الخميس، 19 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 8


والمشكلة الكبيرة أيضاً هي أن بني بكر تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر والجميع يقبل، وتم القتال داخل مكة البلد الحرام، وهذا أمر خطير جداً، وكان على قريش أن تؤمن كل زائري هذه المنطقة، وهذا كان عُرف قريش وعُرف الجزيرة العربية، وعُرف كل القبائل، وقانون عام على الجميع على المسلمين وعلى المشركين. لكن دخلت بنو بكر إلى داخل مكة المكرمة لتقتل خزاعة في داخل الحرم، حتى جيش بني بكر نفسه كان مستغرباً من استمرار عملية القتل في داخل الحرم، فنادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر وقالوا: يا نوفل إلهك .. إلهك، يعني: قوانين إلهك، قوانين اللات والعزى وهبل ..

وما إلى ذلك لم تشرع القتال في داخل البيت الحرام. فقال كلمة فاجرة: لا إله اليوم، ثم قال: يا بني بكر أصيبوا ثأركم. وهذه الكلمات التي تكلم بها في منتهى الخطورة. ثم قال لهم: فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تُصيبون ثأركم فيه؟ فشجّعهم على استمرار عملية القتل لتحدث الجريمة، وقريش لا تشاهد فقط، بل تساعد على هذا الأمر! وهذا انتهاك صريح للبند الثالث من بنود الحديبية، وكان في الأصل أن هذا البند لا يُكتب أصلاً، لكن كل شيء يجري بقدر.

بعد هذا الأمر قدمت خزاعة المدينة المنورة مسرعة تستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من جاء من خزاعة رجل اسمه عمرو بن سالم، وأول ما دخل أنشد بعض أبيات الشعر يشرح فيها المأساة التي تعرضت لها خزاعة، وكان مما قال: يا رب إني ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم وُلداً وكنا والداً ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصراً أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفاً وجهه تربدا إلى آخر الأبيات، وفي هذه الأبيات نلاحظ أن عمرو بن سالم كان قد أسلم عند قول هذه الأبيات، لكن معظم خزاعة لم يكونوا قد أسلموا بعد، والقتلى كان فيهم من المسلمين وكان فيهم من المشركين.


والرسول عليه الصلاة والسلام عندما استمع لهذه الأبيات لم يتردد لحظة واحدة، إنما قال في منتهى الثبات: (نُصرت يا عمرو بن سالم)، نعم هو لم يحدد في هذه اللحظة الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه قرر النصرة في لحظة واحدة؛ لأن الذي بينه وبين قبيلة خزاعة صلح واتفاقية وحلف، وهذا بغض النظر عن كون خزاعة مسلمة أو مشركة، لكن الحلف بينهم وبين المسلمين يقضي أن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا اعتدي على حرمات أحد الطرفين.

والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا القرار في منتهى الجدية، ولا شك أن هذا يُعطي ثقة للمتحالفين، ويعرّف الحلفاء المشركين أخلاق المسلمين، بأني إذا اتفقت معك أن أدافع عنك إذا أصابك مكروه فسوف أدافع عنك، حتى وإن كان هذا الدفاع سيصيبني بأذى كبير.

إذاً: كان هذا موقف عمرو بن سالم ورد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم يأتي بديل بن ورقاء الخزاعي، والاسم هذا ليس غريباً، فقد مر علينا أيام صلح الحديبية. أرسلت قريش بديلاً ليقوم بالمعاهدات والمفاوضات بينها وبين المسلمين، كان وسيطاً بين قبيلة قريش وبين جيش المسلمين، أي: أن بديل بن ورقاء رجل صديق لقريش، مع أن بديل بن ورقاء من خزاعة إلا أنه كان يعيش في داخل مكة، لكن في هذا الوقت الإصابة إصابة شخصية له؛ لأن قبيلة بديل هي التي أُصيبت في داخل الحرم، فالآن بديل يتجه ليشكو للرسول صلى الله عليه وسلم،

وهذا أمر غريب جداً؛ لأن بديلاً في ذلك الوقت كان مشركاً باتفاق، فهو لم يسلم إلا بعد فتح مكة، وفي ذلك الوقت لا يزال يعيش في داخل مكة المكرمة، ومصالح بديل بكاملها من تجارة وغيرها في داخل مكة المكرمة، بل إن بديلاً كان صديقاً شخصياً لأبي سفيان الذي هو زعيم مكة المكرمة، ومع ذلك عندما أُصيب في قبيلته ذهب ليشكو عند من لا تضيع عنده الحقوق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يذهب إلى أبي سفيان ويقول له: إن قبيلتك فعلت كذا وكذا، فرد لنا الاعتبار وادفعوا ديات قتلانا، لكنه ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يعلم أنه لن يضيع عنده حق، بل تضيع كل الحقوق عند قريش وعند المشركين.

وعندما ذهب بديل للرسول عليه الصلاة والسلام، كان أقصى أحلام بديل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الدية من قريش، أو أن يقتل من بني بكر ما يوازي من قُتل من خزاعة، لكن لم يكن يخطر على باله أبداً أن الرسول عليه الصلاة والسلام يفكر في فتح مكة، لكنه دُفع إلى هناك ليكون سبباً من الأسباب التي تؤدي إلى فتح مكة. أمر غريب جداً وعجيب! لكنه يحدث ونراه، ليأتي النصر من حيث لا نحتسب، مع أن بديلاً مشرك ولم يؤمن بالإسلام حتى هذه اللحظة، وهو غير مقتنع بهذا الدين، ولعله يكره تماماً أن تُفتح مكة بالإسلام، لكن قاده رب العالمين سبحانه وتعالى إلى المدينة المنورة ليستغيث بالرسول عليه الصلاة والسلام ليكون سبباً في فتح مكة بالإسلام، موافقة عجيبة جداً، يحدث النصر في النهاية بطريقة لا يحسب حسابها أحد من المسلمين ولا من المشركين.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق