الثلاثاء، 24 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 6

التقاء القبائل عام الفتح بالرسول صلى الله عليه وسلم
بمر الظهران وموقف زعماء مكة منها


وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مر الظهران، ومر الظهران على بعد (22) كيلو من مكة المكرمة، وهناك التقت الجنود من القبائل المختلفة من قبائل فزارة ومن قبائل بني سليم ومن غطفان ومزينة وجهينة ومن المدينة المنورة من كل مكان، عشرة آلاف جندي، هذه هي الطاقة الإسلامية، وهذا الوضع كنفس الوضع الذي كان في غزوة الأحزاب ولكن بصورة عكسية، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] قبل الفتح بثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو العدد لكن شتان بين الفريقين.

أراد الرسول عليه الصلاة والسلام لقريش هزيمة نفسية؛ لكي يدخل مكة بأقل الخسائر الممكنة، فأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في فكرة نبوية عبقرية رائعة أن يشعلوا النيران جميعاً، أي كل فرد منهم يشعل شعلة ويرفعها بيده، فأصبحت عشرة آلاف شعلة من النيران، فالنيران بحد ذاتها مرعبة، فإذا رآها الناس شعروا بالرهبة، وهذه الفكرة كانت مثيرة ومرعبة لأهل قريش، وشاهدوها جميعاً؛ لأن المسافة (22) كيلو بين جيش المسلمين وبين مكة فهي مسافة قريبة يستطيع أهل قريش أن يروا فيه النيران، ومع هذا كان من قريش المراقبين والجواسيس على مقربة من مر الظهران، ورأوا هذه النيران عن قرب، ومن هؤلاء أبو سفيان شخصياً،

وتصور مدى الهلع والرعب عند سيد قريش وعند زعيم مكة الذي يدفعه أن يخرج بنفسه ليراقب أحوال المسلمين، وكان معه بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكرنا قبل هذا أن بديل بن ورقاء كان صديقاً شخصياً لـ أبي سفيان ومع أن بديلاً استغاث بالرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يكن يتوقع أبداً أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش يفتح مكة المكرمة عقر دار قريش، كان كل أحلامه أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيطلب من قريش أن تدفع دية المقتولين من خزاعة، لكن الآن يشاهد جيشاً كبيراً أتى إلى مكة المكرمة.

وهنا يأتي كلام العباس رضي الله عنه وأرضاه عن هذا الموقف العجيب، وهذا في الطبراني بسند صحيح عن العباس رضي الله عنه، فـ العباس عندما رأى عشرة آلاف جندي على أبواب مكة المكرمة، ومع ذلك فـ العباس لا يزال حديث الهجرة، بل قد يكون حديث الإسلام، وقريش قبيلة قوية جداً، وإسلامها لا شك أنه أفضل من قتلها، ثم هم الرحم والأهل والعشيرة، فأول ما رأى هذا العدد يقترب من مكة المكرمة قال: وا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

فبدأ يبحث عمن يخبر قريشاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد جاء ليخرجوا ليستأمنوه، فهو الآن لا يدل على أسرار الجيش؛ لأن الجيش قد كشف أمره، فقد أشعل عشرة آلاف شعلة حول مكة المكرمة، فليس هناك أي نوع من التخفي، فالآن هو يريد لقريش أن تستأمن لنفسها، فركب بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يبحث عن أي إنسان يصل بخبر إلى مكة المكرمة، فسمع همسات من رجلين يتحدثان فأحدهما كان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً، فرد عليه صوت آخر وقال: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب.

أي: أن خزاعة جاءت لتنتقم لنفسها من قريش، فقال الأول: خزاعة! والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فسمعهم العباس بن عبد المطلب فعرف الصوت فناداهما، فكان الصوت الأول أبا سفيان والصوت الثاني بديل بن ورقاء الخزاعي، وكما ذكرنا أن بديل بن ورقاء يعيش في داخل مكة المكرمة؛ فهو لا يعرف أحوال خزاعة، وهل خزاعة جاءت بجيش أو غير خزاعة؟ المهم أن العباس رضي الله عنه لما ناداهما فعرف أبو سفيان صوته فقال: أبو الفضل؟ -أي: العباس بن عبد المطلب - فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وا صباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمنه لك، فوافق أبو سفيان دون تردد؛ لأن موقفه صعب جداً فهو زعيم قريش.

فوافق دون تردد وانصاع لنصيحة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وركب خلفه على بغلة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع بديل بن ورقاء إلى مكة المكرمة، وفي ذهابهما إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كانا كلما مرا على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فيقولون: هذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا عم الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن مرا على نار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال: من هذا؟ وقام إليه فرأى العباس ووجد خلف العباس أبا سفيان،

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منتهى القوة: أبي سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فقرر عمر بن الخطاب قتل أبو سفيان، فرأى العباس موقف عمر بن الخطاب فأسرع بأبي سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسرع عمر بن الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يصل قبل العباس، لكن العباس دخل على الرسول عليه الصلاة والسلام قبل عمر بن الخطاب، إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم قبل أن يتكلم العباس، وقال: (يا رسول الله! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه).

يعني: تاريخ طويل بين أبي سفيان وبين المسلمين، هناك حروب متتالية قادها أبو سفيان ضد المسلمين، وذكريات أليمة عند المسلمين من وراء أبي سفيان، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الموقف أراد أن ينتصر لله عز وجل ويقتل أبا سفيان، لكن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إني أجرته، ثم جلست إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخذت برأسه فقلت: لا والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه رجل من رجال بني عبد مناف، قال عمر بن الخطاب: مهلاً يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم -الذي هو أبوه شخصياً- قال عمر: وما به إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب)،

وهذا الكلام صدق من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهب به إلى رحلك يا عباس فإذا أصبح فائتني به) أي: أنه صرف أبا سفيان مع العباس بن عبد المطلب وعاد عمر بن الخطاب إلى رحله، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في القضية. فنحن نعذر عمر في موقفه؛ لأن أبا سفيان كان قد قاد الحرب ضد المسلمين في السنوات الست الأخيرة، وارجعوا إلى الحوار الذي دار بين أبي سفيان وبين المسلمين بعد غزوة أحد، لتروا مدى الشماتة التي كانت عنده في المسلمين، ومدى رضاه بالمثلة التي حدثت للشهداء، وخاصة أن المثلة حدثت في أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمزة بن عبد المطلب وحدثت في أصحابه الشهداء، وهم (70) شهيداً مثِّل بهم في غزوة أحد، وارجعوا أيضاً إلى غزوة الأحزاب ورغبة أبي سفيان الأكيدة في إهلاك جميع المسلمين، وكل هذا تاريخ طويل جداً لأبي سفيان مع المسلمين.

وإن كنا نعذر عمر في هذا التصرف وهذا العرض الذي قدّمه لقتل أبي سفيان في ذلك الوقت الذي ليس له عقد ولا عهد، إلا أن موقف العباس كان أفضل في هذا المقام لأمور:

أولاً: قد يسلم أبو سفيان ويحسن إسلامه. فكسب مسلم إلى الصف خير من قتل كافر، ونجاة إنسان من النار خير من سقوطه فيها، مهما كان هذا الإنسان.

ثانياً: أن هذا أصلح لقريش؛ لأن إسلام أبي سفيان قد يؤدي إلى إسلام قريش، فتنجو قريش بكاملها في الدنيا والآخرة، وتضاف قوة قريش إلى قوة المسلمين، وهذا نصر كبير.

ثالثاً: هذا أحفظ لدماء المسلمين؛ لأن أبا سفيان قد يمنع قريش من المقاومة، وبهذا يسهل عملية فتح مكة، أما قتل أبي سفيان فقد يثير قريشاً؛ لأنه زعيمهم، وقد يثير بني أمية، لأنه أيضاً من أكبر رءوس بني أمية، فقد تدور حرب الله عز وجل أعلم بعواقبها. ومما يؤكد أن رأي العباس كان أفضل في هذه القضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام مال إلى هذا الرأي، ولكنه تعامل صلى الله عليه وسلم مع القضية بتوازن رائع يجمع بين الترهيب والترغيب، ويجمع بين القوة والرحمة، ويجمع بين الذكاء السياسي والفقه الدعوي، فموقفه مع أبي سفيان في اليوم التالي والحوار الذي دار بينهم من أروع مواقف السيرة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق