الخميس، 19 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 6


سنن التغيير والنصر والتمكين المستنبطة من فتح مكة


أنا أريد أن أستغل هذا الحدث لأتكلم معكم عن بعض سنن التغيير وسنن النصر والتمكين في الأرض، وجميعها سنستخلصها من فتح مكة.


حكمة الله تعالى في تقدير الأمور بأزمانها

السنَّةُ الأولى: هو أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده، وانظروا مرت (21) سنة من أصل (23) سنة من عمر البعثة بكاملها واللات والعزى ومناة وهبل تعبد من دون الله عز وجل في داخل مكة المكرمة.

البعض كان يتمنى ويقول: يا ليت مكة فُتحت مبكراً، والرسول صلى الله عليه وسلم حكم الدولة الإسلامية الواسعة فترة طويلة من الزمان؛ لنرى فعله وحكمه وأثره صلى الله عليه وسلم على العالمين وهو ممكن في الأرض، لكن لو حدث هذا فقد تكون مخالفة للسنة الإلهية، فهذا لا يكون أبداً: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. فرب العالمين سبحانه كان قادراً أن يفتح مكة من أول لحظات الدعوة، وأن يجعل أهل مكة جميعاً مؤمنين من أول لحظات الدعوة، وعلى الأقل بعد سنة أو سنتين من بناء الدولة في المدينة المنورة، لكن هذا الانتظار الطويل؛ لكي نعلم جميعاً أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده.

وهذا الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى محاضرة خاصة، إن شاء الله سنفرد له محاضرة بعنوان: استعجال النصر، وسنتكلم فيها عن مشكلة العجلة التي عند المسلمين في رؤية التمكين والسيادة لدين الله عز وجل في الأرض. وتغيير المنكر يحتاج إلى وقت وإلى حكمة ويحتاج إلى تدرج، وهكذا رأينا في السيرة النبوية، وهذه أول سنة من السنن الثوابت.


مجيء التغيير والنصر والتمكين للمسلمين
من حيث لا يحتسبون

السنة الثانية: يأتي التغيير ويأتي النصر ويأتي التمكين من حيث لا يحتسب المسلمون، أي: أنه لو راود المسلمين حلم أن يفتحوا مكة كيف سيفكّرون في هذا الأمر؟ من المؤكد أنهم سيضعون سيناريو لهذا الأمر، ولو وضع المسلمون ألف سيناريو للتغيير ولفتح مكة سيأتي التغيير بالسيناريو رقم (1001). أي: أن هناك سيناريوهات متوقعة لكي نفتح مكة، مثلاً: أن تخالف قريش عن طريق غزوها المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو تحاول قريش قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تتعدى قريش على قافلة إسلامية، أو تنتهي السنوات العشر سنوات الهدنة فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة!

فهناك افتراضات كثيرة جداً، لكن لم يحدث الفتح بأي أمر من هذه الأمور، ولا بأي شيء خطر على ذهن أي مسلم، لكن حصل شيء غريب جداً وهو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى فتم الفتح للمؤمنين، سبحان الله ما علاقة هذا بهذا؟! إذاً: هذا الذي حصل فعلاً في فتح مكة، ولنأتي لنراجع الأحداث: في صلح الحديبية كان من بنود الصلح البند الثالث في الصلح هو: أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين انضمت، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش انضمت، فبعد انتهاء المعاهدة دخلت خزاعة في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وهذا الدخول لهاتين القبيلتين في قضية المعاهدة هو الذي كان سبباً في فتح مكة المكرمة، أي: أن القضية كانت بين المسلمين وبين قريش، فخزاعة وبنو بكر ليس لهما أي دخل في القضية، ومع ذلك دخولهما في الحلف المعاهدة هو الذي سيؤدي للفتح كما سنرى.

ودخول خزاعة في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام أمر يحتاج إلى وقفة؛ لأن الله سبحانه وتعالى دفع خزاعة دفعاً للدخول في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وخزاعة قبيلة مشركة، نعم هناك علاقات قديمة حميمة بين خزاعة وبين بني هاشم، لكن كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف المشركين من بني هاشم، وليس في حلف المسلمين من بني هاشم؛ لأن خزاعة مشركة دينها كدين قريش، فلماذا تترك بني هاشم المشركة وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذا أمر عجيب فعلاً! وهذا الدخول العجيب لخزاعة مع حلف المسلمين هو الذي سيؤدي بعد ذلك إلى نتائج كبيرة جداً منها فتح مكة.


وعندما نراجع قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة نجد أن قبيلة بني بكر وقبيلة خزاعة كان بينهما ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر إلى الدخول في حلف قريش، فعندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين دخلت بنو بكر في الحلف المعاكس؛ لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل ما يكون، بدليل أن قريشاً عندما خرجت من مكة المكرمة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة المكرمة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك يقول لهم: إني جار لكم من كنانة، وكنانة تشمل بني بكر، فالقصة معقدة جداً، وأحداث القصة فعلاً لا يمكن أن تفسر إلا أن الله عز وجل أراد لها أن تتم على هذه الصورة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق