذا الفعل وإن كان يتبدى فيه الحزم الواضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يظهر الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم، فهو لا يريد إراقة دماء أهل مكة، مع أن دماء المسلمين سالت غزيرة قبل ذلك.

إذاً: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرار حظر التجوّل في مكة، وهذا يشبه في زماننا قرار الطوارئ، فأحياناً يتخذ هذا القانون في ظروف صعبة خاصة تمر بها البلد، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يطبّق هذا القانون الخاص الاستثنائي لمدة سنة أو سنتين أو عشرة أو عشرين أو خمسة وعشرين سنة، ولكن طبقه عدة ساعات فقط، وهذا دليل قوته صلى الله عليه وسلم، ودليل قوة حكومته ومدى تجانس هذه الحكومة مع الشعب الذي يُحكم، حتى وإن كان هذا الشعب هو شعب مكة الذي حارب الرسول صلى الله عليه وسلم سنين وسنين. لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك أن طول مدة هذه الطوارئ ستترك انطباعاً سلبياً عند الشعب، يوحي بغياب الأمن والأمان في الدولة، ولهذا سارع بانتهائها.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام خاطب أبا سفيان في البداية بالقوة والحزم، ثم بعد إسلامه أعطاه شيئاً يفخر به، ويمتلك قلبه بهذا الفخر مع عدم فقد الدولة الإسلامية لأي شيء، بالعكس فقد استخدمه ليفتح الطريق لجيوش المسلمين لتدخل مكة بغير قتال، ومع كون المشهد في ظاهره قد انتهى إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد ألا يترك أي فرصة للشيطان مع أبي سفيان، وقد يكون إسلام أبي سفيان هنا إسلاماً عارضاً جداً للخروج من المأزق فقط، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزلزل معنويات أبي سفيان حتى لا يبقى عنده أي أمل في المقاومة، فماذا فعل الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم؟

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يقف بأبي سفيان عند مكان ما يشاهد فيه الجيوش الإسلامية وأعدادها وعدتها وتنوع أفرادها، وتعدد قبائلها، لقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يريه الأحزاب المؤمنة، فشتان بين هذه الأحزاب وبين الأحزاب التي قادها أبو سفيان قبل ذلك؛ ليعلم أبو سفيان أنه لا طاقة له فعلاً بهؤلاء، قال الرسول عليه الصلاة والسلام للعباس: (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها).

فنفذ العباس الأمر النبوي وأخذ أبا سفيان وأوقفه عند المنطقة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، ووقف أبو سفيان يشاهد العرض العسكري الإسلامي المهيب، جنود الله كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم، وانبهر أبو سفيان فعلاً وفقد كل أمل في المقاومة، وانبهار أبي سفيان ليس لأنه أول مرة يشاهد فيها هذه الأعداد، لا، بل قد شاهد هذه الأعداد منذ ثلاث سنوات تقريباً في غزوة الأحزاب، رأى (10000) مقاتل، بل كان هو يرأسها جميعاً، وإنما انبهر لأمور:

أولاً: لأن الله عز وجل يلقي الجلال والرهبة والهيبة على جنوده سبحانه وتعالى، وفي ذات الوقت يلقي الرعب في قلوب أعداء الدين، فيرون أحد المسلمين عشرة، ويرون القوة اليسيرة من المسلمين قوة هائلة .. وهكذا.

ثانياً: أنه رأى في هذه الجيوش عدة قبائل كانت تربطه بهم علاقات قوية جداً، لم يكن بينه وبينها عداء يذكر، فإذا بهذه القبائل جميعاً تجتمع تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: وحدة الصف التي رآها أبو سفيان، واجتماع الجميع على قلب رجل واحد، والألفة والمودة والصلابة في مشيتهم وفي تصميمهم، وهذا الكلام كله يزلزل أبا سفيان ..
مشهد يدعو إلى انبهار أي مراقب. لا شك أن انبهار أعداء الأمة بالصف المسلم المتحد أمر لا ينكر، فكم رأينا من قوى عالمية تخشى طائفة يسيرة من المسلمين لا لشيء ولكن لقوة إيمانهم ووحدة صفهم وحسن إعدادهم، والتاريخ يتكرر.

ننتقل إلى وصف العباس رضي الله عنه لحالة أبي سفيان عند رؤية الجيوش الإسلامية. قال العباس: ومرت به القبائل على راياتها، فكلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: من هؤلاء؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة الأخرى فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ .. ، وهكذا كلما مرت قبيلة سأل من هؤلاء؟ فيرد العباس بنو فلان .. وهكذا، فيقول: ما لي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء، وهذه الكتيبة فيها المهاجرون والأنصار كما يقول العباس بن عبد المطلب: لا يرى منهم إلا الحدق.

أي: أن الكتيبة مغطاة بالدروع والسلاح لا ترى إلا أعينهم من خلال الدروع، قال أبو سفيان وهو في أشد حالات الانبهار: (من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان في منتهى اليأس: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، فقال: فنعم إذاً، قلت: النجاء إلى قومك، قال: فخرج أبو سفيان حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به)، وهنا يحقق الغرض الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أجله أعطاه هذا الفخر، فهذا يمنع قريشاً من المقاومة، ويحقن دماء قريش ودماء المسلمين جميعاً، فقه سياسي عال جداً، قال: هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، ثم قال: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

ولم يقل: من دخل داره، ولكنه اكتفى بما هو له؛ ليظهر فخره: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه امرأته وهي هند بنت عتبة وهي من أشد المقاومين للإسلام ومن أشد المحاربين له، فأخذت بشاربه وقالت للجميع: اقتلوا الدسم الأحمس -أي: السمين- فبئس من طليعة قوم، ثم قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاء ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فتجمع الناس عليه وقالوا له: ويلك وما تغني عنا دارك؟ فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس ودخلوا دورهم والمسجد. لقد أصبح أبو سفيان في نهاية اليوم مدافعاً عن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، فاتحاً الطريق له.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق