الخميس، 19 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 4


وتولى عمرو بن العاص قيادة (500) من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وظهرت عبقريته في أكثر من خطوة، منها: أنهم أرادوا رضي الله عنهم أن يوقدوا النار لغرض التدفئة وكانت ليلة شديدة البرد، وطلبوا من عمرو بن العاص هذا الأمر فرفض رضي الله عنه، قال لهم: لا توقدوا النار، فذهب الصحابة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليتوسط عند عمرو بن العاص لإيقاد النار، فذهب أبو بكر الصديق وكلم عمرو بن العاص في إيقاد النار، فقال عمرو بن العاص بمنتهى الحزم: لا يوقد أحد منكم ناراً إلا قذفته فيها، منع كل الناس أن يقوموا بإيقاد النار، حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد تحادث في ذلك الأمر مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال أبو بكر الصديق في منتهى اليقين: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمّره على الجيش وهو أعلم .. أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بحكمته وبقدرته على إدارة الجيش، وما علينا إلا أن نسمع ونطيع ولو لم ندر ما هي الحكمة من وراء الأمر.

وحكمة عمرو بن العاص رضي الله عنه في ذلك الأمر كانت واضحة، والصحابة عندما عادوا إلى المدينة المنورة اشتكوا عمراً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك وقال: (لماذا فعلت ذلك؟ قال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم)، أي: أن الصحابة جميعهم (500)، وقبائل قضاعة أعداد ضخمة جداً، فلو أشعلوا النار وهناك أحد العيون يرقب جيش المؤمنين سوف يعلمون أن عددهم (500) فيسهل عليهم قتالهم، فلذلك منع رضي الله عنه الصحابة من إيقاد النار، وهذا فعل في منتهى الحكمة. وبعد أن التقى الصحابة رضي الله عنهم في معركة هائلة مع قضاعة، واستطاع عمرو بن العاص بخطة عسكرية بارعة أن يحقق نصراً هائلاً على قبائل قضاعة، وتتكرر من جديد صورة مصغّرة لغزوة مؤتة، فقد حقق انتصاراً كبيراً جداً بعدد قليل جداً من الرجال على مجموعة ضخمة من رجال قضاعة.

وبعد هذا الانتصار فرت قبائل قضاعة هنا وهناك، فتحمس الصحابة رضي الله عنهم جداً لهذا الأمر وأرادوا أن يتابعوا جيش قضاعة هنا وهناك، لكن عمرو بن العاص رضي الله عنه أمرهم ألا يتّبعوا جيش قضاعة الفار، فلم يستطع الصحابة أيضاً أن يخرجوا عن أمر عمرو بن العاص، لكنهم ترددوا في ذلك الأمر واحتاروا، لماذا يمنعهم عمرو بن العاص رضي الله عنه؟ ولم يقتنعوا برأيه، فلما عادوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتكوا له، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص عن ذلك الأمر؟ فقال: (يا رسول الله كرهت أن يتّبعوهم فيكون لهم مدد)، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع منه هذه الكلمات استحسن ذلك منه وأقره.


أيضاً هناك مشكلة أخرى وقعت وهي أن عمرو بن العاص رضي الله عنه احتلم في ليلة من ليالي غزوة ذات السلاسل، وكانت ليلة باردة، فأشفق رضي الله عنه أن يغتسل بالماء البارد في تلك الليلة فتيمم رضي الله عنه وصلى بالناس الصبح، فاستغرب الناس من صلاته بهم في وجود الماء متيمماً! الماء موجود لكن الجو شديد البرودة، فلما ذهب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اشتكوا له ذلك الأمر أيضاً، فقال: (يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال عمرو بن العاص: يا رسول الله! إني سمعت الله يقول: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) [النساء:29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) أي: له أربعة أشهر في الإسلام ومع ذلك يجتهد ويحسن الاجتهاد، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً وقبولاً للرأي الذي اختاره عمرو بن العاص رضي الله عنه.

ففي أكثر من مشكلة وخلاف حدث بين عمرو بن العاص وبين الصحابة، مع أن الصحابة رضي الله عنهم فيهم القدامى والسابقين، وفي كل هذه الاختلافات أقر الرسول صلى الله عليه وسلم رأي عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهذه من أعظم مناقب عمرو بن العاص رضي الله عنه ورضي عن الصحابة أجمعين. إذاً: كانت غزوة ذات السلاسل موقعة عظيمة انتصر فيها المسلمون، وازدادت سمعة الدولة الإسلامية هيبة ورهبة في قلوب الناس، وذاع صيتها في كل مكان، ومما لا شك فيه أن كل هذا سيؤدي إلى الأحداث القادمة.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق